عبدالباقي حسيني*
مجلة أوراق العدد 13
قصص
تتّكئ زيلان (زيلو) على صخرة في فناء القرية التي تعيش فيها وعيناها في زرقة السماء، تقول لصديقتها بريخان (برو): يا ترى، متى سيحين موعد نصيبنا في الزواج؟ آخ لو يأتي أحد شبابنا المهاجرين إلى أوربا ويخطبني، سيكون يوم المنى بالنسبة إلي، وسيكون كمن يطرق بيديه بباب الجنة.
ردّت عليها بريخان مازحة: وماذا ستفعلين في أوربا؟
ردت زيلان مباشرة على بريخان قائلة: سأفعل العجائب في أوربا، سأكون أوربية أكثر من الأوربيين.
– يا ويلاه: أإلى هذه الدرجة أنت مستعدة أن تصبحي قحبةً، وتضحك.
تضحك زيلان أيضاً وتقول: هذا زمن القحبات.
بعد مرور بعض الوقت على هذا الحديث، تحقّق حلم زيلان، حيث خطبها شابٌ من قريتها الذي كان يعيش في أوربا.
لمّا وصلت زيلان برفقة الشاب إلى اليونان حيث كان يعيش فيها، وبعد فترة وجيزة من إقامتها معه، قال لها زوجها: الفرص صعبة هنا في اليونان، سأرسلك إلى مملكة السويد، ما إن تحصلي على حقّ اللجوء، سآتيك، وهكذا ستتحسّن حياتنا في أوربا.
فكرت زيلان في الأمر ثم قالت: حسناً. كانت تقول في نفسها: نعمة من الله، أن يكون المرء حرّاً في أوربا.
سافرت زيلان إلى السويد، وقدّمت طلب اللجوء إلى البوليس. كمهاجرة قدمت للتوّ من بلادها.
أجابت في التحقيق: إنني متزوجة، وزوجي مازال في الطريق، ربما يصل قريبا إلى اليونان. كذبت على السلطات السويدية كيلا يعيدوها إلى اليونان عند زوجها، لا سيما إن زوجها لديه إقامة رسمية هناك.
وافقت الحكومة السويدية على طلبها، كونها امرأة تحتاج إلى الحماية، وأفرزتها إلى أحد مخيمات اللجوء. ما إن وصلت زيلان إلى المخيم (الكامب) حتى تفاجأت بوجود صديقتها بريخان في ذلك المخيم. تعانقتا طويلا، أطمأنتا عن أخبار بعضهما البعض. سألت زيلو: برو، ماذا تفعلين هنا وكيف أتيت إلى هنا؟ ردت برو: أتيت إلى هنا لكي أصبح قحبة، ولماذا وحدك تصبحين قحبةً. ثم أطلقتا قهقهة، وصل صوتُ ضحكتهيما إلى أعلى السماء. اتّكأتا، ثمّ روت كلّ منهما قصتها للأخرى.
قالت برو لزيلو: كما يقولُ الكُرد “حظّها كحظ القحاب”، هكذا جاءني الحظ السعيد. بعد سفرك مع دجوار إلى اليونان، قلت لوالدي: إذا سنحت لي فرصة السفر إلى أوربا، هل سيكون ذلك مشكلة لكم؟
قال أبي وأمي وبصوت واحد – وأنت تعلمين كم هما مساكين – سافري يا بنتي، مع السلامة.
لما سمعتُ كلامهما، ومن دون تردّد، حاولتُ أنْ أبحث عن أحد الشباب الذين لهم نية السفر إلى أوربا، أو عن الذين يعيشون في أوربا، ويرغبون في الزواج من فتاة من البلاد. ذات يوم قال لي أحدهم، لن تجدي طلبك هنا في القرية، سافري إلى هولير (أربيل)، هناك الكثير من الشباب يهاجرون إلى تركيا، ومن ثم إلى أوربا. جهزتُ نفسي وأخبرتُ والديّ، سأسافر إلى هولير، أزورُ صديقة لي. نظرا إلى عينيّ، كانا يعرفان أنني سأذهب بلا رجعة، وقالا: مع السلامة بريخان.
في هولير وخلال فترة قصيرة تعرفتُ على شاب، عمره متقارب لعمري، فقال: إذا أصبحت صديقة لي سأصطحبك معي إلى أوربا، فوافقتُ، وعشت معه بضعة أيام، ثمّ اتجهنا إلى تركيا خلسة. كان لديه مبلغ من المال، فبحث عن المهربين في اسطنبول حتى عثر عليهم، واتفق معهم: نحن اثنان، أنا وصديقتي.
وافق المهربون، لكنهم قالوا: لن تكونوا معاً، لدينا مجموعتان الليلة، كلّ منكما سينضم إلى إحداهما. في البداية سنتجه إلى اليونان، ثمّ من هناك نصل إلى ألمانيا، وهناك تلتقيان ببعضكما بعضاً. لم يكن أمام صديقي أي مفرّ، فوافق على الأمر، وبعد سفرٍ طويل، مليء بالصعوبات والألم والمخاطر وصلتُ إلى ألمانيا، لكن “صديقي” لم يصل. كان هناك شابٌ في مجموعتنا، قال لي: المهاجرون كثيرون في ألمانيا، أنا سأسافر إلى السويد، إذا رافقتني سأساعدك مادياً. أكملت برو قصتها لزيلو: أتعلمين ما هو أهمّ شيء يشغل تفكير الشباب، والرجال؟ كلّ همهم وأمنياتهم هو الجنس. وصلتُ إلى هنا بهذه الطريقة.
عندما وصلنا إلى السويد، سلّمني الشاب الذي رافقتُه إلى الشرطة، والتحق بأهله هنا. كما ترين ها أنا هنا في المخيم. هيا أخبريني زيلو ما هي قصتك حتى وصلت إلى هنا؟ أين زوجك دجوار؟
لخصت زيلان قصتها قائلة:
أنا هنا للحصول على اللجوء، ثم أطلب لم الشمل لمجيء دجوار، هو في اليونان، ولا يستطيع الإقامة هنا، بسبب لجوئه هناك. كنتُ أقول لنفسي: سأعيش تحت ظلال خصيتيه، لكنّه يبدو أنّه سيعيش تحتَ ظلال عانتي. ثم أطلقتا قهقهة عالية.
كانت زيلو تواصل حديثها لبرو قائلة: هذا الوقت مناسب لنا لنقوم بما يحلو لنا، فقد يتطلب الأمر سنة أو سنتين حتى يصل دجوار إلى هنا.
قضت برو وزيلو أوقاتاً ممتعة في المخيم، وهما تعقدان الصداقة مع أي شابٍ يعجبهما، وتمارسان حياة ممتعة كما يحلو لهما. كانت زيلو تذكّر لصديقتها برو: تتذكّرين أيامنا في القرية، كنت أقول لك: سأكون أوربيةً أكثر من الأوربيين؟ ثم ترتفع أصداء قهقهاتهما عالية.
بعد سنة وصل زوج زيلان، لأنها حصلت على حقّ اللجوء فطلبت لمّ الشمل لزوجها. هي لم تكن لديها رغبة في ذلك، لكن اتصالات دجوار لم تنقطع عنها ليلا نهاراً، إضافة إلى تهديده لها بالقتل إن تقاعست في طلبه.
عاش دجوار وزيلان معاً، لاحظ دجوار بأن زيلان تغيرت كثيراً، وتغيرت حياتها، ولم تعد تهتم به كثيراً. تصرفاتها ونمط تفكيرها لم يعجباه.
قرر دجوار الانتقام منها، عندما سمع دجوار أن صديقتها بريخان تعيش وحدها في السويد. تقرّب منها. ثمّ أصبحا صديقين سرّاً. باح كلٌّ منهما بمشاعره للآخر.
كان دجوار يزور بريخان سرّا، ويمارسان الحب، وعندما تأتي برو إلى صديقتها زيلو كانت عيناها تبحثان عن دجوار. شعرت زيلو بانّ هناك علاقة ما بين زوجها وصديقتها، وتقول لنفسها: لا أصدق أبداً بأن صديقتي ستخونني هكذا، ولا أن دجوار مستعد للتضحية بنفسه من أجلي، لا، لا لا أصدق.
ذات يوم اصطحب دجوار صديقاً له، تعرف عليه مؤخراً ويدعى آزاد، ليتغدى معه في البيت. عندما رأته زيلان، أعجبت بشكله، لكن آزاد، الشاب الأنيق والمثقف، وصاحب الخبرة في عالم النساء، قرأ في عيون زيلو بأنها تكنّ له مشاعر ما، لكنه لم يعيرها الانتباه، حفاظاً على صداقته مع دجوار.
في أحد الأيام وجدت زيلو صورة لزوجها مع صديقتها برو على جواله (هاتفه)، جنّ جنونها، قالت في نفسها: أيّها الغدار، تخونني مع صديقتي. والله العظيم سأخونك مع صديقك.
حاولت زيلو أن تقوي علاقتها مع آزاد، وخلقت له الكثير من الفرص للتقرب منها، وفي النهاية أبدى آزاد رغبته وسعادته تجاهها، وهكذا تحسّنت علاقاتهما، ومارسا معاً أوقاتاً جنسية، حميمية. صحيح أنّها تخون زوجها، لكنّها لا تستطيع نسيان خيانة زوجها وصديقتها، فوضعت أمام عينيها خطة. ستزورُ صديقتها ذات مرة دون أنْ تخبرها.
عندما دقّ باب بريخان، وفتحت الباب، اندهشت من وجود زيلو، قالت: لم أتيت من دون موعد لزيارتي.
أجابت؛ أحببتُ أن أفاجئك، اسمحي لي أنْ أدخل.
اصفرّ وجه برو، وتلعثم لسانها، وتحيّرت في الكلام. أثناء ذلك جاءها صوتُ دجوار من داخل البيت: مَنْ يا برو؟
عندما سمعت زيلو صوتَ دجوار، جنّ جنونها، فصرَخَتْ، وهاجمتْهُ، مطلقة شتائم ثقيلة بحقه وبرو.
ثمّ قالت لدجوار: لا أريدك أن تأتي إليّ مرة أخرى، ابقَ هنا، أنت وبرو أنتما مباركان لبعضكما بعضاً، وخرجت غاضبة.
اتّجهت زيلو إلى الشرطة، وروت لهم تفاصيل قصّة خيانة دجوار، وأضافت أشياء من عندها: إنه يستخدم الضرب معي دائماً. فأصدر البوليس مذكرة اعتقال بحقه، ثم تم القبض عليه ووضعه في السجن يومها.
مرّت فترة من الوقت، التجأ دجوار إلى صديقه آزاد، وأخبره هاتفياً: هل تستطيع أن تقدم مساعدة لي، وتتوسّط بيني وبين زيلان، من أجل المصالحة، لأن له مكانة خاصة عند زيلان، اطلب منها أن تسامحني، كي أرجع إلى المنزل. كان أمام زيلان وآزاد فرصة ذهبية للقاءات بغياب دجوار عنهما، وسجنه بضعة أيام، لكنّ آزاد طلب من زيلان أنْ تسامحه هذه المرة ليعود إلى البيت.
عاد دجوار إلى البيت، لكنّه فقد الثقة بزيلان، وشكّ بأمرها، فقد ازدادت علاقاتها مع آزاد، وبدأ يراقبهما خفية وبهدوء، وذات يوم ضبطهما معاً وهما يمارسان الجنس، استشاط غضباً، وهاجمهما، فضربهما بشدة، وألحق بهما الأذى، وهرب من البيت. اتّصلت زيلو بالشرطة فوراً، فأتوا حالاً إلى بيتها، ماذا يرون؟ إنهما جريحان، ومخضبان بالدماء، فأسعفوهما إلى المشفى، ولاحقوا دجوار حتى قبضوا عليه وأودعوه السجن.
بعد أيام، اتصلت الشرطة بزيلان وأخبروها: سنطرد دجوار من السويد، ولن يستطيع البقاء هنا، وعليك تغيير المنزل كيلا يعرف عنوانك. ما رأيك؟
قالت زيلان: سيكون من الأفضل ترحيله إلى البلاد، وسأقوم بإجراءات الطلاق الرسمي منه فوراً. تمّ ترحيل دجوار إلى كردستان، وبقيت زيلان في السويد.
اتصل دجوار بزيلان بعد فترة، وقال لها: زيلو، لستُ من صلب أبي إذا تركتك هكذا، ولم أقتلك. هدّدها بالقتل إذا لم تحاول إعادته إلى السويد.
كانت زيلان تسجّل كلّ مكالماته، ومكالمات أهله عند الاتصال بها، وتسلّمها إلى البوليس، من أجل منعه من العودة إلى أوربا مرة أخرى.
من جهة أخرى يتصل دجوار بآزاد مع التهديد والوعيد إذا اقترب من زيلان. ذات يوم أخبر آزاد زيلان هاتفياً قائلاً: لم نعد نستطيع أن نبقى صديقين، لأنّ زوجك يتصل بي يومياً، ويرسل رسائل التهديد والوعيد بالقتل، فلا نستطيع الاستمرار بهذه الحالة، فودعها، وأغلق الهاتف.
بعد مرور أشهر التقى آزاد وبريخان، فقاما برواية القصص التي حصلت معهما ومع زيلان ودجوار.
قال آزاد لبريخان: إن زيلان ودجوار زوجان، سيتدخل الكثيرون من أجل المصالحة بينهما، وهما مازالا زوجين وفق الشريعة الإسلامية. أما نحن في هذا المكان فلا أحد لنا، لماذا لا نتزوج. بدأت برو تفكّر بالموضوع بعد فقدانها الأمل من عودة دجوار.
إلى الآن تعيش زيلو في مكان مجهول، ومازال دجوار يرسل لها رسائل التهديد والوعيد.
*كاتب وقاص وإعلامي كردي سوري، مواليد القامشلي 1961، ماجستير في العلوم الزراعية من جامعة أوسلو، يرأس الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا، نشر: خمسة كتب ومجموعات قصصية.