زينة أرحيم: في حلب المحررة.. حب ومجازر وثورة ونظام بحلّة جديدة

0

ضربات القلب أسرع من كل مرّة.. فقد تلقيت هذه المرة تهديدات من شخص يُسمّي نفسه “أبو أيوب الأنصاري” ويدّعي بأنه من دولة
الإسلام في العراق والشام ورغم تخوّف الحريصين عليّ، قررت أن أذهب لحلب لأن تراجعي يعني بأنهم نجحوا في منعي من الدخول
وأنا أعرف جيداً كيف ترتبط مدة بعدك عن سوريا طرداً مع خوفك من الرجوع إليها.
قررت منذ مدّة أنني .لن أترك لهم البلد ولن أعدل عن قراري الآن وإن تغيّر المُهددّين، لكني أكذب إن قلت أن روحي تنكمش كلما
تذكرت المدعو أبو أيوب!
وللصدفة أن المنزل الذي سكنته يقع قرب كتيبة “أبو أيوب الأنصاري” وعندما قررنا الذهاب لسراقب واحتجنا لمن يدلّنا للطريق
اقترحت صديقتي مقاتلاً من كتيبة “أبو أيوب الأنصاري” وحتى عندما قابلت صديقاً وسألته عن أخباره قال لي إنه تحوّل للعمل
العسكري وللصدفة هو يقاتل أيضاً مع كتيبة “أبو أيوب الأنصاري”! هي إشارات أو كارما لا أعرف لكن وللحظ تبين أن شباب هذه
الكتيبة من ألطف الناس وأهداني أحدهم قبعته وعليها اسم الكتيبة!
قبل أن أدخل الحدود فتحت أبواب ذاكرتي واستخرجت منها ما فعلته يوم دخلت دمشق بعد الثورة بستة أشهر، فحذفت كل ما يمكن أن
يؤخذ ضدي من صور، حذفت حتى أسماء بعض الأصدقاء الذين لا يدخلون لسوريا ويستفزّون الكتائب الإسلامية بتعليقاتهم من بعيد،
أخفيت السلُك الذي أضعه عادة في الحقيبة وارتديت حجاباً نظامياً لأبعد عن نفسي “”تهمة” الصحافة وأزيح ملامح القوة لصالح صورة
“البنت الحبابة اللي راجعة عند أهلها”.

الوجوه المُحبّة التي التقيتها على الشريط الحدودي نزعت مخاوفي واستبدلتها بالحماس..

فهي المرة الأولى التي أزور فيها حلب بعد التحرير..

لون الشحوب المصفّر يغلب على ملامح كل الأحياء وكأنه أحد “المؤثرات البصرية” التي يقدمها “الانستغرام” إلا أن لهذا المُؤثر
رائحة تربة تفتقد للأوكسجين.. كشخص لديه حساسية تنفسية عالية كدت أشعر بذرّات الهباب المنبعث من مولدات المازوت العملاقة
المنتشرة في الأحياء المركزية والتي يشترك فيها الأهالي بمبلغ شهري، وهي لا تكفي لأكثر من إشعال ضوء بسيط وشحن الكمبيوتر
والموبايل.

شبكة الموبايل في حلب مزاجية لكنها موجودة! يحفظ النشطاء إحداثياتها وكم “شخطة” ستكون في كل بلاطة من المحرر.

والمُحرر هو المصطلح المٌتعارف عليه والذي يطلق على الأحياء التي تسيطر عليها المعارضة، فيما تُسمّى الأحياء المُقابلة بال”مُحتل”
يصل بينهما معبر “رفح” أو معبر كراج الحجز في حي بستان القصر.

ما يلفت في هذا الحي وتحديداً على بعد أمتار عن مرمى القناص هو الزحام والسوق العامر بالمشترين والباعة والمتجولين.

ورغم انزعاج رفيقي من “العلقة بالزحمة” كنت أستمتع بكل دحمة سيارة أو صراخ مستعجل وتأني بائع بإزاحة كيس البطاطا المتوضع
وسط الشارع، لم تفرغ البلد إذاً! يا للسعادة!

الحي المختلف الذي تتنفس فيه الحرية هو مساكن الأشرفية، أعلام الاستقلال مع العلم الكردي تزين الشوارع النظيفة، وعناصر حليقة
من الجيش الحر تبتسم وترحب.

على مدخل الأشرفية استوقفنا رجل كبير بالسن ومعه ربطة خبز وصعد معنا لنوصله للمساكن، وعندما عرف أننا إعلاميين سألنا عن
عبيدة بطل، يتابعه منذ أن كان يعمل في برنامج “الكره في ملعبك” دعا له بالفرج وعلى خاطفيه بالموت…حتى من لا يعرفك يا صديقي
لم ينسك..

وصلنا المكتب الإعلامي فاستقبلتنا صبيتان أنيقتان تعمل إحداهما في المكتب السياسي للجيش الحر والآخرى في المكتب الإعلامي!

تجديد مُتأقلم

صمدت بعض العادات الحلبية إلا أنها تعدّلت لتلائم الوضع الجديد، فالدوارات الكثيرة التي تلّفها في الأحياء الغربية والمُقدّمة غالبا من
شركات تجارية أو أصحاب رؤوس أموال تحولت لدورات للكتائب في المُحرر.

الحلبيون أيضاً تكيّفوا بطريقة مدهشة مع قناصة النظام الذين يكشفون العديد من مناطقهم، يحفظون “ابن الحرام” منهم و”الكسول”
ويميّزون المساحة المكشوفة عليهم، ليلاً تستطيع اكتشاف مساحات القناص عندما تُطفئ السيارات أضواءها أثناء المرور منها.

عدا عن القناص لا تهدأ أصوات القصف من راجمات وقذائف وهاون ليلاً ولا نهاراً، ولا تعرف متى تتحول هذا الأصوات من “الأبلود”
إلى السقوط الحر.

في حي طريق الباب أخطأنا صاروخ ليسرق ستة أرواح..من يسكن في المحرر يعتاد على موت الصدفة وحياة الصدفة…فلو أن
الراجمة نزلت ١ سم لكان البناء المهدم بيتنا ولو أننا لم نتوقف لشراء الماء لكانت جثثنا بين تلك التي يحاول الأهالي استخراجها من
تحت الأنقاض.

،القلق هنا صديق فأي مكان تنزل فيه قذيفة هناك صديق أو رفيق أو معرفة

في الكلاسة مازالت بعض الآليات تحاول انتشال جثث المجزرة من تحت الأنقاض، يتكلم النشطاء أن من نجى من المجزرة ينتظر
استخراج جثة من بقي من عائلته ليدفنها ويرحل..إلى أين؟ لا يعرفون لكنهم يريدون الرحيل.

ويشتكي النشطاء مما عانوه في محاولاتهم لشحادة الآليات من الكتائب التي “غنمتها” أثناء التحرير، إحداها رفضت إرسال الآلية حتى
يأذن القائد والقائد لا يأتي للمقر حتى الظهيرة والأنفاس لا تنتظر.. تحت الرماد.

قرب موقع الصاروخ تعرّفت على أحد مبايعي داعش صباحاً وكان يوجه لي الكلام دون أن يخفض رأسه أو يتجنب النظر إلي، حتى أنه
ناداني باسمي، مساءً عندما عندنا للمكان نفسه وجدته وقد حلق ذقنه وسرح شعره الطويل نحو الخلف وكان يغني “شو بعملك أنا حبيت
ومش قادر افتحلك بيت”! وهو جالس على درج صغير وعلى حضنه اللابتوب.

سلمية في حقل الألغام

في المظاهرات يشارك العديد من المقاتلين عُزّلاً مع فرح يطفو من عيونهم، بعد مظاهرة الجمعة التي شارك فيها المئات كتب أحدهم
على صفتحه “بعد زماااان..شمّينا اليوم ريحة السلمية..ويا محلاها الحرية”.

سمعنا بالضربة الكيماوية على الغوطة ممن دخل للنت، خرجت عدة مظاهرات عفوية تهتف للغوطة، كان الحديث الدائر في كل مكان،
بائع بصل يابس كان يخبر جاره صاحب بسطة الخيار “روسيا وراها” وآخر عامل يجر عربته سألنا “العدد مرشح للازدياد أديش
الحصيلة النهائية اللي اسمعتوا فيها”؟

علمنا أن مظاهرة أكبر انطلقت بالشعار كما خرجت ثالثة مساء هتفت لأبو مريم المخطوف و”الله سوريا حرية وبس”.

أحد المسعفين في النقطة الطبية رأيته في المظاهرتين كان يسلم أحدهم مكانه ويركض خلف المظاهرة قبل أن تنتهي ويعود لعمله.

قائد كتيبة مقاتلة من المدينة شاب جميل مفعم بالنشاط والحيوية وهو لم يبلغ سن العشرين بعد، كلما تحدثنا عن “داعش” والمطالبة
بالمخطوفين يُهمل سلاحه المرخى على حضنه و يقفز وسط السيرة ليقترح حملة بخ وتوزيع مناشير ويتبرّع بتوزيعها بنفسه..

ولا تعيش السلمية بين النشطاء السملين فحسب..وسط السوق المزدحم لبستان القصر كان رجل في الخمسين من عمره يحمل لافتة ملأ
يديه ويمشي بها مسرعاً..كتب عليها “إلى جميع الكتائب..انتهى وقت الكسل إلى الجبهات”

ويتعايش بعض النشاط السلمي مع الحرب بطريقة مذهلة، في إحدى المشافي الميدانية كان الأطباء يتخاصمون من سيخرج مع الجيش
الحر إلى جبهة “خناصر” وهي من أشد الجبهات وأصعبها لقطع طريق الإمداد على النظام من حلب إلى مدارس الدفاع.

طبيب نحيل ملّون شديد البياض يطابق في ملامحه صورة المسيح في رأسي كان يجادل “أنا عندي حدا يعّبي مكان بالمستشفى، انت
طلعت المرة الماضية على الجبهة صار دوري”.

لا يوجد مسعف يخلو قلبه من وجع على شهيد صديق، ويصلح هنا أن أعمم وأقول إطلاقاً، في الضربة الأخيرة على الكلاسة استشهد
مسعفان في النقطة الطبية عدا عن قطع أشجار عائلات بأكملها من الجيران والأقرباء.

لا يختفي حس الشهداء من النقاط الطبية، تحتاج للتركيز لتكتشف أن من يتحدثون عنه هو شهيد وليس غائباً في غرفة الاسعاف الأخرى.

في النقطة الطبية يدخل رجل طويل بملامح جامدة يسأل بكل جدية “شفتولي ولد عمده ٣ سنين؟ ضيتعه يوم المجزرة وقالولي الناس إنهم
جابوه لعندكم”.

سيدة أخرى تدخل وقد تعرضت للقنص من جندي نظامي بيدها على معبر بستان القصر وبينما كان أحد الشبان يسعفها قالت له “كان
لازم الصاروخ يروح الحارة كلها، لازم بشار يضربكم بالكيماوي”، أخو الشاب الذي كان يسعفها استشهد بضربة الصاروخ.

“الماسونية انتهى”

جملة تقرأها بخطوط وألوان مختلفة للبخاخات على مختلف الدوارات والجدران المتهدم منها والصامد في مدينة حلب.

يُضاف إلى بعضها “خلف جند بشار.. الماسونية انتهى”. يكتبها رجل يُدعى آدم البلجيكي إلا أن ملامحه إفريقية، رأيته يتجول بلباس
أفغاني بنفسجي اللون، يتحدث النشطاء أنهم ما إن ينهوا تشكيل أحد الدوّرات ظهراً حتى وجدوه وقد بخّ شعاره مساء ويبدو أن أحدهم
أخيراً تمكن من إفهامه أن الماسونية مؤنث تحتاج إلى تاء تأنيث في فعلها انتهى.

رأيناه في حي السكري وكنت في السيارة مع مقاتل في الجيش الحر ورفيقي، نظر إلي وبشكل مستمر لأكثر من عشر دقائق ونحن في
الازدحام، كانت نظراته لئيمة تحمل من الدهشة والكره والإعجاب خلطة عجيبة حتى أنه لم يعبأ بنظرات رفيقي له، يقول آدم البلجيكي
من تريد أن تطلع “سبور” بلا عباية وخمار تروح على أوربا!! الغريب المعتوه يقرر من سيبقى في بلدي ومن يغادر!!

مجلة أوراق

خاص بالموقع

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here