سامر محمد اسماعيل: الطريق بطل رواية “احتضار الفَرَس” للسوري خليل صويلح

0

ألف كيلو متر وإحدى وعشرون ساعة يقطعها راوي خليل صويلح ذهاباً وإياباً بين الحسكة ودمشق في روايته الجديدة “احتضار الفَرَس”. الطريق الذي جعله الروائي السوري بطلاً درامياً دفعه إلى مخاتلات فنية عديدة، فحوّله معادلاً فنياً لمسالك سردية تلتوي وتستقيم وفقاً لمنعرجات الطريق وتفرعاته، وكذلك ذريعةً لتسجيل سيرة ذاتية يكون فيها الشخصي جزءاً من المتن الحكائي لبلاد فتكت الحرب بأوصالها، وتوريةً ناجزة في التوفيق بين أزمنةٍ وأمكنة متعددة ومتباعدة استهلها صويلح بصدر بيت شعري لأبي تمام “لا أنتَ أنتَ ولا الديارُ ديارُ”، وجاء هنا كعتبة ناجعة لروايته الصادرة حديثاً (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر – بيروت).

يحيلنا صاحب “ورّاق الحب” منذ البداية إلى تجاور مقصود مع سحر رواية “بيدرو بارامو” لخوان رولفو (1917-1986) عرّاب الواقعية السحرية في أدب أميركا اللاتينية، ففي اللحظة الأخيرة من موعد سفر الراوي الطارئ إلى قريته بُعيد إخباره بوفاة والدته، يضع رواية الكاتب المكسيكي في حقيبته متجاهلاً أنه قرأها مرتين، لكنه هذه المرة يعيشها واقعياً.

في الرواية المكسيكية يعود بيدرو بارامو إلى قريته كومالا تنفيذاً لوصية أُمِّه بضرورة أن يبحث عن أبيه الذي لا يعرفه بمجرد موتها، ليكتشف بأنه يتجول في قرية أشباح يتحاور فيها الموتى كما لو أنهم أحياء، ويكتشف أن أفراد عائلته ماتوا جميعاً بعمر الثالثة والثلاثين. وبينما يعود بيدرو بارامو إلى مسقط رأسه وهو يحمل صورة فوتوغرافية لأُمِّه لكي يذكّر الآخرين بها، يذهب راوي صويلح إلى قريته الشمسانية وهو لا يملك صورةً واحدة لوالدته، إذ لم يفكر ولو لمرة أن يأخذ صورة لها للذكرى ظناً منه بأن ذلك يبعد شبح الفقدان عنها.

بين الشمسانية وكومالا

رواية خوان رولفو لا تتوقف عند إشارات محددة، بل تتعداها إلى تشابك الوقائع مع رحلة صويلح، فقد كانت الشمسانية لحظة وصول الراوي إليها نسخة أُخرى من قرية كومالا المكسيكية، مجرد أطلال وخرائب بعد أن نخرت الملوحة أرواح البيوت وجدرانها الطينية القديمة والمتاخمة للحقول الزراعية، فهجرها أصحابها شرقاً كما لو أنهم يحنّون إلى الجهة التي جاؤوا منها قبل 100 عام ليستقروا على كتف النهر، من دون أن ينسوا بداوتهم الأولى.

كانت علاقة الراوي مع الكاتب المكسيكي – كما يخبرنا – قد تطورت على مراحل، وبنسب متفاوتة من الحميمية، خصوصاً إثر تزكية هذه الرواية من غابرييل غارسيا ماركيز الذي يذكر بأن ألفارو ماتيس جاءه ذات يوم، وأخرج كتاباً صغيراً من جيب معطفه وقال له: “خذ، اقرأ وتعلّم”. كان الكتاب هو “بيدرو بارامو” لخوان رولفو، الرواية التي فتحت الطريق أمام ماركيز لكتابة رائعته “مئة عام من العزلة”.

يعود طيف الروائي خوان رولفو في مواضع عديدة من “احتضار الفَرَس”، فيقفز إلى داخل الحافلة التي تُقلّ الراوي بخفة، ويتجه من دون أن يلحظه أحد، ويجلس في المقعد المجاور للراوي، المقعد الذي بقي شاغراً بعد أن اعتُقل معجّل السرحان قنّاص الطيور الذي كان يجلس إلى جانب الراوي طيلة الرحلة بين الحكسة ودمشق. يدور حوار خفي بين رولفو وصويلح، إذ كان الروائي المكسيكي يردد بصوتٍ خفيض شيئاً ما عن اللحظات الأخيرة من احتضار بطله بيدرو بارامو. بالنسبة إلى الروائي السوري كان مشهد ذراع مبتورة قد ورد في سياق قصة وصلته بالبريد، عن أبٍ يدفن ابنه تحت شجرة زيتون مع ذراعٍ إضافية كتعويض عن جثمان ابنه الذي وصله برأس مقطوع. حادثة حقيقية مشابهة كانت أمراً كارثياً لا يحتمل، يجيبه رولفو: “كان عليه أن يلتحق بأسلافه بعد أن ضجر من خوض الحروب” (ص-45).  

مشاهد بين التاريخ والحرب

يمضي بنا صاحب “عزلة الحلزون” في طائرة شحن عسكرية (إليوشن) من دمشق إلى القامشلي، تنطلق الطائرة برفقة مرضى وجنود وتوابيت موتى يجب أن تصل إلى مطار القامشلي، ومنها يذهب الراوي بنا براً نحو مسقط رأسه في ناحية الشدادي جنوب الحسكة، ماراً بنا في القرى الآشورية المدمّرة والكنائس المهدّمة، والتنظيمات والأحزاب الكردية المتضاربة، وصولاً إلى مخيم الهول (45 كلم شرق مدينة الحسكة). رحلة مضنية ودروب ترابية متعرجة وعواصف رملية وصولاً إلى مقبرة الأم، حيث لا شواهد للموتى هناك، لكن الراوي يستذكر وقتها كيف ماتت فَرَس الجد الشقراء بُعيد ليلة من موت فارسها وحزناً عليه: “يذكر الرواة أن الفرس ظلت تطلق صهيلاً خافتاً ووقع حوافر كان يسمعه العابرون قرب المقبرة ليلاً” (ص-21).

في بلاد جرّبت فنون الموت جميعها كانت الدروب الترابية تتقاطع مع طريق الإسفلت متناثرةً مع شجيرات الحرمل البري والسحالي وممالك النمل، وآثار حوافر حمير رعاة الأغنام، وبينها وادٍ يفصل بحيرات مناجم الملح عن حقول القمح، الوادي الذي كان شهد مذبحة قديمة للأرمن إثر مطاردة الأتراك لجموع الهاربين من ظلم الدولة العثمانية، ليرقد فيه رفات آلاف الموتى في مقابر جماعية بما عرف في المنطقة بـ”خفسة الأرمن”.

يقدم صويلح ما يشبه تصويراً تسجيلياً للأمكنة التي افترستها الحرب، ويغلّب الوصف أحياناً على حساب السرد في طريق عودته إلى دمشق، راصداً الأضواء الكابية التي تنبعث من المحال واستراحات الطرق العامة ودوريات الدولة الإسلامية، التنظيم الذي رسم منذ عام 2014 خريطة احتلاله لقرى وبلدات ومدن في الشمال السوري على هيئة رؤوس معلّقة عند مفارق الطرق، وأجساد مصلوبة في مراكز المدن، وصولاً إلى النقطة الإستراتيجية لأكبر مركز لآبار النفط السورية، الذي تحول فيما بعد إلى قاعدة أميركية بعد تحريره على يد المليشيات الكردية، فمن قاعدة رميلان شمالاً إلى معبر التنف قرب الحدود مع الأردن جنوباً، بات منظر الحوامات الأميركية مألوفاً هناك وسط قرى متروكة في العراء لبطش المافيات الأمنية المتحاربة سراً في اقتسام الغنائم.

طريق تدمر – دمشق

تتوقف حركة السفر على طريق تدمر- دمشق، الطريق الذي كان يختزل المسافة إلى النصف ما قبل سنوات الحرب، مخترقاً رمال الصحراء وخيم البدو الرّحل وقوافل الجِمال. الآن يسلك الراوي طريقاً طويلاً يبدأ من مدينة الحسكة باتجاه تل تمر إلى تل أبيض وعين عيسى في ريف مدينة الرقة، ومروراً بعين العرب ومنبج، على الشريط الحدودي السوري التركي، وعبوراً بمدينة حلب نحو دمشق. إحدى وعشرين ساعة من الجحيم والخوف والريبة تخضع لأمزجة القائمين على “حواجز الصيد”، كما يطلق عليها سائقو الحافلات التي تعبرها، فكل ميليشيا على هذه الطريق لها كمائنها التي تتقاسم الغنائم بالكيلو متر.

رحلة تيه لانهائية في “مستعمرة العقوبات” والطغيان والهويات المغيّبة قسراً، وجنّة النهب بجرعة عالية من العسف الحكومي. كان صويلح يستعيد تضاريس المكان بضمير المتكلم وفق ما اختزنته ذاكرته من دروب وجسور ومنعطفات، من خلال جولات صحافية قديمة قادته يوماً إلى الحدود التركية شمالاً، فعبر في الظلام طريقاً بمحاذاة عفرين. المدينة التي استولى عليها الأتراك وهجّروا سكانها الأكراد لمصلحة غرباء احتلوا بيوت أهلها وحقول زيتونها، ونهبوا آثارها القديمة، وحطموا التماثيل البازلتية، والمنحوتات النادرة التي تعود إلى الألفية الأولى قبل الميلاد في مواقع النبي هوري وبرج عبدالو وتل جنديرس ومعبد عين دارة.

الاستراحات على جانبي الطريق كانت تهدف إلى تأمل بقايا الطلقات والقذائف الصاروخية، شمس ملتهبة تذيب الإسفلت والأدمغة وأجهزة قياس درجة الحرارة بمجرد شروقها، وكائنات تظهر وتختفي في سراب الظهيرة تلفها عواصف العجاج، ونباتات عبّاد الشمس تحني أعناقها إلى ما قبل موعد الغروب بقليل، بدو وجنود ومتسولون وباعة فستق حلبي وجوز. الطرق والبلدات المحاذية للطريق كانت مكاناً لحوادث خطف ومصادرات وتهريب أسلحة، بلاد وبلدات كانت الحافلة تعبرها خطفاً، وصولاً إلى بلدة معرة النعمان. كانت الصورة التي داهمت الراوي على الفور هي تمثال أبي العلاء المعري، وقد جزّ التكفيريون عنقه بآلة قص الحجارة، فيما بقي جسده منتصباً تدثّره عباءة بإزميل النحات السوري فتحي قباوة. ولكن من يستطيع محو 10751 بيتاً شعرياً أوردها في “لزومياته”، أو أن يدفن “رسالة الغفران” في حفرة؟

اجتازت الحافلة مكان الجريمة فيما سلك الراوي طريقاً متخيلاً إلى ما قبل زمن الحرب السورية، وتحديداً في رحلة مع الأصدقاء نحو مدينة تدمر، محطة منتصف الطريق إلى الحسكة مروراً بالبادية والفرات. قهوة وتبغ لمدة عشرين دقيقة في مدينة الشمس، كانت في تلك الأيام تخطف الزائر العابر، وتعود به إلى ألفي عام من التاريخ الحيّ. صدى أوركسترا سحرية ينبعث من المدرج الأثري ومعبد بل، وأعمدة الشارع الطويل وأقواسه، ووادي القبور والمدافن الملكية في آنٍ واحد. متحف مفتوح على الضوء في عمق الصحراء وصولاً إلى ظهيرة يوم 13 مايو (أيار) عام 2015، وهجوم جحافل من عربات ذات الدفع الرباعي ترفع راياتٍ سوداً، ومدافع رشاشة مقبلةً من طريق البادية نحو المدينة. وهنا يستذكر صويلح حادثة اغتيال عالم الآثار خالد الأسعد، حارس المدينة الأثرية الذي رفض مغادرتها وتسليم نفائسها، إلى أن أعدمته داعش بفصل رأسه عن جسده في 18 أغسطس (آب) عام 2015.

موسيقى كلاسيكية وأشورية

غرفة مظلمة وأصوات كانت تضج في رأس الراوي، موسيقى باخ على المدرج الروماني لتدمر، وإغراق أسرى مجهولين في قاع بحيرة، وأغنية آشورية عن الفقدان، وأنين امرأة مريضة تدعى عنود أيقظها زوجها في المقعد الموازي لمقعد الراوي لتناول الدواء فوجدها ميتة. تتعطل الحافلة عند مفرق بلدة معلولا، فتعود ذكريات عن إحراق الكنائس، والهجوم على دير سيدة صيدنايا (30 كلم شمال غربي دمشق) وإحراق الكنيسة السريانية فيها. ثم تتوقف قافلة الرواية عند سجن صيدنايا ومذكرات سجناء ومعتقلين سياسيين قضوا تحت التعذيب، ليصيح أحد أفراد الرحلة من رفاقه الشيوعيين موقفاً الحافلة: “قف. قف. هنا يقبع سجن صيدنايا. السجن الذي غرز أنيابه المسمومة في روحي، وفي جسدي المعطوب ثلاث سنوات، وسبعة أشهر، وخمسة أيام، ثم ألقى بي في مكب الزبالة. أجل أنا زبالة بشرية” (ص-62).

مع وصول الحافلة إلى دمشق يختفي طيف المكسيكي خوان رولفو، ليسرد صويلح ما يشبه يوميات عن أصداء الرحلة في روحه، وأثرها في ملامساته لمدينة دمشق التي تحتضر كفَرَس جدِّه الشقراء، بعد اغتيال مكتباتها الشهيرة، ورحيل شخصيات ثقافية وفكرية عنها في أوج غضبها وشعورها بالمرارة. تحضر هنا بأسماء مستعارة من مثل نوح شعبان (الشاعر بندر عبد الحميد)، ويوسف سرّاج (الشاعر إبراهيم جرادي). ويورد صويلح عدداً من المقولات لأدباء محليين وعرب وأجانب من مثل ابن عربي وبيسوا وكافكا ودعد حداد ومحمود درويش ورياض الصالح الحسين وأوكتافيو باث وجورج أورويل وإميل سيوران وألبير كامو.

لكن من يملك الحقوق الحصرية للرواية بوقائعها الكاملة في بلاد ممزقة إلى أشلاء، وهل هناك حكاية واحدة تروى بيقين تام؟ يؤكد صويلح أن لا حكواتي نزيهاً اليوم، والدليل ما يورده الروائي السوري من بيانات الانقلابات العسكرية التي تعاقبت على تقاسم خريطة البلاد الممزقة منذ أربعينيات القرن الفائت (ص- 117)، وصولاً إلى قصة جابر عرابي المصور الفوتوغرافي الذي تحول بيته إلى ماخور (ص- 128) لتجار الحرب بعد موته، ووقوع جريمة قتل إحدى فتيات الرغبة في الشقة التي تقع في الطبقة التي تعلو بيت الراوي في شارع العابد في دمشق. في تلك الليلة وقعت جريمة في 4 يوليو (تموز) 2021 (ص- 107)، بحيث قام أفراد من عشيرة في الريف الشمالي السوري بقتل فتاة بداعي الشرف تدعى عيدة الحمودي رمياً بالرصاص، بينما يحضر طيف دلال شاكر صديقة الراوي التي انتحرت بعد أن أهدته لوحة لرسم بومة بعينين ملطختين بالأسود. “كانت لحظة أفول لبلاد على هيئة ذبيحة منزوعة الأحشاء معلّقة بكلّاب صدئ من القامشلي في أقصى الشمال إلى مدرج بصرى في الجنوب” (ص- 158).

*اندبندنت