رواية الضباع: المكان القاهر والمقهور

0

عمر الحمود، محام، كاتب روائي، وقاص سوري.

أوراق 19-20

نقد

تنتمي هذه الرواية إلى مايسمى (الرواية القصصية القصيرة)، ومن نماذجها رواية قنديل أم هاشم ليحيى حقي ورواية الشيخ والبحر لهمنغواي. وهي من جملة روايات قصيرة ضمن مسيرة الكاتب إبراهيم الخليل الروائية كرواية حارس الماعز ورواية حارة البدو.

وتنطبق عليها مقولة: سيرة المكان سيرة الإنسان، حيث يعيد الكاتب اكتشاف (الرقة) المغيّبة عن المكان في المشهد الروائي السوري، وفي ذلك إعادة الروح إلى الأطراف لتكون فاعلة في الرواية، وليست في القصة والشعر فقط.

من المعروف أنّ ظهور الرواية ارتبط بالمدن، فالرواية بنت المدينة بامتياز، وكعادته يهتم الخليل بالمكان ومفرداته كفضاءٍ خاص، تعامَل معه كما دأب كبار المبدعين بوصفه حيزاً جغرافياً وحيزاً إنسانياً، يؤثر هذا الحيّز، ويتأثر، ويعكس معالمه على رواياته، فوثّق المكان بعناية وحداثة حتى تكاد أن تجزم أنّ المكان نصٌ موازٍ لرواياته، يعطّرها بالخصوصية، ويثريها بالتفاصيل، فاهتمّ بالمدينة وريفها كأمكنة تتمسرح فيها الأحداث، وبدت الرقة الحاضرة الحالية (مدينة الرقة وريفها في فترة الخمسينيات من القرن الماضي دليلنا على ذلك انتشار أحزاب يسارية وزراعة القطن وحلم الوحدة)، وليست المدينة التاريخية القديمة المتألقة بسحرها والمزهوة بأوابدها.

الرقة أمكنة تتواسد فيها المتناقضات، فهي تتعلم مبادىء ماركس الشيوعية، وتؤمن بكرامات عبد القادر الجيلاني الصوفية …

 المكان الرقاوي مكانٌ مستباح وقاهر ومقهور، ينهبه الغريب بعون القريب، ويتكاثر فيه السوء والضياع والوحدة وغدر الأصدقاء وخياناتهم تكاثر الدود الطفيلي في الجوف.

 ومكان لا يبعث على الاطمئنان، وكما يقول ابن عربي: (المكان إذا لم يؤنّث لايعوّل عليه)، وبدا المكان خالياً من مظاهر (النهضة المدنية) كما في المدن الكبيرة، سواء بمعالمه العمرانية أو بتفكير الإنسان، فبيوت الرقة متقابلة ولضيقها تكاد أن تتلاقى، وهي بسيطة البناء ومتلاصقة كأنها تحتمي ببعضها بعضاً من غزوٍ مؤكّد، وحجارتها منهوبة من السور العتيق والأوابد الأثرية، فتشتم منها رائحة المكان القديم ورائحة المكان الجديد المقام على أنقاضه أو من أحجاره …

مدينة بفندق ريفي وحيد يبتلع القادمين من المدن الأخرى، ثم يقيئهم، وبوابات المساجد ولأرصفة تمتلىء بهم في رحلات البحث عن رزقٍ شبه معدوم.

وأكل الدهر، وشرب على وسائل النقل فيها، عبارة عن بوسطات (البوسطة نصف باص معدّل) مهشمة في أكثر من جانب، وباعتبار هذه الوسيلة مكاناً متحرّكاً، فإنها كذلك فقيرة بأثاثها، مقاعد بالية، ومحرّك بالكاد يعمل، وتهبّ من داخلها روائح البشر والمازوت والبصل والغنم والدخان الثقيل: (البوسطة ضيقة خانقة كعلبة من الدخان) ص26. إنها أشبه بقبرٍ، وليست بوسيلة نقل.

وفراتها طاغية، فيضاناته تغيّر معالم المكان، وتجرف البيوت والشجر والبشر، وبليخها يجري نحيلاً لا يرضي العين وبراريها عراء مفتوح وخلاء موحش، وفوق قسوة المكان جفوة الإنسان، فهي موسومة بمظاهر البيروقراطية إلى درجة المرض.

فحمدو القاسم الموظف في مديرية التربية بالرقة يعامل أحمد العميان بجلافة لأنه فقير، وينظر إلى من هم مثل أحمد كأنهم حشرات لا تستحق الحياة، فأوراق تعيينه جاهزة منذ أسبوع، وهو يماطله كل يوم لرغبة دفينة في نفسه كأنه ينتقم من آخر لعب معه الدور نفسه ذات يوم، وفي الوقت نفسه يمتثل هذا الموظف لطاعة أصحاب النفوذ بكل رصى وخنوع: (رنّ جرس الهاتف الأسود الجليل، تناوله بلهفة من يريد إطالة عذاب الذبيحة) ص 8.

المدينة عبارة عن أمكنة قاهرة مقهورة اعتادت على الخضوع للسلطة، وقامت بدورها بقهر الإنسان، فدجّنت الإنسان ليستمر في الخضوع إلى درجة الافتخار بظلم السلطة له: 

(روى والده: ذات يوم كان أحدنا يعود فرحاً طروباً إلى المضافة، ويبدأ حديثاً طويلاً مفاخراً أنّ رئيس الدرك أو أحد الدرك قد بصق عليه، أو ضربه في الطريق بلا سبب) ص10.

وهذا الخضوع تراكم جيلاً بعد جيل، وبعد تحالف القوى عليها من قوى طبيعية (المحل يقتل المواسم، السيل يجرف الزرع، العراء الأجرد يميت الحياة، الفرات يمحو ماحوله من مزارع وبيوت …).

وقوى بشرية (قمع السلطة ممثلة بالمخفر، إهمال المسؤولين، تنكيل السلطة بأبنائها الذين انتسوا إلى أحزاب يسارية تناوىء السلطة، الحرب التي قتلت بعض أبنائها مثل ثلاج الصالح، أو تسببت السلطة بمقتلهم كأبي عايد). وكأنّ القدر خصّها بالقمع، فمن قمع ونواهي القبيلة إلى قمع الشرطة والقوانين التي لا تطبّق إلا على الفقير. قهر يسلب من فيها صفاته الإنسانية في مواقع كثيرة، فعلوان يُدمن الضرب في السجون حتى تحولت قدماه إلى خفي بعير، ركاب البوسطة اعتادوا الانتظار الممل، عوام الناس اعتادوا تسييد العفون وحثالات البشر.

وتذلّ الفقراء من أبنائها، وتجعلهم في درجة متدنية من درجات المخلوقات، يقول أحد الأبطال فيها: (أنا كلب ابن كلب، فقي من الدرجة الثالثة، أقف على قائمتين، وأنبح أكثر) ص 29.

تخصي أبناءها بسادية، وتجعل الرجل أنثى أمام عشيقته: (كانت سرّتها عين تسخر منك، والنهد مخرز) ص17.

هذا التضييق على الإنسان يُسهم في تأسيس حالة عداء مع المكان، فيؤطّر علاقاته ضمن إطارٍ نفعي مقيت، يهدد التماسك المجتمعي في المكان.

المدينة مركزاً وريفاً منبع طيبة وخيرات للآخرين، يأتيها الغريب فقيراً، وخلال فترة قصيرة يصير غنياً كما حصل مع (خوش قدم)، ويعيث فساداً فيها، وكأنها مرصودة للغرباء والغزاة، وأهلها راضين فيها بقدرية وبطيبة تصل إلى حدّ السذاجة، يقول عنهم حمدو القاسم: (القرويون طيبون إذا عرفت كيف تتعامل معهم) ص10.

وأبطال الرواية المثقفين يرفضون هذا الواقع، ويستنكرون فعل الغريب الضال والمضلّ فيها، ويرونها مكان اغتراب وخلخلة لعلاقاتٍ اجتماعية سائدة.

وقد ترحمها سياط الكاتب، وتمنحها فرصة دفاع عن ذاتها، أو تلقي نظرة لوم على جلادها، تخبره فيها بأنّ روحها ثابتة وقوية، وإن بدت هشّةـ وما يمرّ بي عبارة عن زبد.

: (هي كالرمل بُغوي خنوعها، فتندفع، وفجأة يطويك داخلها، ويدمّر روحك، ويكتم أنفاسك) ص12.

ربما تستمد عزماً من وجود النهر قربها، هذا الجبار الذي يحزنها مرة، ويسعدها أخرى، وهي تزداد التصاقاً به في علاقة متينة.

وظهر الريف في الرواية مكاناً واسعاً مفتوحاً، وفقيراً بمعالمه العمرانية وموارده الاقتصادية، بيوتات من طين.  قواويش تدلف شتاءً، وتنبع فئراناً ونملاًـ حظائر ماشيةـ أكوام حطب. مخافر متناثرة صغيرةـ دروب ترابيةـ مراعي وقت المطرـ سهول جرداء وعراء موحش وقت المحل.

فقر يطغى على محاسن اتساع المكان، وجعل الشخصية مهمّشة أو ضائعة متلاشية، ويؤثّر المكان الواسع المفتوح تأثيراً سلبياً على الشخصية، فالعراء يوقظ الغرائز الراقدة، وامتداد الخلاء يحفل بمفاجآتٍ صادمة، ولا تسلم من هذا الأمكنة الرسمية، فلافتقارها للأساس المتين تنهار عند هبوب الريح، أو نزول المطر كما حدث للمدرسة.

ولا يبعد هذا عن المدينة، فالأمكنة الضيّقة والمغلقة فيها يُهان فيها الإنسان، ويُذلّ (مكتب التربية ومكتب التحقيق)، ولا تحقق له الراحة (الفندق)، أو تتسبب في قتله (سطح المخفر)، أو تقهره بضيقها وروائحها المتعفنة حتى تبدو كتابوت (البوسطة)، أو ترغمه على رؤية لا يشتهيها (البيت) وهو عبارة عن غرفة واحدة ، تستريح فيها الأسرة كلها، وتأكل وتنام: (هل رأيت أباك ينام مع أمك، أنا رأيته، أنا المحكوم أن أنام معهم في غرفة واحدة لأننا لا نملك غيرها، وسيرى ذلك أخي الأصغر) ص29.

أمكنة صفحاتها ملأى بالقبح .

فقر المكان يسهم في إفقار الإنسان، لتعاقب سنوات المحل وتوالي الجدب والقحط وإهمال السلطة، وهذا يدفع الناس للركض وراء أي فرصة عمل تلوح في الأفق، ولو كانت من وعود فارغة وسراب خدّاع، ففي مديرية التربية كومات مهملة من المراجعين الباحثين عن عمل مؤقت، وتفوح منهم رائحة التعب والجوع والخوف.

ومكان العلم معطّل، فحين يهدم المطر المدرسة يجمع التلاميذ القطن، ويؤجل التعليم سنة كاملة!.

الريف مكانٌ منسي وساكن برتابة قاتلة، لا يعكّر سكونه إلا أجراس الغنم ونباح الكلاب، وفراغه متعب للنظر ودروبه عارية جرداء. ولكسر هذه الرتابة وفتح نوافذ نور في هذا الفراغ والعماء المرهق يلجأ الإنسان إلى وسائل خاصة يسهم المكان والبعد عن الرقابة والحاجة إلى الذكورة في خلقها كما في لعبةٍ أنبتها العراء الموحش والغرائز المكبوتة، لعبة (السكّارات)* اللعبة الحقيقية التي تفرّدت بها قرى البليخ، وظلت مستمرة إلى بداية الستينيات من القرن الماضي، واستمدها الكاتب من الذاكرة القريبة ….

لعبة بطقس خاص تقوم بها الصبايا على هامش عملهن لرفع منسوب مياه نهر البليخ ليصلح للري، قُتل رجال فيها على يد الصبايا، وهذا الطقس يشبه في وجهٍ من الوجوه اسطورة (عروس النيل) في مصر القديمة التي تُقدّم للنيل قرباناً كي يفيض، وينشر الخير على مصر.

في رواية الضباع ظلّ الكاتب ينتقل بين الأمكنة الضيّقة والأمكنة الواسعة شاهراً راية الهجاء لقبحٍ وقهرٍ يموجان في المكان، فلم يظهر المكان مكاناً حرّاً جميلاً، وانعكس هذا على الإنسان فيه، فبدت علاقة الإنسان بالمكان علاقة مشوّهة.

  • الضباع رواية قصيرة للكاتب ابراهيم الخليل. تقع في 80 صفحة من القطع الوسط. صادرة عن دار الحوار. سورية 1985.
  • لعبة السكّارات*: (عند انخفاض مجرى نهر البليخ عن المنسوب الصالح للري، تجمع القرى عذارى، يعزلن قرب النهر، يجمعن الحطب وعروق السوس في حزم كبيرة، تُدفع متجاورة إلى النهر في أضيق مجرى له، ويردمه الشبان بأكياس التراب، فيستقر، ويشكّل سداً بدائياً يرفع منسوب المياه، يسمى سكْراً، وفي هذا العراء والوحدة يسوء حظ الرجل إذا مرّ قربهنّ وحيدا، يحاصرنه بالفؤوس، يجردنه من ثيابه، ويربطن ذكره بخيط تمسك به إحداهنّ، وتتعرى غيرها، وتدور العارية حوله، تقترب منه، وقبل أن يلتحم بها تنتر الفتاة القابضة على الخيط، فيتلوى عضوه بألمٍ، وهكذا تدور اللعبة بين كرٍّ وفرٍّ حتى يشارف الرجل من الهلاك).