كثير من سوريي المهجر والداخل تعرفوا على الكاتبة سلوى زكزك على منصة تواصل اجتماعي، وعبر قراءة نصوصها المتميزة لدرجة تعذُّر التقليد. فهي لا تشبه سواها، وهي تنقل التفاصيل التي لم يهتم بها مراسلو ومراسلات الإعلام الغربي والعربي، بل حتى السوري، وأجد شبها واحدا بينها وبين الأوكرانية أليكسيفيتش وهو فهم عميق لمعنى الحرب لا يختزلها لساحات المعارك، واحترام حقيقي للمدنيين المقهورين، الذين يدفعون ثمن النزاع دون أن يتم منح أحدهم وساما تشريفيّا. ويتوقف التشابه عند هذا الحد. فبينما لجأت أليكسيفيتش للقاء الصحافي كمنهج، تقوم زكزك بالملاحظة والوصف والتصوير اللغوي والتحليل عبر أسلوب تدوين حرّ ملتزم. وبينما ضمّ عمل أليكسيفيتش ذكريات من ساحات الحروب والخنادق وحياة الجنود والجنديات، تنفر الكاتبة السورية من كل ما له صلة بالسلاح، ويغيب هذا تماما عن العالم الأدبي الواقعي الذي تنسجه من حياة المدينة والريف والمخيم.
من خلال مجموعتها القصصية «عندما لبست وجه خالتي الغريبة» ومقالاتها العديدة يتضح تعمّقها وتبحّرها في اللغة العربية الفصحى، لغة الأدب والثقافة والإعلام، اللغة الأكاديمية. لغة النخبة تمنح متحدثّها وكاتبها رتبة في السلم الاجتماعي، لكن زكزك، تختار حمل السلم بالعرض والمشي فيه في الأسواق الشعبية بدلا من الصعود على درجاته والارتقاء والابتعاد عن حياة الناس بكل تفاصيلها المرهقة، وسواء كان هذا الخيار واعيا ومدروسا، أم كان نتيجة انطلاقة عفوية شخصية، فقد خلق كاتبة حاملة لرسالة تمثيل الانسان السوري في زمن التيه الوطني.
«الحرب هواء ثلجي في الرئتين.. نيران مستعرة في القلب» تعلن زكزك، وتظهر في الكثير من نصوصها تناقضات المجتمع السوري وسقمه وعلله. هي ليست معنية بالتجميل والتبرير والشرح، ولا تحتاج عذرا لتجّس نبض الشام وتخبر عن أحوالها. تصعد ثلاث نسوة يعملن في الخدمة المنزلية والطبخ، الميكروباص ويتبادلن أطراف الحديث، وتشارك أيضا زكزك وتكتب ما قيل دون تغلغل تحليلي في الحدث أو بالأحرى اللّاحدث. سيدة منزل تجبر إحداهن على الوقوف بجانبها أثناء تناولها للطعام الذي طبخته «اللفاية» من باب الاحتياط، فربما احتاجت مثلا خدمة أثناء انغماسها في الأكل! لا تدعو العاملة المنزلية بأجر زهيد للراحة أو الجلوس معها ولا تسمح لها بتناول لقمة مما طبخت. علقت الصورة بذاكرتي، التصقت، انطبعت. أما نص زكزك فكان غاية في الإيجاز، وأمّا هذه الصورة فقد نسجتها مخيلتي في جملة واحدة إخبارية نطقت بها المرأة، ونقلتها زكزك دون زيادة أو نقصان. ما هو سر توغل عبارات بسيطة قصيرة في عمق إدراكنا؟ وكيف تقوم هذه الكاتبة بحمل واقع كامل ضمن راحتي كفيها كأم كبرى؟ مع تتابع العبارات وتتالي القصص وتجمّع اللقطات الصغيرة تصبح لدينا مادة مترابطة تحكي عن حياة مدن كاملة، شعب بأسره بين قاهر ومقهور ونكتشف عمق المأساة التي يعيشها سوريي الداخل. تنفذ إلى أعماق ضمائرنا عبر التفاصيل، وبسبب الإحساس الحي لدى من يرى ويرينا «الأرض التي تهتز تحت أقدام الناس» و»خراب ممتد» «لم ينج أحد» الشروخ تتسع وتبلع البعض. وتصل المأساة السورية للذروة، أو بالأحرى للقاع، عندما يغرق ثلاثة أطفال وثلاثة راشدين وسط أكوام القمامة التي يفتشون فيها عما يمكن إعادة تدويره، بيعه يموتون اختناقا. «حياتنا خاصة» والرمزية هنا عالية، قاسية، حادّة!
تختصر سلوى زكزك كل الحكايات، تغليها على نار هادئة ليتبخر كل فائض وما يتبقى هو المركّز، اختزال ذكي هادف. أي مراسل صحافي أو كاتب توثيقي أجنبي يتجنب اختيار هذا النوع من الأخبار، هذا إذا التقط مرصده عبر صدفة غريبة أساسا. يبتعد الإعلام الغربي عن الغوص في نتائج الحرب على شعب ما، لأن هذا قد ينفّر القارئ غير المعتاد على هذا النوع من الصدمات، قد يخيفه أو قد يثير لديه مشاعر عنصرية، كذلك تختلف التقارير الإخبارية الموجهة لرأي عام أجنبي عن التقارير المحلية وبالذات بقلم لا يخاف من نقل الصور الحقيقة للواقع المرزي الذي يعيشه الإنسان في زمن الحرب والمجاعات والضياع والفوضى وفقدان الأساسيات. كتب ويكتب الكثيرون عن مشكلة انقطاع الماء والكهرباء. وحده صوت زكزك اخترقني وأشعرني بالحزن العميق والعار في آنٍ معا. عندما تطرح السؤال الأخلاقي في نص عن البرد وغياب وسائل التدفئة أو وقودها: «أَيُعتَبَر وضع يدي على الحائط في مكان مرور أنبوب مدفأة الجيران المُوقَدة لأدفئهما نوعا من السرقة؟». أقرأ، وأريد أن تنشق أرض غرفتي الدافئة وتبتلعني. لم تتمكن كل المقالات المزودة بمعلومات دقيقة وإحصائيات عن مشكلة الطاقة في سوريا الحرب، التي قرأتها بلغات أجنبية من إحداث هزّة أرضية، أو حتى اهتزاز طفيف في الأرض تحت قدميّ. منذ ما يزيد قليلا عن شهر نشرت صحيفة يومية نرويجية «صراع الطبقات» مقالة لي عن أدب الحرب أعرّف فيه القارئ النرويجي على أدب سلوى زكزك، ومن خلالها أنقل له أحوال الناس في بلد أرهقته حرب عشر سنوات. تم حذف فقرة تُحدّث عن الموت تحت عجلة حافلة ممتلئة وسط شارع مزدحم في مدينة تمتلئ حيطانها بالنعوات ويصبح الموت الحدث اليومي المعتاد: «نحن نشبه موتانا محشورون في باص يشبه القبر «نحن ا لازدحام، الجسد الملتصق بالجسد من ضيق المكان، والمساقين نحو قدرنا باستسلام.
تم حذف هذا الجزء وندرة المراحيض في المخيمات التي تنتشر فيها الكوليرا، ووقوف طفل في طابور خبز طويل، ووقوع طفل صغير يجر كيسا أكبر من جسده مليء بالفضلات القابلة للتدوير وسط الشارع من الإرهاق أثناء موجة حر. وكان تفسير المحرر أن نصّي سيصبح «أفضل» دون هذه الأمثلة، اعتراضي العنيد أنقذ مثالين من أربعة من الحذف أو ما يسمى «تنظيف النص».
بعد التفكير قررت عدم ترجمة مقالتي للغة العربية، لأنها لن تفيد القارئ السوري خصوصا، والعربي عموما بشيء. لأنّ الكتابة موّجهة بالضرورة في النصوص الإخبارية التوثيقية، ولهذا فإنّ ما بين أيديكم مقالة جديدة عن الموضوع نفسه.
من يكتب؟ لمن؟ لماذا؟ وضمن أي ظروف؟
كتب أجانب وعرب وسوريون عن الحرب في سوريا، نقلوا الأحداث وأشبعوها تحليلا، لكن صوتا واحدا برز وسط هذا الضجيج الإعلامي، على الرغم من أنّه كان همسا من صفحة فيسبوكية متواضعة للغاية، ليس فيها ألقاب وعناوين أيّ محفزّات مرئية أو صوتية. زكزك تكتب يوميات الشارع لنا، وتنخرط أيضا بالمشهد تنقله، وعند ربطها بين العام والخاص، والموضوعي والشخصي بشل متلاحم ينتج أدب حقيقي متجذّر بالأرض والنّاس ومؤثّر فلا يترك القارئ حياديا.
مشروع سلوى زكزك مستمر حتى أجل غير محدد، وحتى لو أتى يوم تغلبت فيه رغبتها بالتحليق والسفر بعيدا، كما فعل ملايين السوريين، على تضامنها مع من بقوا في البلد، ها هي تصفه بـ»عصبية الجناح الناقص» وما أصفه أنا بالتزام أخلاقي استثنائي وأصالة جميلة وحس مرهف.
اللوحة الزكزكية قاتمة دون شك، لكن فيها نقاطا يتدفق منها الضوء والدفء. ووقفةٌ في المطار لا تتحول إلى قرع ناقوس خطر لقرب خلو البلد من سكانها. زكزك تنقل مشهد «العجقة» وكأم سوريّة أصيلة تودعنا كلنا «لك روحوا دوروا وشوفوا الدنيا بيلبقلكن» في وقفتها هذه الخالية من العتب والتأنيب، تربطنا سلوى بالأرض التي تقف عليها ويتبدد وهم الولادة الجديدة ومحو الذاكرة.
*القدس العربي