زياد طرقجي: الكلمة المناسبة

0

في عصر الوجبات السريعة والاتصالات السريعة، صار الإنتاج الأدبي أيضا محكوما بإيقاع العصر. ربما “ذهب مع الريح” ذلك النهج الذي كان ينشد أرقى درجات الابداع. وما دمنا في ذكر تلك الرواية ” فلا بأس من الإشارة إلى أن الكاتبة مارغريت ميتشل استغرقت عشر سنوات في كتابتها. والطريف أن النجاح الرائع الذي لقيته الرواية لم يُغرِ كاتبتها بالاستمرار، فهي لم تكتب سواها!   

تولستوي أمضى ست سنوات وهو يكتب رائعته “الحرب والسلام”. وحين كان الروائي الفرنسي جوستاف فلوبير عاكفا على كتابة ” مدام بوفاري”، قابله أحد أصدقائه وسأله عن سير الرواية، فقال فلوبير ممتعضا إنه أمضى أسبوعا كاملا يحاول أن يكتب جملة واحدة، فقد أعياه البحث عن “الكلمة المناسبة”!! …بعد ذلك، أصبح تعبير ” الكلمة المناسبة” من أشهر الاقتباسات في عالم الأدب ككناية عن البحث عن الكمال في الكتابة.

وقد سار على خطاه، وربما فاقه، عملاق الرواية الإنجليزية الإيرلندي جيمس جويس، فحين سأله أحد النقاد عن الرواية التي يكتبها وقتها – وهي عوليس – قال جويس إنه ظل يعمل طيلة ذاك اليوم. فقال الناقد: لابد أنك كتبت صفحات عدة. فأجابه جويس: أبدا، فأنا لم أكتب سوى جملتين فقط. اندهش الناقد وظنه يمزح ولكنه رآه جادا فقال له: وهل كنت تبحث عن ” الكلمة المناسبة” على طريقة فلوبير. فرد جويس قائلا: لا…لا… كانت الكلمات لدي، لكني كنت أبحث عن الترتيب الأمثل لها في الجملة.”

هذا الاحترام الذي يصل لحد التقديس لفن الكلمة قد يبدو شططا ومبالغة بمقاييس عصرنا. ومع ذلك يظل هناك من ينفر من الاستسهال. آخرهم كان الروائي الأمريكي المعاصر فيليب روث الذي يقول “أشعر بالقلق عندما تأتيني الكتابة بانسيابية تامة، فهي مؤشر أن لا شيء يحدث فعليا، وهي بالنسبة لي إشارة بأنه ينبغي عليَ أن أتوقف”.  ويضيف “لأمر الذي يقنعني بضرورة الاستمرار هو فقط الإحساس بأني في الظلام حين أنتقل من جملة لأخرى.”

أما في الأدب العربي، فربما تندر الآن مثل تلك الحالات التي يذهب فيها الكاتب بعيدا بحثا عن الكمال، أو على الأقل لحذف الحشو وكل ما لا يؤدي وظيفة في النص الأدبي. بل ويفخر تراثنا بأن الكثير من القصائد الشهيرة لشعرائنا كانت مُرتجلة…بما يشبه الولادات القيصرية!  
لكن من قبيل الانصاف، لابد من ذكر الاستثناء المرموق، وهو الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، الذي كانت قصائده تُىسمّى بالحوليات لأن القصيدة كانت تستغرقه حولا، أي عاما كاملا، حيث كان يكتبها في أربعة أشهر، وينقحها في أربعة، ثم يعرضها على الذواقين من أصحابه في أربعة، ثم ينشرها بعد ذلك.

واليوم، صرنا نعبر عن مشاعرنا من فرح وحزن وغضب وحب بصور الإيموجي… وكفى الله المؤمنين شر الكتابة!!

*مقال خاص بالموقع

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here