لم يكن العالم العربي، يومًا من الأيام، أشد غليانًا أكثر مما هو عليه اليوم: ثوراتٌ واحتجاجاتٌ شعبيةٌ عارمةٌ في كل من تونس، ومصر، وليبيا، والأردن، وسورية، والبحرين، واليمن، والمغرب، وفلسطين، في الموجة الأولى، والسودان، والجزائر، ولبنان، والعراق، في الموجة الثانية، ناهيك عن حراكات للمجتمع المدني في بعض دول الخليج. وكل هذه الثورات تطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة والمساواة وإنهاء الاستبداد وعنف الدولة الوطنية. وقد تدافع الباحثون والمحللون على التركيز على “الفشل” السياسي لهذه الثورات وكيف لعب الجيوبوليتيك دورا حاسمًا في الفشل وفي خلق ثوراتٍ مضادةٍ، مستخدمين العسكر حينًا، وبعض القوى السياسية في أحيان أخرى. ناهيك عن النظر الى هذه الثورات بطرح ماويٍّ، يقسم التناقضات في المجتمع الى تناقضٍ رئيسٍ وتناقضٍ ثانويٍّ، ليحنط المجتمع فيه لمددٍ قد تصل إلى القرن. وهكذا تصبح الثورات الشعبية ضد أنظمة الاستبداد تناقضًا ثانويًّا، أما مقاومة الإمبريالية العالمية (الغربية) وإسرائيل فهي التي تعتبر التناقض الرئيس منذ 1948 حتى اليوم، و”لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.
بعيدًا عن هذه التحليلات السياسية لهذه الثورات، نحن أمام كتابٍ، “في المفاهيم المعيارية الكثيفة: العلمانية، الإسلام (السياسي)، تجديد الخطاب الديني” (2022، الشبكة العربية للنشر والبحث)، يؤمن أن هناك دينامياتٍ داخليةً ومحليةً جعلت من هذه الثورات لحظات “معرفية” هامة، حيث انتقل الجدل من صالونات فكرية ضيقة الى جدل مجتمعي حول قضايا في غاية الأهمية مثل العلمانية، الإسلاموية، الإسلام السياسي، تجديد الخطاب الديني، إلخ. هذا العمل الفلسفي والفكري المبدع من الباحث السوري حسام الدين درويش هو محاولة لفهم الشروخ بين نخبٍ تتخاصم، وفي أحسن الأحوال، تتجاهل الواحدة الأخرى، ولا تتحدَّث معها. إنه أيضا عمل للخروج من رؤى ثقافوية، فهو على حق بتبيانه لمحدودية الأطروحة القائلة بأن “إصلاح أو تجديد الخطاب الديني هو الطريق أو الشرط الممكن و/ أو الضروري لتحقيق الإصلاح السياسي الساعي إلى الديمقراطية”. فبحسب درويش “الإصلاح السياسي والاقتصادي هو شرطٌ للإصلاح أو التجديد الديني، لا العكس. وفي ’أحسن الأحوال‘، يمكن تخيُّل أو تصوُّر إمكانية الإصلاحات المتوازية والمتكاملة، في المجالات الثلاث المذكورة”.
أهمية الكتاب تكمن في إطاره النظري الذي ينطلق من التداخل والتشابك بين البعدين الوصفي والمعياري في المفاهيم المعيارية الكثيفة؛ وكل المفاهيم التي تناولها الكتاب هي كذلك. وبالتالي، يكتب درويش: “لم يعد السؤال يتعلق بكيفية الحفاظ على المعرفة والوصف “نقيةً” وخالصةً من كل شوائب الأيديولوجيا والتقييم، وإنما عن كيفية التفاعل الإيجابي بين الطرفين، والحد من الآثار السلبية لهذا التفاعل، قدر المستطاع”. إن اعتبار هذه المفاهيم كذلك ضرورة لتفكيك الثنائيات المانوية الحادة من شاكلة شرق/غرب، علماني/ديني، والتي وقع فيها الحداثيون والإسلاميون على حدٍّ سواءٍ. فمثلًا، يتبنى حسام الدين درويش أطروحة ضرورة تفكيك التقابل التناحري بين مفهومي الدولة العلمانية/ العلمانوية والدولة الدينية/ الإسلاموية، وبحث مدى إمكانية أن يحصل هذا التفكيك والتجاوز، بوساطة مفهوم “الدولة المدنية”. ويشدد درويش على أن الثنائيات التي تتأسس عليها مفاهيمه التحليلية ليست مثنوياتٍ يقصي كل طرف منها ولذا ينتصر لمصطلح “الدولة المدنية” باعتباره تركيبًا من مفهومي “الدولة العلمانية” و”الدولة الدينية”، ومغايرًا ومتجاوزًا لكليهما، في الوقت نفسه.
الكتاب غنيٌّ جدًّا في تفكيك وأَفْهَمة مفاهيم كثيرة تدور حول العلمانية، والإسلام السياسي، وتجديد الخطاب الديني، ويقوم خاصة بعمل جنيولوجيٍّ مهمٍّ حول كيفية دخول التفكير في العلمانية الى العالم العربي وتشكل الموقف العلمانوي، من خلال نص بطرس البستاني “نفير سورية”. وأنا أتفق تمامًا مع درويش، من الناحية الأيديولوجية، أنه “في المجال السياسي، على الأقل، السمة العلمانية (أو الدينية) ليست، و/ أو ينبغي ألا تكون، غايةً أو قيمةً إيجابيةً (أو سلبيةً)، بحد ذاتها. فقيمتها (الإيجابية) مستمدة من مدى تضمنها لقيم الديمقراطية، من حريةٍ وفرديةٍ وتعدديةٍ ومساواةٍ وقوانين عادلةٍ ومواطنةٍ”. لذا اعتبر أن هذه القيم الليبرالية هي غايةٌ، بينما العلمانية الهنية/التمايزية (كما أحب تسميتها) هي آليةٌ للوصول إلى هذه القيم، أكثر منها قيمةً بحد ذاتها.
لن أحرم القارئ من متعة متباطئة على هدى، في اكتشاف هذا العمل الكثيف، لذا، لن أقوم بتلخيص الكتاب هنا أو استعراضه. بدل ذلك، سأقوم بإظهار تبايناتٍ صغيرةٍ، بيني وبين درويش (وهو ما نحب أن نعمله نحن معشر الأكاديميين بدل التركيز على ما هو مشتركٌ بيننا!) في أفهمة بعض المفاهيم، لأسباب بعضها لغرض الوضوح، وبعضها لأسبابٍ استراتيجيةٍ/عمليةٍ، أي لأخذ مسافةٍ من كيفية استخدام هذه المفاهيم في المجال العام العربي، وإدخال مفاهيم جديدةٍ قابلة للتعامل معها. سأكتفي هنا بالدفاع عن استخدام مصطلح “العلمانية الهنية/ التمايزية”، بدلًا من “الدولة المدنية”، واستخدام حركاتٍ إسلاميةٍ، بدلًا من الإسلام السياسي.
حول النقطة الأولى، يفضل درويش استخدام “الدولة المدنية” وربما هو على حق، حيث أن كلمة العلمانية لها ليس فقط تاريخٌ مربوطٌ باستبداد الدول العربية والإسلاماتية، وبعض نخبها، ولكن الكلمة مربوطةٌ أيضًا بفهم هذه النخب للعلمانية، بشكلٍ أحاديٍّ، وهو الشكل الفرنسي (laicité)، (والتي تكاد أن تكون دينًا مدنيًّا، ضد الأديان الأخرى، حينًا، أو فرض تعريفٍ وتوصيفٍ مسيحيٍّ، للدين على الديانات الأخرى، لتصبح هذه الأخيرة مقبولةً من الدولة). ولكنني أرى أن لا مفر من استخدام تعبيرٍ فيه شيءٌ من الكونية، وهو العلمانية، ولكن بعد إضافة نعتٍ لها. أرى بوضوح أن مضمون “الدولة المدنية” كما يريدها درويش تتقاطع كثيرًا مع مفهوم العلمانية الهنية أو التمايزية التي أتبناها. ومن المفارقة أن درويش الباحث المشارك في جامعة لايبزيغ له الشجاعة برفض المصطلح الغربي (العلمانية)، بينما أقوم أنا، القابع في بيروت، بتبنيه (مع توصيفٍ تخفيفيٍّ) ولكن ربما جمهوري الكوني (فأنا رئيس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع) يجعلني حريصًا على البدء بالمصطلح الكوني (universal concept)، قبل القيام بعملية التَبْيئَة. دعوني أوضح كيف أفهم العلمانية.
لقد تأثرت العلوم الاجتماعية كثيرًا في براديغم العلمنة ليُفهم الدين على أنه مجالٌ اجتماعيٌّ منفصلٌ. أنا أنتمي إلى علم الاجتماع غير النفعي الذي يرفض أن يرى المجتمع متمايزًا في أقسامٍ منفصلةٍ، أحدها الدين. يتم اجتياز مجالات الدين والثقافة والسياسة والاجتماعية والاقتصاد، من خلال المنطق المشترك (هذا المنطق يمكن أن يكون رؤيةً للعالم، أو شيئًا أكثر ماديةً، كالمصلحة الفردية، أو أكثر علائقيةً، كحب الإنسان للعطاء والتضامن مع الآخر) الذي يسمح لمجتمعٍ معينٍ بأن يتم تضمينه في مجمله، تمامًا كما فعل رواد علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، منذ بداية القرن العشرين، كمارسيل موس وكارل بولاني. بسبب نهج التمايز الفصلي هذا، هناك الكثير من سوء التفاهم بين العلماني مقابل الديني، والديني والمجالات الأخرى (1). أنا لست مع الفصل بين الدين والدولة، ولكن مع المحافظة على مسافةٍ آمنةٍ ومناسبةٍ بينهما، بحيث لا تتهدد المساواة بين المواطنين وحرياتهم الفردية والجماعاتية، وأنا مع حدٍّ أدنى من حيادية الدولة، بالنسبة إلى تعددية مفهوم الخير، والذي غالبًا ما يستند إلى الأخلاق المستمدة من مصادر مختلفةٍ، كالدين والتراث والعادات والتقاليد، ولكن أيضًا من الإنسانية، من خلال العولمة (2). وتتحدد هذه المسافة، حسب السياق. فمثلًا، قد لا يكون هناك إشكال في العلمانية التمايزية، في تونس، في أن ينص الدستور، كما في المادة الأولى، “تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها”، طالما أن الأكثرية (ولو بالحد الأدنى، أي ثقافيًّا) هم مسلمون، وطالما أن هناك مادةً أخرى حول حرية المعتقد. بينما لن يكون ذلك مناسبًا لاعتبار إسرائيل دولةً يهوديةً، طالما أن ربع السكان تقريبًا غير يهود، إضافةً الى الإشكال التاريخي الاستعماري لنشأة هذه الدولة. وكذلك، أنا لست مع الفصل بين السياسة والدين، وإنما التمايز بينهما، والتمييز بين دور الداعية ودور السياسي. ويكون ذلك ممكنًا، حين يدخل الدين الى السياسة، ليس من باب الممارسة التقنية للسياسة، وإنما من باب الأخلاق، حيث سيؤثر الدين على الحجج الأخلاقية التي تطرح في المجال العام، قبل تبني تشريعٍ مدنيٍّ للمواطنين. دعوني أفصِّل هنا حول هذه النقطة.
للتنظير للعلمانية الهنية/التمايزية، أتبنى منهجًا قد طورته في كتابي الأخير “علوم الشرع والعلوم الاجتماعية: نحو تجاوز القطيعة- أليس الصبح بقريب” (3)، وسميته “الفصل والوصل والفعل التعددي”. لقد استفدت من الباحث المصري سمير أبو زيد، في منهج “الفصل والوصل”، وقد طورته بشكل أكثر تعقيدًا. المنهج يحترم إبستمولوجية علوم الشرع وإبستمولوجية العلوم الأخرى، وذلك لضمان موضوعية العلم، وفي الوقت نفسِه، نظرة الذات إلى العالم، فلا تطغى الجوانب الاعتقادية والدينية على العلم، ولا يتجاوز العلم حدودَهُ الإبستمولوجية، على حساب الجوانب المعيارية الأخلاقية المستمدَّة من الدين وغيره. ولا يتعلَّق هذا بالعالم الإسلامي فقط، ولكن بأي سياقٍ ثقافيٍّ أو دينيٍّ. ولا يكون منهج “الفصل والوصل والفعل التعددي” على مستوى مفهوم العلم العام، ولا حتى على مستوى الاختصاص العلمي فقط، وإنّما على مستوى الموضوع العلمي المحدَّد. ويقوم هذا المنهج على أربع خطواتٍ أساسية: الأولى، تحديد الموضوع العلمي محلّ البحث: فإذا كان قضيةً علميةً بحتةً تُستخدم المناهج العلمية الخاصَّة بمجاله، وإذا كان قضيةً علميةً دينيةً مشتركةً ننتقل إلى الخطوة التي تليها؛ الثانية، تحليل الموضوع “العلمي- الديني” المشترك إلى قضيةٍ علميةٍ وقضيةٍ دينيةٍ، كل في مجالها، بشكلٍ كاملٍ؛ أما الثالثة فهي إنشاء علاقةٍ بين القضيتَيْن، بناءً على النظرة السائدة إلى العالم في مجتمعٍ ما، والتي غالبًا تكون متعدِّدةً (لذا أنا أفضل المفهوم الفينومينولوجي ميادين الحياة، lifeworlds (4) ، بدل رؤية للعالم). وأخيرًا، اختيار فعلٍ تعدديٍّ، حسب المستهدف (مثلًا، المؤمن أو المواطن).
لأشرح ذلك من خلال مثالٍ. لنأخذ قضية حصة المرأة في نظام الإرث. بالنسبة للفقهاء، هناك أيةٌ كريمةٌ نزلت حول توزيع إرث الإنسان. بالنسبة لآخرين، اعتبر أن هناك شكلًا من أشكال التناقض بين طريقة التوزيع مع قيمٍ عزيزةٍ أخرى على الإسلام (وكل الديانات والليبرالية أيضًا) كالمساواة، العدل… إلخ. في تونس كان هناك جدلٌ هامٌّ حول هذا الموضوع، وانتهى أولئك الذين يدعمون الحفاظ على التفسير السائد للنَّص القرآني، ونظراؤهم ممن هم مع المساواة الجندرية في توزيع الإرث، الى استخدام حججٍ لها نفس البنية المعرفية والتبريرية (استخدام حجج نصية وقانونية وسوسيولوجية) (5). بعدها قام الطرفان باستخدام مناهج مختلفةٍ (أي قام علماء الشرع بالنظر الى مصادرهم المعرفية، وقام علماء الاجتماع بالنّظر إلى تبعات تمييز الجندر على العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع بعمل أبحاث ميدانية وسبر آراء النّاس)، ومن ثمَّ تمَّ الوصل من خلال حججٍ. تأتي، بعد ذلك، قضية الجدل في المجال العام، ونشر النتائج، وهي المرحلة الثالثة، أي الفعل التعددي؛ هذا الفعل الذي يعكس جدل المعضلة الأخلاقية والبحث عن التوافق المعقول (وليس العقلاني فقط، فالمشاعر تؤثر كثيرًا أيضًا) بين الفضيلة وحسن العاقبة. والمقصود بالتعددي هو لمن نوجه الفعل. فالجمهور متعدد، منهم المواطن ومنهم المؤمن. إذ إنَّ الحجج (التبرير) التي تقدم للمواطن الذي ينتمي الى مشارب ثقافية ودينية غالبًا ما تكون مختلفةً عمّا يقدمه الداعية إلى المؤمنين. ففي الحالة الأخيرة، يمكن له أن يكتفي باستجلاب نصٍّ قدسيٍّ وتفسيره. لقد جاء الفعل، في تونس، على شكل جدلٍ سلميٍّ، في المجال العام، والذي أدى إلى تقريبٍ في وجهات النّظر، من خلال قبول الطرفين أنَّه مهما كان التشريع المدني راجحًا لطريقةٍ ما، في توزيع الإرث، فإنَّه يمكن للطرف الآخر اختيار الطريقة الأخرى. وإذا كانت هناك آلياتٌ ديمقراطيةٌ لحسم الخيارات، بما تختاره الأكثرية (غالبًا على شكل تشريعاتٍ مدنيةٍ)، فإن كان ذلك مخالفا لما يشتهيه الداعي، فيمكن للأخير الدعوة بخياره الديني للمؤمنين، وتوثيقه على شكل فقهٍ وفتاوى. ويمكن الذهاب، أبعد من ذلك، إلى تبني التعددية القانونية، وهو ما نجده في كثيرٍ من الدول الديمقراطية وغيرها، إن كانت ذات أكثريةٍ مسلمةٍ أم لا.
المثال الذي استحضرته حول الميراث هو محاولةٌ للتأكيد أن التمايزات بين الفضاء الديني والفضاء الدنيوي لا يمكن فهمها فقط من خلال سياسات الدول، وإنما بمواقف مواطنيها من خلال الجدل في المجال العام. لقد قمت بتحليل نتائج استبيان بعنوان “الدين في الحياة العامة – رؤية شاملة”، في أربع دولٍ عربيةٍ (6)، لأبين أن هناك صيرورة تمايزٍ من الأسفل، أو ما أسميها علمنةً جزئيةً عمليةً من الأسفل. وكلمة “عملية” (practical) أضيفت للتأكيد أنها مربوطةٌ بالفهم المتغير للناس للدين والحياة، وليس بمفاهيم عقائديةٍ ثابتةٍ. ويظهر الاستبيان أن التمييز والفصل الجزئي ليس فقط عند الأفراد ذوي التدين الضعيف، وإنما في كل درجات التدين وأنماطه. وظهر بوضوحٍ تعددية أنماط التدين: مؤسسية/تراثية، وإحيائية، وما بعد الإسلامية، وشعبية (التي تستحضر نماذج فرديةً، أكثر منها جماعيةً/ مؤسساتيةً).
النقطة الثانية التي أختلف تعبيريًّا، وليس حول المضمون، هي استخدام مصطلح “الإسلام السياسي”. أنا أفضل استخدام مفهوم “حركات إسلامية”، وهذا أيضا مرتبطٌ ببحثي أولًا، عما هو كونيٌّ، قبل التخصيص السياقي أو الثقافي، فنحن لا نسمع عن مسيحيةٍ أو يهوديةٍ أو بوذيةٍ سياسيةٍ. فالإسلام، كأي دينٍ، يتدخل في الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، عن طريق أَخْلَقَة الفعل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. التنوع في طريقة الأخلقة، والتدخل للحركات الإسلامية، أهم بكثير من تمييزها، لأنها سياسية. وقد يكون تسيسها شيئًا إيجابيًّا. لقد تحوَّلت بعض الحركات الإحيائية إلى إسلاميةٍ جديدةٍ (post-islamic or neo-islamic)، لأن السياسة قد روَّضت أيديولوجيتها الصلبة، وعملت على الوصول إلى سلطة على جعلها برغماتية. (7) ولكن ذلك ليس أوتوماتيكيًّا، فقد نبَّه خليل العناني إلى المعيقات الفكرية والبنيوية لأزمة الإخوان المسلمين في مصر، وصعوبة الفصل/ التمييز بين الدعوي والسياسي، وذلك قبل أحداث الثالث من تموز/ يوليو 2013 وعزل الرئيس محمد مرسي. (8) وعلى ضوء ذلك، فإن استخدام مصطلح “الإسلام السياسي” يفقد معناه؛ لأن فضفاضيته لا تفرق بين الإحيائية والإسلاموية والإسلامية الجديدة. ولأن درويش يمتلك وعيًا جليًّا بهذه الأنماط، ويحللها بشكلٍ رائعٍ، كان عليه عدم استخدام هذا المصطلح. لأن هذا التنميط التعميمي لا يعترف بأن هناك فكرًا إسلاميًّا- سياسيًّا متعدِّدًا ومتنوِّعًا، منه الوسطي ومنه المتطرف، يحمله الأفراد أو الحركات الإسلامية أو الإسلام الرسمي على حدٍّ سواء. وغالبًا ما استُخدم تصنيف الإسلام السياسي باعتباره قدحًا بمجموعاتٍ حركيَّة معيَّنة، والإيحاء بأن اتجاهها واحدٌ يتألَّف من قارئي سيد قطب من الإخوان المسلمين إلى القاعدة. وغالبًا ما يستخدم هذا النعتَ حاملو الإسلام الرسمي الذين لا يعتبرون إسلامهم سياسيًّا. ففي الخليج مثلًا، يُوصَم أيُّ معارضٍ بأنه إخوانيٌّ (9). ولذا يصبح الإخواني صنوًا للاحتجاجي. إذًا، هناك ببساطة انزلاقٌ في المعنى، فمناداتهم بعدم شرعية “الإسلام السياسي” هي في الحقيقة دعوة لعدم شرعية الاحتجاج. وفي الوقت الذي أتفق مع درويش في توصيفه ونقده للمخيال السياسي لبعض الحركات الإسلامية، فإنه ينبغي الابتعاد عن استخدام مصطلحٍ أصبح دالةً على استثنائية الحركات الإسلامية في استخدام السياسة. فكما أوضح ببراعة درويش عن عمليات توظيف الدين في السياسة، غالبا ما ينتج ذلك التوظيف عن ضغوطٍ من السلطة السياسية الاستبدادية التي تسعى إلى احتكار تمثيل الإسلام في إسلامٍ رسميٍّ يمثلها، ولا يتنافس معها، وهو موقفٌ سياسيٌ بامتياز. ويستجلب درويش أمثلةً من مجموعاتٍ تعتبر نفسها خارج السياسة مثل ما يسمى ﺑ “إسلام الدعاة”، و”إسلام القبيسيات/ الصوفية”، ولكن موقفهما من الثورة السورية، والنظام السياسي الاستبدادي، موقفٌ سياسيٌّ بامتيازٍ.
سأترك القارئ للاستمتاع بقراءة هذا الكتاب، والذي يشكل، في رأيي، اختراقًا معرفيًّا وإبستمولوجيًّا مهمًّا في الفلسفة السياسية، وعلم الاجتماع الديني.
*ضفة ثالثة
هوامش:
(1) أنظر في هذا المجال إلى:
François Gauthier, Religion, Modernity, Globalisation (London New York: Routledge, 2021).
(2) موقفي هنا لا يختلف عن أفهمة عزمي بشارة للعلمانية والعلمنة (في ثلاثيته الموسوعية)، وسيسيل لابورد أيضًا. أنظر خاصة إلى:
عزمي بشارة، الدين والعلمانية: في سياق تاريخي، ج1 (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013).
عزمي بشارة، الدين والعلمانية: في سياق تاريخي، ج2، المجلد الثاني (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015).
سيسيل لابورد، دين الليبرالية، ترجمة عبيدة عامر (بيروت الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2019).
(3) ساري حنفي، علوم الشرع والعلوم الاجتماعية: نحو تجاوز القطيعة- أليس الصبح بقريب (الكويت: مركز نهوض للدراسات والبحوث، 2021).
(4) ميادين حياة هو مفهوم عزيز على فلاسفة الفينومينولوجيا، مثل هابرماس، وهو تناظريٌّ لمفهوم بيير بورديو عن الهابتوس (habitus)، والمفهوم الاجتماعي للحياة اليومية (everyday life). وقد استخدمه محمد بامية باعتباره مفهومًا يدعونا إلى التركيز على تجربة المسلمين بدلًا من الأنظمة التي هي تقنيات اقتصادية وسياسية للتوحيد القياسي التي تسعى إلى عرقلة المشيئة الفردية (agency). إن ميدان الحياة ليس ظاهرةً فرديةً بحتةً، ولكن يمكن الوصول إليه بشكل بين- ذاتيٍّ (intersubjectively) ويمكن التواصل معه ومن ثم، يشير ميدان الحياة إلى نطاق الأفعال والممارسات التي تستمر الأفكار القديمة من خلالها في توليد معنى مقبولٍ طوعًا، بدلًا من القواعد المفروضة من قبل مؤسسة أو دولة.
Mohammed A. Bamyeh, Lifeworlds of Islam: The Pragmatics of a Religion, Lifeworlds of Islam (Oxford: Oxford University Press, 2019).
(5) يمكنكم العودة الى مقالتي: ساري حنفي وعزام طعمة، “ما وراء الديانية والعلمانية: نقاش الميراث والمساواة بين الجنسين في تونس وتشكل التفكير غير الاستبدادي،” عمران للعلوم الاجتماعية والإنسانية 32، (2020): 71-94.
(6) قام مركز الدراسات الاستراتيجية، في الجامعة الأردنية، بإنجاز استطلاع “الدين في الحياة العامة”، في عام 2019 في أربع دولٍ عربيةٍ (الأردن، لبنان، مصر، تونس). وقد أنجز هذا الاستطلاع من خلال إجراء مقابلاتٍ وجاهيةٍ مع 5400 مستجيب ومستجيبةً، وذلك على عينةٍ ممثلةٍ لمجتمعات البلدان التي شملها.
(7) ساري حنفي، التطبيع في المغرب .. سقوط كليشيهات، العربي الجديد، 26 ديسمبر/ كانون الأول 2020.
(8) خليل العناني، داخل الإخوان المسلمين: الدين والهوية والسياسة (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2018).
(9) هكذا وُصِف جمال خاشقجي، على سبيل المثال، حسب بعض التصريحات السياسية والتغريدات التويترية الشعبية في السعودية.