مواقف وكلمات كثيرة تحضرني وأنا في طريقي هنا إلى السوق: “مبروك، على حسابك، لعيونك، بالهنا، وين هالغيبة، سلامتك، الله يرزقك، معوّضين، المحل محلك….” كلمات كثيرة كنت أجد معظمها ممجوجاً ومجانياً وتافهاً، كلمات حلوة لن أسمعها هنا، في كندا، أبداً.
“خير جارتنا؟ مو على بعضك اليوم!”
أحاول أن أستحضر صوت حمّود، صاحب البقالية المجاورة لبيتي في دمشق، فتعود لي مع الصوت مشاعرُ الاستياء والنرفزة الضمنية التي كنتُ أقابل بها أسئلتَه المتكررة “يا إلهي شو فضولي! بخير أم لستُ بخير، ما شأنه؟! لماذا لا يلتزم بحديث البيع والشراء ويكفّ عن تقصي أحوال الحارة!؟ ثم من سمح له بأن يفسّر تعابير وجهي ويستنتج منها سوءَ حالي ويسألني عنها! لقد نسيَ الناس أصول احترام الخصوصية واستمرؤوا التطفّل وتجاوز الحدود، وعلينا أن نذكّرهم بها!”.
لم أكن أجاهر بانزعاجي أمام جاري، لكنني كنت أبدي، عبر شفتيّ المزمومَتَين، امتعاضاً خفيفاً. أتجاهل سؤاله، وأُملي عليه طلباتي بكلمات قليلة، ثم أتناول منه أكياسي بكلمة “شكراً” خافتة، بينما تلاحقني عباراته حتى باب الدكان، وهو يتمنى لي نهاراً رائقاً وانفراجاً في الأحوال وراحة في البال وصحةً لا تحيجني لأحد و…
أتذكر أيضاً صوت أبي نورس، تاجر الألبان العريق في أول سوق الصفن في اللاذقية. يترقّب نزول زوجي من البيت قبل السابعة صباحاً لينادي عليه: “جبناتكم جاهزين أستاذ”. يشير له زوجي بيده، فيفهم أبو نورس بأنه مستعجل وسيعود لأخذها بعد الظهر. فيعلو من جديد صوت أبي نورس بأنه سيحفظها “على طرف” في البراد إلى حين عودته. ولا ينسى كلّ مرة أن يؤكد له أنه نقعها لأجلنا بماءٍ خفيفِ الملح كما نحبّ، وقسّم الكمية إلى أنصاف كيلوغرامات لكي يسهل علينا تخزينها في الثلاجة.
أتذكر كيف كنتُ أفسّر اهتمام أبي نورس بالتفاصيل وحرصه على استعراض معرفته بذوقنا وحاجاتنا: “بس بده يبيع!! من قال له إن الجبنة لدينا نفدتْ؟! من أوصاه أن يحضّر لنا دفعةً جديدة؟ أوزان مفصولة وملح خفيف!! إنها طريقة للبيع بالإحراج والتخجيل، واضحة! لو أنني أجرؤ على مقابلة صفاقته بوقاحة فلا أشتري منه هذه المرة!”
تعدو بي الذاكرة إلى الخلف أكثر فأكثر، أصل إلى حلب، وتحديداً إلى محلات الألبسة في العزيزية. أرى نفسي خارجةً من غرفة القياس بجينز جديد، وابتسامة البائع أكبر من دكّانه: “كتير حلو آنسة، جاية عليكي سكب”. أتجاهل ترغيبه السوقي والمكشوف، وأتوجه بالسؤال إلى أمي التي ترافقني: “هل يتناسب مع قميصي الأبيض الرسمي؟” وقبل أن يتسنى لها فتحُ فمها، يباغتني البائع: “طبعاً، بصير معه تمام”. يستفزني جوابه السخيف، هو الذي لا يعرف القميص المعنيّ ولا يدرك ألفباء اللباقة! أزجره بنظرة تُبدي ضيقي، فيستأنف بحسّ التاجر الحاذق: “الجينز صار يلتبس مع كل شي، يعني أكيد بروح مع قميص أبيض ولو كان رسمي يا آنسة! وأنت مبيّن عليكي كتير مذوقة”. أشيح بوجهي عنه نحو المرآة. أُسبل سبابتي لأشير إلى طـ… وإذا بالبائع مقرفصاً عند قدميّ، بين أسنانه مجموعة دبابيس ويداه منهمكتان بثني الطول الزائد من البنطلون. يسوّيه على مقاسي تماماً بخفّة ودقة، ثم ينتصب بوجهٍ لا تفارقه البشاشة: “نص ساعة بس، اعمليلك فتلة بالسوق وارجعي خدي بنطلونك على ذوقك، وبلا إجرة التقصير، تكرمي”.
مواقف وكلمات كثيرة تحضرني وأنا في طريقي هنا إلى السوق: “مبروك، على حسابك، لعيونك، بالهنا، وين هالغيبة، سلامتك، لابقلك، خصوصي إلك، الله يرزقك، معوّضين، المحل محلك….” كلمات كثيرة كنت أجد معظمها ممجوجاً ومجانياً وتافهاً، كلمات حلوة لن أسمعها هنا، في كندا، أبداً.
في متجرٍ لـ Tommy Hilfiger، أخرجُ من غرفة القياس بسُتْرة فضفاضة، أستجدي بعينيّ مساعدةً من الموظفين اللامبالين. أستوقفُ أحدَهم بسؤال عن واحدةٍ أصغر، فيشير إلى ركن ترتصّ فيه العشرات: “ابحثي بينها” ثم يمضي من دون أن يسألني عن مقاسي أو عن رغباتي، ومن دون أن يلاحظ تَكدُّر قسماتي أو كيلوغراماتي الآخذة بالتناقص.
أتابع طريقي إلى أحد فروع [1]Costco، أقفُ أمام برّاد الأجبان الضخم، أنواع وأحجام لا تحصى، لكنّ أياً منها لم يُغَلّف لأجلي أو يُحفَظ على اسمي. ومهما اشتريتُ لن أجد مَن يناولني ما أريد هاتفاً لي: “صحّة”. أجولُ بنظري على عَرَبات الزبائن، كبيرة ومكتظّة وطافحة بأصنافٍ ومنتجات تسدُّ حاجات غير موجودة أصلاً!
هنا، الشراء يلبّي رغبات الشركات البائعة أو المُصَنِّعة أو المستورِدة، صاحبة “البيزنس” العملاق، لا المشتري. هنا، الاستدراج ليس كلمات حلوة ولا مجاملات ساذجة، بل إعلانات ماكرة تغزو حياتي ورقياً على باب بيتي، أو الكترونياً كيفما فتحتُ هاتفي. هنا، تُفَبرك الحاجات والأوهام عبر عروض مُختَلقة وأسعار مُلَفَّقة. هنا، التسويق لعبة بذيئة تحوّلني إلى رقمٍ ضئيل الأهمية في قطيع مليوني، ما لا يعجبني سيعجب المئات غيري، وما لا يُرضيني سيُرضي الآلاف غيري. هنا، لا اسم لي ولا عنوان ولا حكاية. لا أحد يحفظُ وجهي أو ابتسامتي أو ذوقي أو يُكرِم خاطري. هنا كلّنا عابرون؛ مهاجرون ومقيمون ومواطنون، حتى العمّال والباعة في هذه المتاجر مؤقّتون وبلا أَثر. الراسخ الوحيد في هذه السوق هو نظامها الاقتصادي اللاحم الذي يلتهم بسهولة المشاريع المتوسطة والصغيرة، ثم “ينكشُ أسنانه” بأحلامها. لا صوتَ فيه إلا لضجيج حاويات النقل وتكتكة أزرار الكمبيوترات ورنين الأرباح الفلكية. ولا يمكنُ وسطَ صخبه أن يُسمَع صوتُ تحياتنا وسلاماتنا وكلماتنا الحلوة.
أضعُ في عَرَبتي علبة حمّص وربطة خبز عربي. أتقدّم نحو نافذة المحاسَبة. أمدّ يدي بالـ credit card لأسدد الحساب، أرقامه هي الشيء الوحيد الذي يميّزني عن طابور الواقفين أمامي وخلفي. أرتّبُ مشترياتي القليلة في العربة وأهمّ بالمغادرة. المحاسِبُ منهمكٌ بشاشة صغيرة أمامه، وعلى وجهه كمّامة تزيدُ من غموض ملامحه. بالكاد أحصلُ منه على Bonne journée باهتة وتائهة، فألتقطها وأدسّها بين أغراضي. بينما تتجاوزني نظرتُهُ كما لو أنني لامرئية، ويرتفعُ صوتُه نحو الجهة الأخرى منادياً: “Suivant”.
[1] “كوسكو” Costco هو سلسلة متاجر عملاقة موجودة بشكل رئيسي في شمال أمريكا (الولايات المتحدة و كندا)، وبحسب إحصائيات موقع Statista لعام 2020، فإن “كوسكو” حل ثانياً بعد “وولمارت” Walmart كأكبر المتاجر في العالم، برقم مبيعات فاق 163 مليار دولار أميركي.
*أوان