زينة حموي: كتابة المسافات الطويلة

0

“إن الثورة الهادئة صنعَها أربعةُ وزراء وبضعة مسؤولين، وعشرات كتّاب الأغاني والفنانين والشعراء”.

جاك باريزو Jacques Parizeau (1930-2015 ): سياسي واقتصادي كندي، من أبرز مهندسي الثورة الهادئة La révolution tranquille.

“زينة، هل توديّن أن تشاركي معنا في مسيرة لأجل النساء في 2 نيسان/أبريل؟”

تسألني شارلين، صديقتي الكندية ذات الثمانية والستين عامًا.

“مسيرة لأجل النساء! هنا، في كندا؟”

تلمس صديقتي بذكائها وحساسيتها الاستغرابَ في سؤالي، فتجيبني بسرعة:

“نعم، هنا. المرأة الكَنَدية حديثةُ العهد بحقوقها، وعلينا أن نصون مكتسباتها. لا نريد أن نخسر ما كسبناه بعد سنوات من الحرمان. ثم إننا لم نصل بعد، المرأة مازالت تعاني من العنف المنزلي وعلينا أن نطالب بإنشاء المزيد من مراكز الرعاية للنساء المعنّفات وأولادهن. بكل الأحوال، سأرسل لك رابطًا بتفاصيل زمان المسيرة ومكانها”.

أودّع صديقتي، وأبدأ بحثًا على الانترنت حول واقع المرأة في كندا بشكل عام، وفي مقاطعة كيبيك حيث أقيم بشكل خاص. تعيدني معظم النتائج إلى الثورة الهادئة التي جرت  بين عامَي 1960 و1970 فغيّرتْ وجهَ المقاطعة بشكل كامل وخرجتْ بها من عصر “الظلام الكبير La grande noirceur” إلى عصرٍ أكثر نورًا ورحابة.

لم تقم الثورة الهادئة لأجل النساء بشكل أساسي، وإن كانت أحوالهنّ الكارثية من أهم محركاتها. كانت للثورة دوافع عدّة، وحققت إنجازات عظيمة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ولاتزال. على رأسها تحوّل كيبيك إلى العلمانية، وتأميم الكهرباء والعديد من الخدمات الصحيّة والتعليمية، وتحديث مفهومَي القومية والمواطنة وإسقاط التمييز بين المواطنين على أساس اللغة (كان السكان الناطقون بالانكليزية يتمتعون بامتيازات أكبر من أولئك الناطقين بالفرنسية)، وخَفْض نِسَب البطالة، وغير ذلك.

أؤجّل قراءة المقالات غير المعنيّة بالمرأة. وأفتّش عمّا يحكي عن النساء ويروي قصصهن.

قبل الثورة، كانت للكنيسة الكاثوليكية اليد الطولى في إدارة البلاد. وفي ظلّها، كانت المرأة إنسانًا مهمّشًا، يقتصر تعليمها على بعض المواد الأساسية مثل اللغة والرياضيات، وتمارسُ مِهَنًا محدّدة مثل التمريض والطبخ والخياطة بأجور أقل من أجور الرجال. ومتى تزوجت، تحوّلت إلى “شيء” غايته تحقيق “مشيئة الرب” في تكوين أسرة ورعايتها. ينظر المجتمع إلى عملها خارج المنزل بارتياب واستنكار لأنه يشغلها عن “المهمة السماوية” المكلّفة بها. أكثر من ذلك، كانت المرأة المتزوجة مواطنًا ناقص الأهلية، لا يحق لها التوقيع بمفردها على أي عقد، أو إنشاء حساب مصرفي أو رفع دعوى قضائية أمام المحاكم.

لا سلطةَ لها حتى على جسدها، فتناول حبوب منع الحمل بغرض تحديد النسل ممنوع، والإجهاض جريمة تستوجب العقاب. باختصار، كانت التوجيهات الكنسيّة تشكّل أعراف الناس وتحدّدُ التشريعات السياسية والقانونية.

لم تعرف الثورة الهادئة معارك مسلّحة بالمعنى الحرفيّ للكلمة. بل كانت، كما يدلّ اسمها، ثورةً بالكلمة واللون والصوت؛ ففي السنوات العشر لهذا الحراك، نُشِر ما يقارب 400 مجموعة شعرية. وتضاعف عدد الروايات الصادرة عن العقد السابق وغلبَ عليها ما يمكن تسميته بالرواية النفسيّة. اقتحمت الفنون البصرية مسارات كانت مُحَرَّمة ومحظورة. أصبح الكتّاب والفنانون أكثر جرأة وواقعية، وبدأت أعمالهم تعكس حقيقة المجتمع الكيبيكي المُرهَق والمأزوم. ظهرتْ فِرَقٌ غنائية ومسرحية جديدة، وُصِفتْ أعمالُهم أوّلَ الأمر بأنها وقحة وفضائحية، قبل أن تُترجَم إلى عشرات اللغات أو تُعرَض في مدن عدّة حول العالم بعد نجاح الثورة.

أستعرضُ الأسماء وأتجوّل بين شهادات وصور مُشرقة محفوظة في الضمير والتاريخ: كليمانس ديروشيه Clémence DesRochers (مغنية وممثلة وشاعرة)، ماري كلير بليه Marie-Claire Blais (قاصّة وروائية)، مارسيل فيرون Marcelle Ferron (فنانة تشكيلية)، ميشيل ترامبليه Michel Tremblay (مؤلف ومخرج مسرحي)، وغيرهم. وربما كان اسم  كلير كيركلاند كاسغران Claire Kirkland-Casgrain  هوالأكثر تردادًا عند البحث عن دور المرأة في الثورة الهادئة؛ فهي أول امرأة تُنتخب في البرلمان عام 1961 قبل أن تنضم إلى مجلس الوزراء عام 1962. وإليها يعود الفضل في صدور القانون رقم 16 لعام 1964 الذي حرّر المرأة المتزوّجة من سلطة زوجها وأعادها مواطِنة كاملة. في حين بقي الإجهاض جريمة حتى عام 1969.

يوقفني عن البحث إشعارٌ على هاتفي، إنها شارلين. لقد أرسلتْ لي رابطاً مُذَيَّلًا بجملة مقتضبة: “في المرّة القادمة، ستحكي لي أنتِ عن النساء في بلدك”.

النساء في بلدي! آه يا صديقتي!

هل أحدّثك عن المرأة السورية المحرومة من منح جنسيتها لأولادها؟ هل أحدثك عن قانون الأحوال الشخصية الذي يُطبَّق على الناس تبعاً لطوائفهم الموروثة في بلد يدّعي العلمانية؟ هل أحدثك عن قضايا مازالت تعالج “الإسكان” و”المهر” و”الزوجة الثانية” بما في ذلك من ظلم وذلّ للمرأة والرجل معًا! هل أحدثك عن  محاكم شرعيّة وروحيّة تتخذ من مرجعيّات البعض مرجعًا للكلّ في خرْقٍ فاقع لمفهوم الحريّة وغايات التشريع؟ هل أحدّثكِ عن عادات وأعراف بالغنا في تكريسها حتى أصبحتْ أقوى من القانون وأهمّ من العدالة؟

هل أحدّثك عن الاغتصاب؟ عن الاعتداءات الجسدية؟ عن التحرّش والمبررات الفاحشة التي نخترعها ونسوقها لتسهيله والتغاضي عنه إلى أن يقودنا العمى إلى اتهام الضحية نفسها؟! هل أحدثك عن الابتزاز الجنسي الذي وصل إلى مقايضة الطعام بالجنس في واحد من أقسى الامتحانات الأخلاقية لبلدي؟! هل أحدثك عن الفتيات والقاصرات اللواتي زُوّجن، بالترغيب أو الترهيب، لمقاتلين قُتِل معظمهم أو فرّ أو اختفى تاركًا خلفه أُسَرًا وأطفالًا مجهولي الهوية والنسب والمصير؟!

هل أقول لك إننا، إمعانًا في الظلم والفوضى واللامبالاة، لا نعلم عدد الحالات السابقة؟! وليس لدينا  إحصائيات كافية عن ظواهر التعنيف والضرب والحرمان من التعليم! هل أقول لك إننا لا نملك قوائم كاملة بأسماء المعتقَلات والمختطَفات؟

حسنًا، أستطيع أن أحدثك عن القانون الذي صدر عام 2020 وألغى العذر المخفّف لجريمة الشرف. مع علمي بأن بين من صفّقوا له مَن لا يزال يجد في زواج المُغتَصِب من الضحية “سَتْراً” ومَخرَجًا جيدًا يحمي المرأة!

أوقفُ تدفّق أفكاري وأصارح ذاتي: لماذا لا أحدّث صديقتي الكَنَدية عن نفسي وعن صديقاتي السوريّات؟ لماذا لا أقول لها إنّ بين الرجال السوريين من يعتبر نفسه بريئًا من التعنيف لأنه لا يضرب زوجته أو أخته، وبين النساء السوريات من تعتقد أنها ناجية لأنها ليست ضحيّة للكثير ممّا سبق؟

لماذا لا أحدّثها عن التمييز الجندري؟ الذي اتسع وتراكم وتجذّر في بلدي حتى تحوّل إلى عنف موصوف برضوض نفسيّة ملحوظة وآثار اجتماعية مرئية؟ أصبح عنفًا عامًّا في معظم  البيئات والمناطق السورية على الرغم من تنوّع سِماتها الديموغرافية والأنثروبولوجية حدّ التناقض. لماذا لا أحدّثها عن العنف الذاتي الذي تمارسه النساء ضد أنفسهنّ في التباس معقّد يجعلُ منهنّ معنَّفات ومعنِّفات في آن معًا؟

نحن معنَّفات بسبب التشكيك الدائم بإنجازاتنا، والغمز بأنها ستبقى محدودة مهما عَظُمَتْ نظرًا لطبيعتنا “الهشّة” و”التابعة بالغريزة”.

نحن معنَّفات عندما يتمّ رسم مخططات الأُسرة وتغييرها، من هجرة وسفر وغير ذلك، بما يناسب مهنة الرجل وطموحاته، من دون الاكتراث بمهنة المرأة ورغباتها.

نحن معنّفات عندما يهزأ الزملاء والأصدقاء وحتى الأهل من أخطائنا وهفواتنا، ويعزونها، عن قصد أو عن غفلة، إلى جنسنا. في حين يتم التسامح مع أغلاط الرجل لأن “الإنسان خطّاء” و”جلّ من لا يسهو”!

نحن معنّفات عندما يلوّح لنا المجتمع بماضينا العاطفي أو تجاربنا الجنسية لأنها “عار” يستوجب النكران والإخفاء والخجل. يهدّدنا بفضحها وفضحنا كلما تراءى له أننا “نشذّ” أو “نتمادى” أو”نعترض”.

نحن معنّفات لأننا نعيش طوال حياتنا مقيّدات بحدود صارمة على حريّة الاختيار والتجريب، وحرية المحاولة والتراجع وتغيير الرأي.

نحن معنّفات عندما يعمّمُ الناس، ونحن معهم، صورة مغلوطة عن محدودية إمكاناتنا والسقف الواطئ لمهاراتنا، كتلك النكات السمجة عن قيادة المرأة للسيارة أو عن تولّيها منصبًا إداريًا أو سياسيًا.

نحن معنّفات إذ تسيطر النظرة الدونية إلى مواهبنا وهواياتنا واهتماماتنا. ويقيّمُ الآخرون منجَزَنا الإبداعي بعين التشكيك المتربّصة.

نحن معنّفات بما أننا جزء من ثقافة شعبية تهوى التنميط الجندري فتصف الجبان أو الخائف بالـ “حْريمة”، وتنعتُ بعضَ التصرفات وردود الأفعال للحطّ من شأنها وتحقيرها بـ “متل النسوان”.

نحن معنّفات عندما يتواقح البعض ويجافي الواقع ويتنطّع في القول إن المرأة نالتْ حقوقها، وإن الاحتفاء بيومها والكتابة عنها الآن ليسا سوى “موضة”.

سنكتب لأجل ذلك كلّه. سنكتب لنصنع نحن أيضًا ثورتنا الهادئة. سنكتب وإن تعاظم العنف وتجبّر وتمدد، أو تقنّع وظهر بأشكال مختلفة. سنكتب لنطهّر بيوتنا وشوارعنا وأماكن عملنا من ازدواجية المعاملة وسهولة التفريق. سنكتب لنعقّم لغتنا وأفكارنا وقناعاتنا من التمييز الجارح والعنفي. سنكتب لنبيّن أن الشروط التاريخية والاقتصادية التي رجّحت كفّة الرجل يومًا انتهت، وأننا جديرون بهذا العصر وقادرون على الاستجابة لمقاساته ومعطياته. سنكتب لنتشارك في الحقوق كما الواجبات، بعيدًا عن الفهم المحدود والتطبيق الحرْفي لمعنى المساواة، ولأن في ذلك خيرًا وإنصافًا للنساء والرجال معاً. سنكتب مهما تأخّر الوصول أو بدتِ المسافاتُ طويلة.

أفتحُ الرابط الذي أرسلتْه صديقتي شارلين لأدوّن عندي مكان وزمان المسيرة. يلفتُ انتباهي الوسم أسفل الإعلان بالفرنسية: “pas une de plus” ويعني “ولا واحدة أخرى”*.

نعم، سنكتب ولو كان ذلك من أجل امرأة سوريّة واحدة.


* Pas une de plus: شعار حِراك مَدَني جرى عام 2021، شَمَلَ فعاليّات ومسيرات عدّة في جميع أنحاء مقاطعة كيبيك، دعا بشكل أساسي لمواجهة العنف المنزلي ضدّ النساء. ثم أصبح هذا الشعار عنوانًا لسلسلة وثائقية تعالج الموضوع نفسه. بدأ بثهّا على “راديو كندا الدولي RCI” في السادس والعشرين من كانون الثاني/يناير 2022.

*أوان