الرسومات على جدران الكهوف، وهي من أوائل الاشكال البدائية للفن، كانت تعكس ملامح الواقع المُعاش
كصور الوحوش الضواري أو الطرائد التي كان يصيدها الإنسان القديم، والشمس ووجوه الآلهة التي يعبدها
أو الشياطين التي يخشاها.
وقد التصق الفن بالحياة على امتداد مئات القرون إلى أن صارت جودة أي عمل أدبي أو فني تُقاس بمدى
دقته في تصوير الواقع، ومنها جاءت مقولة أرسطو أن الفن يُحاكي الحياة. وقد تجلى وذلك بمنتهى الوضوح
في الأدب بدءا من هوميروس وإلياذته، وصولا إلى تشارلز ديكنز وتصويره لإنجلترا في القرن التاسع عشر
إبان الثورة الصناعية، وإلى نجيب محفوظ وتصويره لمصر في النصف الأول من القرن الماضي في ثلاثية بين
القصرين، قصر الشوق، السكرية. وفي الموسيقي، نجد مثلا أن مقطوعة “أسواق فارس” الكلاسيكية لآلبرت
كيتلبي تكاد تنطق وهي تنقلنا إلى الأجواء المميزة لبازارات بلاد العجم، بينما سمى بيتهوفن سيمفونيته
الخامسة “القدر يقرع الباب” لما تستحضره موسيقاها من أجواء درامية مروعة. أما في الرسم، فهناك
لوحات تحكي مجلدات عن وقائع تاريخية، ربما أشهرها على الإطلاق لوحة العشاء الأخير للمسيح للفنان
لليوناردو دافنشي، ولوحة لاجورنيكا التي صور فيها بيكاسو ويلات الحرب الأسبانية
وشيئا فشيئا لم يعد يقنع الفنان بتقديم صور فوتوغرافية عن الحياة، وعن المشاعر الإنسانية الأبدية من حب
وحزن وغضب وطمع وشهوة الانتقام كما في أعمال شيكسبير، بل أخذ يطمح لأن يستطلع المستقبل وأن
يُنير الدرب ليلعب دور الإله الإغريقي بروميثيوس الذي وهب شعلة النور للبشر.
فمثلا يُجمع النقاد أن الروائي الروسي مكسيم غوركي قد تنبأ بالثورة البلشفية التي وقعت في عام 1917 في
روايته “الأم” التي كتبها عام 1905، وأن رادار نجيب محفوظ قد التقط هزيمة عام 1967 في رواية
“ثرثرة فوق النيل” التي كتبها قبل النكبة بسنة. أما الروائي الأنجليزي آلدوس هاكسلي فقد حذر في روايته “
عالم شجاع جديد” من الأبالسة التي ستطلقها طفرة هندسة الجينات وكيف أن البشر سيتحولون إلى
مخلوقات تشبه الروبوتات وتُصمم لأغراض معينة، ونحن نشهد اليوم البدايات الوقحة لتحقيق تلك النبوءة.
ولعل هذه القدرة لدى الأدب على استباق المستقبل جعلت الكاتب الأمريكي أوسكار وايلد يعكس مقولة
أرسطو ليقول: “إن الحياة هي التي تُحاكي الفن أكثر مما يحدث العكس”. وكل من شاهد الفيلم الأمريكي
“Contagion” الذي أنتجته هوليوود عام 2011 سيُصدم بمدى تطابق وقائع الفيلم مع ما يحدث الآن عام
2020 في العالم من جراء وباء كورونا، أي أن هوليوود أخبرتنا أن كورونا قادم قبل ثماني سنوات من
وصوله.
ولكن ربما أهم دور للفن هو أنه يٌجمّل الحياة ويُنسينا عبثيتها ولو للحظات. وسيبقى دوما ذلك الألق الممزوج
بالدهشة لهذه الجدلية القائمة بين الفن والحياة، ولولا جمال الفن لربما قتلنا قبح الواقع.
*خاص بالموقع