ما أن انتشر فيروس كورونا، حتى دارت معه بعض الصور والفيديوهات، التي يظهر فيها الضئيل من علامات موتاه. ربما، العالق في الخاطر منها، هو: صورة لوقوف أهل الفقيد بعيداً من نعشه في إسبانيا، وصورة لمقبرة جماعية في نيويورك، وفيديو لحرق جثة في إيطاليا… طبعاً، من الممكن الوقوف على غير الأمثلة المقدمة هنا، لتكون من بلدان أخرى، لكن ما يهم، في هذه الجهة، أن الأمثلة تلك بمثابة عيّنة، يستدعيها التذكر من أجل الإشارة منها إلى صلة محددة بموتانا.
على أن الصلة هذه بالموتى لا تتعلق بكونهم من المصابين بالفيروس، إنما أن الوضع الذي أنتجه الفيروس أوضحها: الوداع إبعاد للموتى (صورة اسبانيا)، المقبرة رجاء عزلهم عن حواضر الأحياء (صورة نيويورك)، والدفن إزالة لهم (صورة إيطاليا). هكذا، من الممكن القول إن صلتنا تلك بهم هي صلة نفيهم، الذي لا يبغي، في نهاية المطاف، سوى نفي موتهم، نفي الموت بحد ذاته. فلا يجب أن يكون للموت مكان بيننا، ولا يجب أن يكون له أي أثر، لا سيما الأوّلي منه، أي الجثة، وبعبارة واحدة. الموت ممنوع من الحدوث، أي ممنوع من صرفه كحدثٍ، يبدّل العيش، أو يكسر الروتين، أو يشقلب النظر، أو يحول التعقل، أو يطرح إمكانات مختلفة، إلخ. إذ إنه، وحين يستوي على هذا النحو، يكون عنواناً لأمر معين، وهو السلبية.
فنفي الموت متعلق بمشروع رئيسي من مشاريع الرأسمالية، على مقلبها البيو-سلطوي، صحيح، لكن، على كل مقالبها الأخرى أيضاً: مشروع نفي السلبية. وهذا على أساس أن السلبية هي عطب في الحياة، بحيث أنه يؤدي إلى إيقافها، وبالتالي، حين تعمد إلى التخلص منه، تصير حياة أكثر. إلا أنه، وعلى عكس هذا التصور، السلبية ليست عطباً، كما أن الحياة، وحين تطرده، لا تصير حياة أكثر، بل تصير مجمدة، كما تنزع، وباستمرار، إلى الأبد، إلى نظامه.
لذلك المشروع أشكال كثيرة، وفي مقدمتها، مذهب الخطاب العلمي إلى تأخير الموت، أو الرفع من مأمول الحياة، أو الانتهاء من مفاعيل الوقت على الجسد. لكن الخطاب العلمي سرعان ما يتوازى مع غيره، مع الخطاب الميديوي، الذي كانت صفحة الوفيات تبرزه في السابق، قبل أن تنفجر وتصير شاشة: لا وجود للناس، وما أن يموتوا حتى يصيروا موجودين لنا. فموتهم يحملهم إلى هذه الصفحة، أو إلى تلك الشاشة، وبالتالي، هذا الموت محبوس داخلهما، ولا يتعداهما إلى القارئ-المشاهد، بما هو الفرد البرجوازي الصغير، الذي يتلقاه كنبأ أو مشهد، ليكون قادراً على إطاحته: إنه الموت، وقد خلا من نفسه، إنهم الموتى، وقد تعرضوا للاعتقال!
لكن إخلاء الموت من نفسه، واعتقال الموتى، قد يصل إلى ذروته، بحيث يصير الموت محسوباً، والموتى أرقاماً. على هذا المنوال، وفي العام 2014، وحين علّقت الأمم المتحدة عملية إحصاء القتلى الذين اغتالهم نظام بشار الأسد في سوريا، كانت، في الواقع، تتمم حسابهم، وتمضي، على طريقة النظام إياه، إلى جعلهم معدومين، إلى جعلهم من دون وجود. بهذا، وبإيقاف العد، وصل مشروع نفي الموت، بوصفه مجرد عنوان من عناوين السلبية، إلى أوجِه، وتكشّف عن كونه، وفي عقبه وصميمه، استمراراً للمجزرة.
حالياً، مع انتشار كورونا، تتواصل عمليات نفي الموت، بالغةً وضوحها، بحيث أن ما يسمى فضاءها العام لا يتوانى عن امتصاصه. وهذا، لسبب بديهي، وهو أن مشروعه إياه، مشروعه ضد السلبية، اصطدم، وفي إثر الفيروس، بدربه المسدود. طبعاً، اصطدامه يجعله، أسوة بكل مشاريع رأسماليته، مشروعاً تافهاً، ومستبداً في تفاهته. ولا بد لموتنا وموتانا أن يتحرروا من هذا كله!
*المصدر: المدن