روجيه عوطة: سوسيولوجيا الضحك

0

في كتابها حول الضحك(*)، تبدو لور فلاندران أنها تحاول الإمساك بكل مردات وآثار هذا التصرف الانفعالي. تُقدم على ذلك من باب أن الضحك لم يكن يوماً محط دراسة فعلية في علم الاجتماع، أما ما حُبّر عنه في مجالات أخرى، فقد بقي حتى اليوم قليل. على هذا النحو، تعمد فلاندران الى “سَسْلَجة” الضحك، أي جعله موضوع للسوسيولوجيا، التي تقف عند أوضاعه في المجتمع الحديث وصلاته ببناه، وهذا إلى درجة بناء ما يشبه خريطة له. وفي هذه الخريطة، يبدو الضحك أنه أينما كان، كما يبدو أنه، ورغم شيوعه هذا، يتوزع على عدد من الوجهات، أو يندرج تحت عدد من الخانات. كما لو أنه، وفي محصلته، غير مضبوط كتصرف، لكنه مضبوط كذلك من جهة أنه ميكانيزم مجتمعي.

هذا ما تشدد عليه فلاندران، التي تشير الى كون الضحك يحمل معنى التمرّد على السلطات ورفضها، لكن حاله هذه لا تلغي أنه قد يكون آلية محافظة، بمعنى أنها تودي الى الحفاظ على النظام المجتمعي مثلما هو. من هنا، تبدأ فلاندران بمبحثها حول وجهات الضحك وخاناته، التي تحددها بأربع.

الخانة الأولى هي الضحك بفعل التدهور، وهو ضحك مشروط إذا صح التعبير باللعب على هرمية المجتمع، بمعنى إنزال من هو في موقع أعلى الى موقع أدنى، أو العكس. صحيح ان الضحك هنا يغير مواقع الشخوص المضحوك عليها، لكنه في نتيجته لا يغير في الهرمية تلك، إنما غالباً ما يبرز انه ينتقدها من باب كونها ليست متماسكة.

الخانة الثانية هي الضحك بفعل نزع القدسية، وهو غالباً ما يدور حول مواضيع دينية، بالإضافة الى أخرى دينيوية تحمل هالة القداسة. نزع القدسية عن موضوع من هذه المواضيع عبر الضحك، يجعله من عالم الموتى فجأة، ما يهب لهذا الفعل بُعداً كوميدياً. لكن هذا بالتحديد ما يؤدي الى تشكيل مقدس جديد، أو إلى تكريس قداسة أخرى. ولذلك، تحدي الضحك بنزع القدسية هو أن يكون ضحكاً معمماً، كما الا يكون هو نفسه مقدساً.

الخانة الثالثة هي خانة الضحك بالادعاء، الذي يتمحور، ومن اسمه، حول ادعاء شيء ما ليس فعلياً، أي مثلاً تظاهر الشخص بما هو ليس عليه: شخص ما يدعي انه ميسور بطريقة تبعث على الضحك. تظاهره كوميدي، إلا أنه ينطوي على الرفع من قيمة الانتماء الى الطبقة الميسورة.

الخانة الرابعة هي الضحك بالتعليق، اي تعليق كل ما اعتاد المجتمع، وبطريقة ميكانيكية، على فعله، أكان حركات جسدية، من قبيل المشي للتنزه، أو عادات على اختلافها. الضحك هنا ينم عن تعطل تلك الحركات والعادات لبعض الوقت قبل رجوعها الى سيرها: ضحك بسبب شخص يحاول تشغيل سيارته، فينتزع المقود من مكانه. هذا الضحك يؤكد على أهمية تنفيذ تلك الحركات والعادات بشكل دقيق، وإلا عندها سيُنتج كأنه تهكم على الأعطال.

ومع تحديد خانات الضحك على هذا المنوال، تشير فلاندران الى ان المهم في الضحك ليس فقط موضوعه، انما جماعته أيضاً. بعبارة أخرى، ليس المهم عن ماذا أو على ماذا نضحك، انما مع مَن نضحك (يجب اضافة استفهام على استفهامات فلاندران، وهو: لمن نضحك؟). في هذا السياق، تشرع فلاندران في مقاربة جماعات الضحك المتنوعة. فهناك تلك الجماعات التي تركن الى الضحك من محلها كثورية، ومن باب أنه مزعج للسلطة، وهناك جماعات اخرى تركن اليه من باب السخرية من كل ما هو ضعيف. بالتالي، الضحك، ومع أنه مشترك بين هذه الجماعات، فهو يشكل مجالاً للصراع بينها.

فعلياً، تبين فلاندران أن الضحك له تاريخ، وهو يتطبع بزمنه. فمرّة يكون ضحك طبقات، ومرّة ضحك هويات، ومرات الإثنين معاً. ومرة يطلق عنانه، ومرة ينضبط في حدود الصواب السياسي، ومرات، يتفلت من كل شيء. في الواقع، هذا ما لم يحصل نوعاً ما للضحك في مبحث فلاندران، بحيث ان هذا المبحث، وفي حين تناوله له، بدا أحياناً من دونه. كما لو أن اللغة السوسيولوجية تطحنه، من كثرة تعيينه، ومن كثرة عقلنته أيضاً. وكما لو أنه، وفي هذه اللغة، لا يجد الضحك مطرحاً لمصادفته أو لحريته. وهذا بالتحديد، ما حاولت فلاندران في خواتم كتابها التنبه اليه، محاولة، وبذلك، اعادة الضحك، وبعد “سَسْلَجته”، الى حياته.

*المدن