Myriam Ababsa: مريم عبابسة
الترجمة عن الفرنسية: إبراهيم محمود، باحث ومفكر ومترجم كردي سوري، له العديد من الترجمات والكتب المطبوعة.
أوراق 19-20
ترجمة
(أهدي هذا البحث المترجَم إلى الأصدقاء الأحبة من الكتاب
في الرقة العريقة جارة الفرات، تعبيراً عن تقدير، وتذكيراً بتلك
الأيام التي كنا نمضيها معاً في لقاءات الفكر والأدب والثقافة،
وحفاوة أهل الرقة المضيافين وطيب معشرهم). المترجم
“في تفاصيل الطريقة التي يبني بها المتحدثون خطابهم
حول المدينة يتم بناء مبادئ وضوح النظام الحضري”.
(موندادا 2000، ص 5) مريم العبابسة.
تبرز مسألة الهوية الحضرية بشكل خاص في الرقة، التي حافظ سكانها الأوائل على أسلوب حياة رعوي لمدة نصف قرن، والتي كانت تدار، منذ ثورة آذار البعثية la révolution baathiste، من قبل شبه البدو. وهكذا تبنَّى مثقفو الرقة موقفا غامضا تجاه هويتهم. إنهم مستعدون للإعلان أن الرقة مدينة للبدو، بينما ينفون أنهم كذلك. ويزعمون القيم القبلية بينما يشيرون إلى أنهم ليسوا جماعات قبلية. وحرصاً على التميّز عن شبه البدو وموظفي الخدمة المدنية والتجار الذين اجتذبهم تطور المدينة في الستينيات، قاموا بتأليف تاريخ حضري مجيد للرقة سيكونون الأوصياء عليه. وفي كتاباتهم ومؤتمراتهم، أصبحت الرقة عاصمة سوريا خلال ثورة فيصل العربية révolte arabe de Faysal ومكاناً رئيساً للمقاومة القومية. وتصور رواياتهم شخصيتين متكررتين في التاريخ المحلي للرقة: البدي والمديني باسم ساكن المدينة citadinité. ويتم تقديم هذين الشكلين في بعض الأحيان بالاتفاق، وفي بعض الأحيان متعارضين، مما يترك في كلتا الحالتين الأغلبية شبه البدوية في الظل.
ويستكشف هذا الفصل جدلية “القبلية” و”المدينة” في الرقة بناءً على الكتابات والقصص القصيرة ونصوص المؤتمرات الصادرة عن خمس شخصيات بارزة في المدينة: الكاتبان عبد السلام العجيلي، وإبراهيم الخليل، والمؤرخ الشهير عبد القادر عياش، وأصله من دير الزور ولكن له كتاب من مجلدين عن تاريخ الرقة، والمؤرخان المحليان الأستاذ محمد حمد والدكتور محمد نجرس، وكلاهما عضو في حزب البعث. وسيُستخدم مصطلح “القبلية” في البداية لتعيين روابط الولاء والتسلسل الهرمي الاجتماعي على أساس الشرف والاعتراف بالسلف المشترك ancêtre commun. و”سكان المدينة” هو مصطلح جديد تمت صياغته لمراعاة البعد المثالي لعلاقة فرد أو مجموعة اجتماعية بالمدينة، والتي تحدد جميع الإجراءات والممارسات والمواقف والكلمات والعلامات التي توضح علاقتها بالمدينة. “يتضح أن المسكن في المدينة هو كوكبة من التمثيلات في العمل الحضري، وتُغذي طرق القيام بأشياء الممثل والتي تربطه بمدينته، بالمدن، بالمدينة” (ليفي ولوسّو 2003، ص. 160). إنه “نوع من ترسيخ الخيال الاجتماعي. وبالتالي فإن التنظيم المكاني وعمله يشكلان المستوى المعتمد “(لوسو، 1996، ص 36) “1”، باتباع نهج لورينزا موندادا المعروض أعلاه، أتعامل مع دراسة الهويات الحضرية في الرقة من خلال الخطابات التي يلقيها الوجهاء عن أنفسهم ومدينتهم؛ وأنا أوازنهم من خلال تحليل التعليقات التي أدلى بها حول المدينة زعماء العرب من الفرات والقبائل البدوية. ومن ثم أوضح أن التناقض الظاهري لـ “العمران القبلي citadinité tribale” هو أنسب شخصية بلاغية لوصف الروابط التي كونتها العائلات القديمة في الرقة مع مدينتها.
1 -تطور الهويات القبلية والعمرانية للرقاويين
“الرقة مدينة تتسم بالخشونة والمحافظة، وتقود حياة متشددة وضيقة في تقاليدها القبلية. وسكان الرقة بدو أقوياء في علاقاتهم الشخصية، لكنهم يخضعون لأوامر من الذين يمسكون بزمام السلطة في أيديهم”. (العجيلي، 1973).
ذلك ما كتبه أحد أبرز الشخصيات في الرقة – الشخصية الوحيدة التي جرى ترسيخ تمثال لها خلال حياته في مدينة الرقة، إضافة لتمثال الرئيس حافظ الأسد – هذا التوضيح الذي كتبه الروائي عبد السلام العجيلي يأخذنا مباشرة إلى تعقيد هوية الرقاويين، المستعدين لمعاملة مواطنيهم على أنهم “بدو “بينما يُنكرون أنهم كذلك، والذين ينتقدون أحياناً ويتخذون أحياناً أخرى سمات أو صفات قبلية. ومثل الأشكال الأخرى للهوية، فإن الهوية القبلية هي بناء اجتماعي ينبع إما من الأفراد المعنيين، أو من القادة السياسيين، أو من الباحثين. “2”
2 -إسناد الهوية القبلية للرقاويين
يشار إلى الرقة في الكتابات الرسمية على أنها “مدينة قبلية”. في عام 1970، في العدد الخاص من مجلة عمران المخصصة للرقة، يمكن للمرء أن يقرأ: “غالبية سكان المحافظة أصولهم وجذورهم من القبائل العربية الأصيلة ويحافظون على شجرة العائلة وغرف الضيافة والأصالة العربية البدوية، والتي تكشف نفوس سكان هذه المدينة. سوى أن هذا له نظيره في بعض العادات الأخرى التي بدأت تختفي في وجه التطور والتقدم، مثل العصبية القبلية بلا هدف، والقبلية العمياء، وضريبة الدم، وازدراء العمل “(ريفو عمران، 1970، ص 144). وعند كتابة هذه السطور، فإن 20٪ من سكان المحافظة ما زالوا من البدو، والغالبية شبه رحل و16٪ فقط من الحضر.
ويؤكد العلماء الرقاويون أيضا على أهمية القبلية في العلاقات الاجتماعية، حتى لو تم إضعاف هذه الأخيرة تدريجياً بفعل “التطور” و “التقدم”. والخطاب الذي ألقاه عبد السلام العجيلي في مهرجان الرقة السياحي الأول يعرض عناصر هذا الغموض الذي يعاني منه سكان مدينة الرقة تجاه القبائل التي ينتمون إليها. ويسمى: “الرقة في ذاكرة الأجيال” وظهر عام 1998 في كتاب المهرجان وفي يوميات “صوت الرافقة”.
“كانت الرقة في الواقع (في بداية القرن العشرين) مجرد نقطة ضائعة تقريباً في السهوب الهائلة التي اجتازها البدو على جمالهم، وهم يأتون ويذهبون كما يحلو لهم. والقبائل هي الجذور العميقة لسكان هذه المدينة. ويتم الكشف عنها في الحياة الاجتماعية: سواء كان الأمر يتعلق بأسلوب العيش، أو مسألة الزواج والتحالفات، أو الانتقام والديَّة، أو العضوية – إن لم يكن الإعجاب -في القيم الأخلاقية البدوية المتمثلة في الشجاعة والكرم والتقشف، وانتمى بعض أبناء القرية حتى وقت قريب، بشكل دائم أو بين الحين والآخر، لبعض القبائل البدوية: تقاسموا أسلوب حياتهم، ورافقوهم في حروبهم، وداهموهم”.
(الرقة في ذاكرة الأجيال، عبد السلام العجيلي، 1998).
ويشهد الكاتبُ في هذا النص على إعجاب ساكن المدينة بفضائل البدو الرمزية، والتي ستكون “الشجاعة والكرم والتقشف”، وهو إعجاب مألوف في الأدب العربي. وقد وصف العديد من الفلاسفة العرب هذه العلاقة المتناقضة بين الثقافة العربية والبدو. وبحسب زكي الأرسوزي، فإن البدوي هو الوصي على العروبة بصفته صاحب لغة عربية خالصة (بوزيد 1997، ص 187). ووفقاً له، فإن ثقافة الصحراء ستنقذ الروح العربية. هذا ما أسماه عبد الله العروي “مفارقة الثقافة العربية paradoxe de la culture arabe” التي صاغها مجتمع حضري اختار طريقة تعبير بدائية وقبلية: الشعر البدوي (القصيدة). ولم ينتمِ المصممون والشعراء الذين ألفوا القصيدة أبدا إلى هذا المجتمع البدوي: “كلما ندرت البطولة، كان على الكلمة أن تحافظ على نكهتها البدوية، وأصدرت القصيدة صوتا صخريا، لأن ذلك أصبح الآن الارتباط فقط بعالم ضائع من الحرية والعظمة” (العروي، 1973، ص 88).
في نهاية التسعينيات، طورت صحيفة المركز الثقافي في الرقة “صوت الرافقة”، في العديد من الأعداد، فكرة “أصالة” سكان الرقة، والتي لم يتم تعريفها أبدا ولكنها تشير إلى أصول القبائل من السكان. كما رأينا سابقاً “3”، فإن الأخيرة، مثل صيانة العصبية، يتم التأكيد عليها وتقديرها من قبل كل من أمين فرع حزب البعث في الرقة ورئيس البلدية. لكن علاقة النظام غامضة مع الانتماءات القبلية لغالبية سكان المحافظة. ففي كثير من الأحيان، تكون الشخصية القبلية للمجتمع الرقاوي متباعدة بشكل طوعي ويتم تحويلها إلى فولكلور، من خلال العروض الفولكلورية والمعارض التي تقام في متحف الفنون والتقاليد الشعبية. وتمّ بناء هذا الأخير بين قصر المحافظ وحديقة هارون الرشيد، بمناسبة هذا المهرجان الشهير الأول للسياحة والثقافة على نهر الفرات في عام 1998. ويشكل هذا المتحف طوبوغرافياً رابطا بين المجد العباسي وأحياء البعثيين في الرقة. ومع ذلك يميّزان الموطن الريفي المستقر في شمال المحافظة، حيثُ أقيمت بالقرب من خيمة من وبر الإبل. وفي هذا الارتباط غير المحتمل بين عالم السهوب، يتم عرض أشياء من الحياة اليومية للمقيمين والبدو: مغاسل الزبدة وأفران الخبز للأول، ونول نسج السجّاد وسروج الجمال للأخيرة. وبالتالي، فإن لهذا البناء المتحفي للهوية القبلية فضيلة تعليمية: إظهار أن مدينة الرقة أصبحت بوتقة يختلط فيها عالمان كانا متعارضين في السابق.
الهوية الحضرية للرقة: “عائلات” تقتسم أرضاً مشتركة
في مقالته بعنوان “الرقة في ذاكرة الأجيال”، أعاد عبد السلام العجيلي تدشين مراحل بناء مدينته: “هذا الحصن شُيِّد من تلقاء نفسه على شكل أكواخ في ظلال الأنقاض، ثم على شكل منازل بدائية، ثم مساكن لائقة في الزاوية الجنوبية الغربية للجدار القديم الذي كانت قلعتهم التي لم تتداع. ثم بنوا مسجد الحميدية والمدرسة الملحقة به. وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، أصبحت الرقة قرية كبيرة وحتى بلدة صغيرة. (مجلة مركز الرقة الثقافي، صوت الرافقة، رقم 15-16، 1998). وكما يُذكّر المؤرخون والمفكرون المحليون في الرقة بإصرار، فإن أول سكان الرقة كانوا عائلات تنسب إلى بيت وليس قبيلة. ويعكس هذا التأكيد الرغبة في تعريف أنفسهم على أنهم سكان كاملون في المدينة، وليسوا كبدو يعيشون في المدينة. التمييز هو الأكثر إثارة للاهتمام من حيث أن كل من هؤلاء المؤلفين قادر مع ذلك على تحديد انتمائه إلى قبيلة كذا وكذا؛ لكنه يفعل ذلك فقط بالإشارة إلى أنها مسألة أصل بعيد. “منذ نهاية القرن الثامن عشر، وصلت عائلات كبيرة إلى المنطقة وليس القبائل. واستقروا حول مركز الدرك العثماني، وانقسموا إلى تجمعين أو حلفين” (إبراهيم خليل، حزيران 2001).
والدليل على أن سكان الرقة الأوائل لم يصلوا من القبائل، قيل لي في عدة مناسبات، أنهم حقيقة تجمعوا معا في تجمعات جمعت عائلات من عدة قبائل، وهذا في عرف القبيلة لا يمكن أن يحدث عمليا. كان هذان التجمعان أو التحالفان كما رأينا في الفصل الأول، تجمع الأكراد (حلف الكرد) وتجمع عشرين (قرية عشاره على نهر الفرات). قاموا بشكل دوري بتقسيم أراضي المخا، التي كانت ملكيتها جماعية ولكنها تُستثمر بشكل فردي. وهي عبارة عن 5000 دونم تقع في مستجد نقيب شرقي المدينة جنوب تل بيا أو (مدينة توتول). كان لكل فرع نصيبه. ووفقا لأبناء عائلات الرقة العريقة، فإن أصالة الانتماء للمدينة تقاس بامتلاك جزء من هذه الأراضي الجماعية: “هل الرقاوي يملك حصة في مستجد نقيب Mustagid Nakib“.
في نهاية الإمبراطورية العثمانية، تخلل التاريخ الحضري للرقة نزاعات أخذت تسمية “الكاونا Les kawna”، “لفظة عامية للصراع أو التنازع” بسبب الخلافات بين التجمعين الكردي والعشارين على إدارة هذه الأراضي الجماعية. وتُظهر روايات هذه النزاعات الاهتمام بشرف كل تجمع، وإنما كذلك استخدام ممارسات الحكم القبلي ووسطاء العائلات الشركسية. وقد قام مارك سايكس، المفاوض في اتفاقيات سايكس بيكو، برواية كاونا “الخلاف” عام 1906 في كتابه “تراث الخليفة الأخير The Caliph’s Last Heritage” “4”. وعند وصوله إلى الرقة، كتب: “فوجئنا بسماع ضجيج مخيف في المدينة؛ صرخات النساء الواقفات على المدرجات، طلقات نارية في جميع الاتجاهات، صاح الرجال، وألقوا الشتائم على بعضهم بعضاً” (سايكس، 1915 ص 444). وخلال ساعة واحدة، خلفت الاشتباكات بين الكرد والعشارين Acharin، رغم وصول شرطي عثماني، ثلاثة قتلى وخمسة عشر جريحاً. “خرج حوالي 4000 شخص مسلحين بالرماح والسيوف والمسدسات والبنادق بعد ذلك مباشرة لمرافقة المتوفين إلى قبورهم” (ديهويلس ص 44).
وأخبرني أحد أفراد عائلة سطاف عن كاونا “الغول” عام 1907 والتي تسببت أيضا في العديد من القتلى. وحاول الشركس عبثا فصل أعضاء التجمعين الكردي والعشارين المتنازعين على توزيع الأراضي الجماعية. لكن الجنود العثمانيين نقلوا الجميع إلى حلب لمحاكمتهم. ومع ذلك، في الطريق بين الرقة وحلب – كان الانتقال من مدينة إلى أخرى يستغرق عدة أيام سيرا على الأقدام – لجأوا إلى “الديوان العرفي”، أي لقاء زعماء العشائر الأكثر جدارة بالتعبير عن القانون وتمكنوا من التوفيق. وبهذه الطريقة عاد الجميع إلى الرقة. وهذه الرواية عن تهرب الرقاويين من السلطات العثمانية، والإدارة الداخلية للصراع من خلال اللجوء إلى العدالة القبلية التي أعادت تفسيرها العائلات الحضرية، يرويها محدثي بتسلية كبيرة، والذي لا يزال فخورا بأن والديه أحبطا الاعتقال.
ويمكن تحليل تدخل الشركس كوسطاء بين المعسكرين كعنصر من عناصر الطابع الحضري الجديد للرقاويين، الذين يقبلون الاعتماد على نصيحة الزعماء المطلعين على التقاليد الحضرية. لقد لعبوا دورا هاما في الوساطة في الكاونا الشهيرة عام 1910، وهي نزاع حول حيازة بطيخ في مستجد النقيب، والتي تحولت إلى معركة ضارية قُتل فيها اثنا عشر من العشارين وثمانية أكراد (ديهويلس، ص 44). ولم يتم إبرام اتفاق مرض بين الكرد والعشارين حتى عام 1938، ويقسم أرض المخا muchâ إلى 212 قطعة، تم تخصيصها بالتناوب للتجمعين بمعدل 106 لكل منهما.
إن حل النزاعات الداخلية في المدينة باللجوء إلى القانون القبلي أو عن طريق وساطة الشركس يعكس رغبة سكان الرقة في الإدارة الذاتية في مواجهة السلطات التركية، ولكن أيضا في مواجهة البدو الرحل الكبار وقد تم إخضاعهم للضريبة. إن علاقات التبعية أو المعارضة بين الرقاويين لرؤساء فدعان هي في صميم عملية صياغة الهوية الحضرية للرقاويين. وخير مثال على ذلك هو كتابة العصر الذهبي، سواء البدو أو سكان المدينة، في الرقة.
2- البناء المتناقض للعصر الذهبي الحضري للرقة
وللمفارقة، فإن البناء الخطابي للهوية الحضرية للرقاويين يستند إلى رواية ثلاث حلقات من خضوع مدينتهم إلى البدو الرحل. ومع ذلك، فإن هذه الروايات الثلاث تختلف تماما في تفسيرها. الأولى، في الواقع، يقدر إنشاء دولة بدوية في الرقة كحلقة قومية. بينما تستنكر الاثنتان الأخريان، الأكثر كلاسيكية، اقتحام البدو للمدينة.
اللوحة 7: أهالي بلدة الرقة أمام بوابة بغداد حوالي عام 1922.
اللوحة 8: أهالي بلدة الرقة أمام مسجد الحميدية حوالي عام 1922.
“دولة حاجم بن مهيد غير المعترف بها” (1920-1921)
في عام 1960، قدَّم الكاتب والدكتور الرقاوي عبد السلام العجيلي في دمشق، في اتحاد الكتاب السوريين، محاضرة بعنوان: “دولة حاجم بن مهيد غير المعترف بها”، حيث قُدمت الرقة كأول عاصمة للبلاد سوريا خلال ثورة فيصل العربية. نُشرت هذه المحاضرة عام 1963، ضمن مجموعة قصصه القصيرة بعنوان “حديث الليل”، ثم أعاد تفسيرها المؤرخ المحلي عبد الحميد الحمد، وهو موظف في محافظة الرقة. تشترك القصتان في إعادة التأكيد على الفضائل البدوية الأصيلة لسكان المدينة، الذين عرفوا كيف يحاربون الإمبريالية الفرنسية في نهاية الحرب العالمية الأولى من خلال إقامة دولة مستقلة موالية للأمير فيصل. وتأخذ هذه الحلقة بالنسبة للرقاويين مكانا مشابها للملحمة الفيصلية في تاريخ القومية العربية: أسطورة الاستقلال التي سرقتها القوى الإمبريالية. لكن مصدر الفخر المحلي هذا يسمح لمروجيها بإثبات ولاء الرقة للمُثل العربية، بينما يقلبون التسلسلات الهرمية الإقليمية: لم تعد دمشق، بل الرقة، التي كانت آنذاك “عاصمة” سوريا المستقلة. وكان من الممكن أن يكون، حتى كانون الأول 1921، المكان الوحيد في سوريا الذي يرفرف فيه العلم العربي لفيصل، عندما كانت دمشق وحلب في أيدي الجيش الفرنسي “5”. وكرّس المؤرخ نورمان لويس جزءا من كتابه “البدو والمستوطنون في سوريا والأردن Nomads and Settlers in Syria and Jordan” لهذه الدولة المجهولة، استنادا إلى القصة القصيرة للكاتب عبد السلام العجيلي وعلى مقابلات أجريت معه في الرقة عام 1985. وهدفي هو محاولة فهم أهداف المثقفين المحليين في إعادة كتابة هذه الملحمة لتاريخ الرقة.
فعند سقوط الدولة العثمانية، بدأت فترة من فراغ السلطة في جزيرة الفرات. حارب الجيش الفرنسي في كيليكيا ضد الأتراك، في حين أن الثورات القومية حركت منطقة حلب (بقيادة إبراهيم هنانو) وظهرت ثورات البدو في دير الزور (ثورة العكيدات) والرقة (بقيادة حاجم بن مهيد) (لويس، 1987، ص 148-154). واندلعت ثورة البدو في دير الزور في عام 1921 ولم يتم إخمادها إلا في أيلول من قبل الجيش الفرنسي، بمساعدة شركات الإبل التي ضمت جزائريين في صفوفها، وكذلك كرد من قبيلة الملي (ليلو 1991). وكان قائد الثورة رمضان الشلاّش، الذي عينه فيصل والي “كامل منطقة دير الزور” “6”.
في هذا السياق من الثورات المناهضة للفرنسيين، كان الزعيم البدوي حاجم بن مهيد قد أقام في محيط الرقة، من آب 1920 إلى كانون الأول 1921، دولة بدوية مستقلة، يدعمها جنود الجيش العثماني ويدعمها الرقاويون سكان المدينة. ووفقا لعبد السلام العجيلي، فإن الأخير كان سيرسل في 10 آب 1920 إلى القنصل الأمريكي في حلب إعلانا يُعلمهم بموجبه عن تأسيس حاجم بن مهيد لهذه الدولة المتمتعة بالحكم الذاتي في الرقة (لويس، 1987، ص 151). ونص تصريح العجيلي على النحو الآتي:
“قاتلت الأمة العربية إلى جانب الحلفاء خلال الحرب، بناءً على الوعد الذي قُطِع لشريف مكة، الذي كان آنذاك الشريف حسين. لكن عندما انتهت الحرب، قسّم الحلفاء البلاد ودخلوها دون أي شرعية. والآن أخذوا دمشق بعد معركة ضد أهل الأرض ودمروا جزءا من هذا الشعب وجيشه. لذلك نحن سكان منطقة الرقة التي تحدها من الشرق منطقة البليخ ومن الغرب جرابلس ومن الشمال السكك الحديدية ومن الجنوب السخنة قررنا السيطرة على هذه المنطقة حتى يتم تحديد مستقبل البلاد. ولقد عينا نحن ممثلي الشعب المجتمعين الأمير حاجم بن مهيد، بلقب رئيس الحركة الوطنية. لقد قررنا مع قائدنا أن حكومة المنطقة سيكون لها مجلس منتخب من قبل الشعب، يتولى الأوامر والقرارات اللازمة. لقد قررنا الدفاع عن هذه المنطقة وإذا لزم الأمر سنتحالف مع أي دولة مجاورة نختارها. نرسل هذا البيان إلى جميع الدول عبر القنصل الأمريكي في حلب”.
(العجيلي، الدولة المجهولة، 1963، ص 63).
لم تذكر أرشيفات القنصلية الأمريكية في حلب ولا أرشيفات القنصلية البريطانية وجود “إعلان الرقة”، كما وصفه نورمان لويس (لويس، 1987، ص 233). وتشير أرشيفات الوكيل الفرنسي التي تم الرجوع إليها في قصر فينسين Château de Vincennes إلا أن حاجم يحاول الاقتراب منا، لكنه متهم بالسعي لتحريض السكان في منطقة منبج ضدنا” “7”، وفي أيلول 1920 هناك إشارة: “يسعى حاجم وتحسين بك إلى التجمع في حزب دفاع وطني وإعلان اتحادهما مع الكماليين” “8”. ومع ذلك، فإن المحفوظات الدبلوماسية الفرنسية التي تم الرجوع إليها في نانتNantes تشير إلى إرسال حاجم رسائل لمحاولة حشد أعيان دير الزور وكذلك قبائل المنطقة؛ المحاولات التي كانت بلا جدوى “9”. وفي آب 1921، لاحظ ضباط المخابرات الفرنسية وجود حامية تركية في الرقة وحقيقة أن حاجم وقواته “تصرفوا هناك بصفتهم سادة”. ويضيفون أن المدينة تدار بالتناوب من قبل قائمقام تركي منفصل عن سنجق أورفة وأحد شيوخ العفادله، محمد الهويدي الشلاش “10”. وفي أيلول 1921، كانت المدينة في حالة حرب، حيث قصفتها الطائرات الفرنسية بانتظام. ثم أمضى الرقاويون أيامهم في الملاجئ التي حفروها بالقرب من الأسوار العباسية في المدينة، ولم يعودوا إلى منازلهم إلا في الليل “11”. وفي تشرين الثاني 1921، مال الضباط الفرنسيون إلى التقليل من أهمية حاجم وأشاروا إلى أنه مكروه من قبل السكان الرقاويين “12”. وفي 18 كانون الأول 1921، دخل طابور ديبيوفر الرقة ووضع حداً لفترة الحكم الذاتي للمدينة و”الدولة” التي كان من المفترض أن تكون عاصمتها.
وفي تموز 1998، خلال مهرجان الرقة الثقافي الأول، استذكر الكاتب عبد السلام العجيلي مجد هذه “الدولة”:
أصبحت الرقة، مع استمرار معاناة البلاد من تداعيات الحرب، مقر حدث فريد لا مثيل له. لقد كرّستُ دراسات وكتباً لهذا الحدث الشهير الذي حدث منذ فترة وجيزة، والذي بقي في ذاكرتنا باسم “حكومة حاجم”. لقد أوضحتُ كيف نجح آباؤنا، على الرغم من معرفتهم الضعيفة بالعلوم السياسية وبناء الدولة، في بناء حكومة مستقلة وجيدة الإدارة ذات مُثُل عليا. لكن محدودية إمكانياتهم من ناحية وسياسة الدول الكبرى المنتصرة من ناحية أخرى، لم تسمح لهذه الدولة بالوجود لأكثر من عام ونصف.
(عبد السلام العجيلي، صوت الرافقة Sawt al‑Rafiqa، عدد 15 و 16، تشرين الأول وتشرين الثاني 1998).
ينسب الروائي في هذا المقطع إلى عائلات الرقة مجد دولة حاجم البدوية. وتسمح له هذه القصة بتقدير شجاعة وحكمة “آبائه” ممن عرفوا كيف يديرون أنفسهم، ويخلقون حكومة “ذات مُثُل عليا” ويقاومون المحتلين الفرنسيين. وفي نصٍّ آخر وصف عبد السلام العجيلي بداية العشرينيات ودخول القوات الفرنسية إلى سوريا بـ “أيام عدوانية مليئة بالثورات والانتفاضات” التي “حطمت فيها قوات الاحتلال الفرنسي بلدنا ومنعته من المضي نحو التقدم والحضارة”. (العجيلي 1998).
إن حقيقة قيام بعض المثقفين بتفصيل هذا العصر الذهبي هي أكثر إثارة للاهتمام لأن آبائهم، أصحاب الأراضي الذين استقروا في مدينة الرقة، عانوا من عمليات السلب التي أمر بها حاجم بن مهيد. وفرض رئيس البدو ضرائب حرب باهظة على المدينة، حيث سعى وجهاء الرقة، بقيادة والد العجيلي نفسه، إلى إعلام الضباط الفرنسيين بأن حاجم قد نهبهم. في 18 و 22 تشرين الثاني 1921، بعثوا رسالتين إلى الشيخ صوان من السبخة القريب من الفرنسيين المتمركزين في دير الزور، تم نقلهما إلى ضباط مخابرات دير الزور، وترجمتهما:
منذ إعلان الاتفاقية الفرنسية التركية، سعت إدارة الرقة والضباط الأتراك هناك فقط لنهب الناس. وفضحه لرئيس البعثة. نسمح لأنفسنا بالذهاب دون أن نكون قادرين على قول أي شيء. إذا احتجنا، قيل لنا: “نعلم أنكم كنتم من أنصار الفرنسيين منذ البداية”. التوقيع: عبد الله عجيلي وأحمد عجيلي، آغوات الرقة البارزين، 18 تشرين الثاني 1921. (SHAT، صندوق 4H107 – الملف 2، نشرة المخابرات 317، 6 كانون الأول 1921).
عَلِمنا من مصدر موثوق أن حاجم يتواصل مع الحكومة الفرنسية للمطالبة ببقاء الرقة تحت سلطته. ونحن مقتنعون بأن فرنسا لن توافق على ذلك. إن الحفاظ على سلطته سيؤدي إلى خراب القضاء. ونطلب منكم نيابة عن جميع السكان رؤية المندوب في دير الزور وإبلاغه حتى لا يكون هناك مفاجآت. (…) ويسعى حاجم والضباط الأتراك للضغط على السكان بإخبارهم أن الفرات هو الحدود. وإذا بقي حاجم في هذا البلد، علينا فقط مغادرته”. التوقيع: عبد الله عجيلي (أغا الرقة) في 22 تشرين الثاني 1921. (SHAT، المربع 4H107 – الملف 2، نشرة المخابرات 317، 6 كانون الأول 1921).
وصورت تقارير عدة بالوكالة هذه الفترة على أنها فترة خضوع الرقاويين للبدو. ونقرأ على النحو التالي: “الهدنة والنظام الإنجليزي والسنوات المضطربة التي تلت ذلك قللت من الهيمنة على سكان المدينة. وخلال “سنوات الفوضى” هذه (تشرين الثاني 1918 – تشرين الثاني 1921)، اختنق السكان المستقرون في مدنهم وتعرضوا لتعسف رجال القبائل الذي لا يطاق “13”. حتى زعيم العفادله، محمد الهويدي، على الرغم من تعيينه قائداً في الرقة من قبل حاجم، أجبر رجاله على ترك قوات الأخير (خلف 1981، ص 79). وبدأت عائلات الرقة، التي كان جزء منها لا يزال شبه رحل في عام 1921، تظهر عدم ثقة السكان المستقرين تجاه البدو الرحل وقبائل الوادي، العفادله والولده.
يسمح الاحتفال بالعصر الذهبي للرقة في عهد حاجم بن مهيد اليوم لمثقفي الرقة بتقدير قدرتهم على إدارة الذات في سوريا المعاصرة. ومن خلال استحضار هذه الواقعة، يدعي سكان البلدة الفضائل القبلية للبدو في الوقت نفسه مثل المجد القومي لمقاومة الفرنسيين. وتسمح هذه الأسطورة بتأكيد غير مألوف للهوية في الخطاب السياسي السوري. ويأخذ هذا التأكيد معنى خاصا في سوريا المعاصرة: الاستقلال الذاتي السابق للمدينة الذي حاولت الدولة تحويله إلى نموذج لتطور البعث. ولا يتسامح النظام مع هذه القصة إلا بقدر ما هي جزء من حلقة مجيدة في التاريخ السوري، مثلها مثل حكومة فيصل العربية، بينما يجب أن تُقرأ أيضاً على أنها محاولة لخلق عصر ذهبي حضري.
وهذه الحلقة من تاريخ الرقة بعيدة كل البعد عن الإجماع بين المثقفين المحليين. ومن اللافت للنظر أنه لم يرد ذكره في أي نص رسمي: لا في كتاب الرقة، لؤلؤة الفرات، ولا في الكتيبات البلدية التي تسترجع التاريخ المحلي. حتى اسم حاجم بن مهيد لا يظهر هناك. الرقة، لؤلؤة الفرات، تذكر فقط دولة فيصلية faysalien في دمشق، موضحة أن قضاء الرقة كان مرتبطاً بحلب، في ظل حكومة دمشق العربية “14”. والكتاب البلدي أكثر وضوحاً، ولكن اسم محافظ الرقة الفيصلية، رمضان شلاش، هو فقط لهذه الفترة “15”.
وتحتل هذه الحلقة من 1920-1921 مكانة خاصة جداً في الإنتاج الأدبي الرقاوي، لأنها الحلقة الوحيدة التي تسلط الضوء على العلاقة بين سكان البلدة والبدو. وعلى العكس من ذلك، فإن روايات النزاعات والغارات هي الأكثر تكراراً. سآخذ مثالين: قصة مداهمة شمر للكاتب العجيلي في الرقة، ورواية ثورة الكاتب إبراهيم خليل عام 1941.
مرور غارة شمّر في الرقة
حين كتب عبد السلام العجيلي أن “القبائل هي الجذور العميقة لسكان الرقة”، فإنه يروي حادثة مهمة من طفولته: غزو المدينة. من قبل محاربي البدو الرحل شمّر في حرب ضد فدعان عنزة “والذي يُعرف أيضاً بفدعان الخرسة“.
“إن ألوانا من السلوك القبلي، مما كانت تمارسه في بادية “الجزيرة” الفراتية في قرون الخراب والتصحر، ظلّت حيّة في أول زمن التحضر الجديد. ولا أزال شخصياً أحمل من ذكريات الصبا، مرور غزاة عشيرة “شُمّر” بـ”الرقة”، ومبيت طليعتهم ليلة واحدة فيها، موزعين كضيوف على دواوين البلدة. كانوا يتأهبون لمنازعة “الفدعان” و”الخرسة” من عشيرة “عنزة” في الصباح المقبل، وأذكر أن عقيد غزاة شمر الشيخ “دهام الهادي”، وهو آنذاك في أوج شبابه، كان نزيلا في مضافة أسرتنا “العجيلي”، رأيته فيها يشرب القهوة ويتناول طعام العشاء قبل أن ينصرف إلى النوم محاطا ببعض رجاله.. ثم انطلقوا عند الفجر مدججين بأسلحتهم إلى ساحة المعركة. حدث هذا في منتصف العشرينات، وإذا بي ذات يوم، أجد الشيخ “دهام الهادي” زميلا لي على مقاعد مجلس النواب السوري في دمشق. طيلة الأعوام 1947 و1948 و1949. أيها البرلمانيون والمشرعون إنها الحقيقة!”
(العجيلي، 1998، “الرقة في ذاكرة الأجيال”، صوت الرافقة، عدد 15-16).
في هذا النص، يستخدم المؤلف المصطلحين الديوان والمضافة، بينما يستخدم المصطلح الأخير فقط في الرقة. الديوان، في المدن السورية الكبرى، هو غرف مخصصة لاستضافة عائلات الأعيان، في حين أن المضافة هي بالأحرى أماكن للضيافة القبلية “16”. ولفهم رد الفعل المخيف للشاب العجيلي، يجب أن نتذكر أنه عندما سافر زعماء فدعان الرحل إلى الرقة، استمتعوا بضيافة عائلة العجيلي. لذلك اعتاد الكاتب على رؤية البدو في منزله. كان خوفه بالأحرى الخوف من الانتقام من الفدعانيين الذين ربما كانوا يشتبهون في ولاء العجيلي لهم. وبشكل أكثر عمومية، فإن “استغرابه” من رؤية البدو يصبحون نواباً يعكس غطرسة المدينة التي تثير الدهشة إلى حد ما في سياق الرقاوي. لقد رأينا أن أول نواب قضاء الرقة في عهد الانتداب كانوا من شيوخ الفدعان، وأن هؤلاء لعبوا دوراً حقيقياً في التحكيم بين فصائل المدينة خلال الانتخابات البلدية والنيابية في الثلاثينيات “17”.
تحول أهالي البلدة ضد قبائل نهر الفرات (فوضى عام 1941)
خلال الحرب العالمية الثانية، تم تقسيم سكان قضاء الرقة، من البدو وكذلك سكان المدن، بين المؤيدين للإنجليزية والمواليين للفرنسيين، والتي تداخلت مع الانقسام بين “Gauli wa Fichi”، أي بين المؤيدين – لديغول والمؤيدين لحكومة فيشي. قام الجنود الفرنسيون الموالون لفيشي بتسليح الفدعانيين لمهاجمة الإنجليز (خلف، 1981، ص 88). من ناحية أخرى، كان زعماء قبائل الفرات مؤيدين للإنجليز: “خلال معارك الحرب العالمية الثانية، بين الفيشيين والديغوليين، وبين الفرنسيين والإنجليز، فضَّل العديد من زعماء البدو اللغة الإنجليزية: ومنهم البشير الهويدي، أحمد الحوجة، بركات الولدهْ “(مقابلة مع سليل بارز من عائلة رمضان آغا، من التجمع الكردي، الرقة، آب 2001). وفي هذا السياق من الانقسام القبلي، حاول الجنرال ديغول في عام 1941 حشد القبائل البدوية الرئيسة في سوريا ودعوتهم إلى اجتماع كبير. أخبرني أنور بورسان الولده قصة الحوار بين والده، شواخ البورسان، والجنرال ديغول: “في عام (1941)، جمع الجنرال ديغول جميع زعماء القبائل لمحاربة الألمان، بمن فيهم شواخ بورسان. فقال الأخير للجنرال ديغول إنه يقدر حقيقة أن الأخير طلب منهم مساعدة فرنسا. لكنه رفض الاستجابة لطلبه لأنه لم يقبل احتلال الحلفاء لسوريا. ثم ضرب الشيخ بورسان بمطرقة ثقيلة رجلًا احتج على ديغول” (شيخ البورسان الولده، تموز 2001). في هذا السياق من الفراغ في السلطة المركزية، استؤنفت الحرب بين القبائل، لاسيما تلك بين الولده والعفادلة “18”. تسببت معاركهم، خلال عام 1941، في مقتل عدة مئات من الجانبين “19“.
استغل زعيم عشيرة العفادلة موسى ضاهر هذه الفترة من القتال بين الديغوليين والفيشيين لمهاجمة مدينة الرقة. لمدة يوم وليلة واحدة في 4 تموز 1941، تم نهب المعسكر والأرشيف الفرنسي، وإطلاق سراح سجناء القانون العام، ونهب المخازن (خلف 1981، ص 89). سميت حلقة الذاكرة السوداء هذه باسم: “حكومة الغفاني” من اسم زعيم اللصوص:
كان عام 1941 هو عام الفوضى في مدينة (الفالتة) منقسمة بين المؤيدين لفيشي ومؤيدي ديغول. نجيب جرمانوس، ضابط سوري موالي لفيشي، قصف المدينة لمنع وصول الإنجليز. نهب أهل القرى والمدينة الحي الفرنسي، معسكر السكنة العسكرية، وسرقوا جميع الرواتب. الحاج صالح حرك هذه الفوضى و”غافان” الذي أحرق كل الأرشيف. كان من قصر أفنان. كانت تسمى بحكومة الغفاني. أطلِقَ سراح بعض الأسرى وفق الاختبار التالي: هل أنت لص؟ يمكنك أن تغادر. هل أنت سياسي؟ عليك أن تبقى”. استعادة لقصة “VIVA ZAPATA يعيش زاباتا” (من فيلم للمخرج إيليا كازان بذات الاسم عن قصة الثائر المكسيكي زاباتا ضد الفساد والديكتاتورية بدايات القرن العشرين).
“البدو مكروهون في الرقة وفي القرى” (البدو مكروهون بالرقة والقرى al-badu makrûhîn bil‑Raqqa wa‑l‑qura : هكذا في النص. المترجم).
(إبراهيم خليل، الرقة، حزيران 2001).
وبحسب شهود عيان على هذه الواقعة، كان شعار قائد المداهمة: “بشر إمك أنّها الفوضى”. إذ رافق استحضار هذه الحادثة “استياء وعداء أهل الرقة الأصليين من المجموعات العشائرية المجاورة” (خلف 1981، ص 89).
لقراءة نشرات استخبارات جيش المشرق، يحدث انعكاس في علاقات القوة بين سكان المدن والبدو في زمن الحرب العالمية الثانية. في عام 1941، صدرت تعليمات لعملاء المخابرات بعدم السيطرة على القبائل، كما هو الحال في شمال القضاء، ولكن سكان الرقة، الذين كانوا يتمتعون بسلطة معينة على قبائل الفرات. نقرأ بشأنهم على النحو التالي: “إذا كان من يسيطر على القبائل في تل أبيض يشكل عقلية سكان البلدة كما يشاء، فإن من يمسك بيده أبناء مدينة الرقة يتلاعب بالعديد من خيوط السياسة القبلية على طول نهر الفرات. وهكذا تظل اضطرابات العفادلة-الولده-السبخة التي أبلغتك بها خلال شهر تشرين الأول مرتبطة بالحالة الذهنية السائدة اليوم في مدينة الرقة. والرقة خاضعة للنفوذ الثلاثي لمسئولين من الحزب الكردي بقيادة حسن آغا الككاجي، رئيس البلدية، ومن حزب العشارين بزعامة وهبي العجيلي النائب القومي السابق في الغرفة السورية” (نانت، سوريا- صندوق لبنان ، سلسلة 2133، “تحليل الوضع السياسي في الرقة”).
خلال هذه الفترة، كثف تجار السخنة، المقيمون في الرقة، حركات التهريب مع الإفلات التام من العقاب. تم بيع الزيت والأقمشة والقهوة والشاي في تركيا، بينما كانت الماشية والأسلحة والذهب (على شكل ليرة تركية) تمر عبر الرقة. تهريب الأسلحة شارك فيه هؤلاء السخنيون الذين قادوا بغال محملة بالبنادق ليلاً إلى السبخة، حيث تم بيع كل شيء على الفور “20”. مرت تدفقات كبيرة من الأسلحة عبر تل أبيض، تحت حماية الزعيم فدعان الخرسة عبد الرزاق العمير، “الحامي المعترف به رسمياً لجميع العناصر المشبوهة أو الخطيرة على الحدود”.
عبارات مثل: “البدو مكروهون في الرقة” لا تعكس بأي حال الشعور العام السائد في الرقة تجاه البدو. المثقفون المحليون أكثر استعداداً للتأكيد على السمات المشتركة التي يتشاركونها مع البدو، وينسبون صفاتهم لأنفسهم، من أجل التمييز بشكل أفضل بين المجموعات التي تعتبر “دخيلة”، وموظفي الخدمة المدنية من القبائل والتجار، والسخنيين والتواديف (من تادف)، التي تم تنصيبها مؤخرا.
3- العمران لأشباه البدو والبدو في الرقة
يميّز الجغرافيون بين المدينة وبين الحضر، والتي تحدد “الطابع الحضري المناسب للفضاء” والذي ينتج عن تعظيم العلاقات الاجتماعية في مساحة محدودة، لاستخدام تعريف فيبري للمدينة. وبالتالي، فإن التحضّر هو نتاج أقصى تنوع في التفاعلات الاجتماعية التي تم تطويرها في مساحة محدودة، حيث يتم تقليل المسافة والكثافة عالية. يضاف إلى هذين المعيارين للكثافة والتنوع الاجتماعي معيار التكوين المكاني، أي ترتيب الأشياء المكانية بينهما والتي يمكن أن تميّز بين موقفين حضريين متساويين في الكثافة والتنوع الاجتماعي (لوسو، 2003، ص 966). ومنذ سبعينيات القرن الماضي، أدى نزوح جماعي قوي من الريف، إلى جانب هجرات قوية للعمال وموظفي الخدمة المدنية والتجار، إلى تكاثر مناطق الإرشاد وتجديد السكان الرقاويين. ومن ثم فإن البدو أقل من أفراد قبائل الفرات الذين يتم تصويرهم على أنهم أجانب في المدينة.
ازدراء الرقاويين للشوايا.
وقد لاحظت أنيكا رابو في منتصف الثمانينيات أنه من أجل التعبير عن ازدرائهم لجميع سكان الرقة، أطلق عليهم مسئولو مشروع الفرات، القادمون من مدن سورية أخرى، اسم الشوايا، وبالتالي أطلقوا على سكان البلدة المصطلح الذي استخدمه هؤلاء السكان لنعت سكان الوادي شبه الرحل. وبحسب هؤلاء المسئولين، فإن جميع سكان الرقة والغول ghoul والريف هم من ذوي الثقافة السيئة. وتشير أنيكا رابو أيضا إلى أنّه بالنسبة لهؤلاء الأجانب في المنطقة، يشير مصطلح الشاوي إلى مجموعة من الخصائص السلبية مثل الافتقار إلى التعليم والجانب الريفي غير المتحضر والاستسلام للقبيلة … أو حتى ارتداء الجلابية والجلباب والكوفية الحمراء(رابو، 1986، ص 20).
يبدو أنّ الاستخدام المزدري لمصطلح شوايا كان في الأصل من عمل البدو الذين أهلوا بذلك أنصاف البدو. لم يكن البدو الرحل من أصحاب الغارت يحترمون رعاة الأغنام من الشوايا. أخضعوهم للخوة “الضريبة” وعاملوهم على أنهم تابعون واشتقوا اسمهم من مصطلح “شويchway ” الذي يعني “القليل”، وبذلك قالوا إنهم “أناس من الأشياء الصغيرة” (شارل 1942، ص 39). أعاد سكان الرقة إنتاج هذا النمط عندما بدأوا في إقامة علاقات تفوق مع العفادلة والولدة في الوادي، كونهم أفضل تعليماً وغالباً أكثر ثراء منهم. عملت العائلات الحضرية الكبيرة كوسطاء بين القرويين والسلطات الإدارية والقضائية، وبالتالي لعبوا دورهم كأعيان، وقاموا بإيوائهم في مضافاتهم عند قدومهم إلى المدينة. أدى تفكك الروابط القبلية خلال الستينيات وبعد الثورة البعثية إلى تعديل كبير في العلاقات بين أهالي الرقة وأبناء عشائر الفرات “21”. هذه العوامل، المرتبطة بتحسين النقل، تعني، بحسب أنيكا رابو، أنه لم يعد من الضروري أن يعرف القروي عائلة رقّاوي لكي يأتي إلى المدينة. يمكن لكل منهم أن يستقل الحافلة الصغيرة إلى قريته في وقت مبكر من بعد الظهر، عندما تغلق المكاتب (RABO 1986، ص22). بعد عشرين عاماً من هذه الملاحظة، أودُّ أن أضيف أن القروي لديه الآن أقارب في المدينة يمكنهم إيواؤه بسهولة: سواء في منطقة ألعفادلة في المشلب أو في منطقة الامتداد الشمالية التي رحبت بالولده النازحين من بحيرة السد.
لم يقدم شبه البدو في الوادي أنفسهم أبداً على أنهم شوايا. دون رفض هذا المصطلح، يفضلون تقديم أنفسهم بالإشارة إلى قريتهم أو قبيلتهم، حتى عندما يقيمون في الرقة. إنهم يفخرون بانتمائهم القبلي، الذي تغذيه حكايات البطولة التي لا يلعب فيها سكان المدينة أي دور. إنهم لا ينخدعون بأي شكل من الأشكال بالبناء الاستطرادي لسكان المدينة، ولا سيما رواية العصر الذهبي للبدو في الرقة. في آب 2001، تعهد شيخ الولده أنور بورسان بتصحيح هذه القصة الأخيرة، حيث أخبرني في مقابلة أن “الدكتور العجيلي، المحترم للغاية، يكتب حسب فهمه. وقصة دولة حاجم ليست بالإجماع”. ووفقا له، فإن الرقاويين كانوا بعد ذلك تحت سيطرة قبائل الفرات، وهذه القبائل، وليس سكان البلدة، هم من قاوم الفرنسيين. ويؤكد أيضا أنه لم تكن العفادلة، بل الولده، الذين كانوا أكثر المقاتلين شجاعة ضد المحتل وأكثرهم تضررا من الانتقام العسكري الفرنسي بعد ذلك:
كان أهل الرقة عبارة عن عدد قليل من العائلات التي تعتمد على ثلاث قبائل ولده وعنزه وعفادلة. كان العنزه أقوياء لأنهم كانوا مدعومين من الفرنسيين، وخاصة مجحم بن مهيد. خليل الهاجم كان مع الأتراك. خلال الثورة العربية عام 1918، عارض الولده الفرنسيين، بينما كان مجهم مع الفرنسيين وحاجم مع الأتراك. نجح شواخ بورسان في الاستيلاء على مدينة الرقة 17 مرة ضد الفرنسيين. في العشرينات من القرن الماضي، أسقط الفرنسيون خمس قنابل ضد الوالده” (مقابلة أنور بورسان، تموز 2001 في الرقة).
أنور البورسان هو ابن شواخ البورسان الشهير، شيخ ولده، وهي قبيلة فقدت تقريباً كل أراضيها الخصبة المغمورة تحت بحيرة الأسد. انتخب نائبا عدة مرات، وهو يشعر بالمرارة بشأن وضع قبيلته وحالته الخاصة. يستأجر منزلاً متواضعا في الامتداد الشمالي للمدينة بالقرب من محطة السكة الحديد. إنه كبير بما يكفي ليكون به مدفة، والتي تتضمن سلسلة من الأروقة المطلة على فناء مظلل “22”.
ويرفض منذ البداية أن يُدعى شيخاً، لأنه لم يعد لديه أرض: “ليس لديّ شيء أكثر، ورجالي ليس لديهم شيء أكثر. لماذا لا يزالون ينادونني بالشيخ؟ إذا وضعت إصبعي على الأرض، فحتى هذا السطح ليس لي. ليس لدي منزل. لقد استأجرت هذا” (شيخ البورسان ولده، تموز 2001). ويمضي في تبرير رفضه بتذكيري، أمام رجال عشيرته المجتمعين في مضافته، ما هي القبيلة: “توجد القبيلة فقط إذا استوفت ثلاثة شروط: أن يكون لها شيخ، وأن تكون جاهزون للحرب (بيت الحرب) وقادرة على تطبيق القانون القبلي (الأعراف)” (الشيخ أنور بورسان من ولده، الرقة، تموز 2001). مع ذلك، يلعب أنور بورسان دورا مهما للولده، كنائب ومحكم في مسائل القانون والشرف. يحظى باحترام كبير بسبب معرفته الدينية وحكمته، ويتم استشارته باستمرار من قبل أفراد قبيلته، رجالا ونساءً. يحكم في مسائل الشرف في مضافته، وهي بالتالي بيت الأعراف، مكان يطبق فيه القانون القبلي droit tribal “23”. محكمة الرقة تأخذ رأيها في الاعتبار في قضايا النزاعات القبلية “24”.
جعل أفراد قبائل الفرات، الولده مثل العفادلة، مدينة الرقة ملكا لهم. إنهم لا يشغلون معظم مناصب الخدمة المدنية فحسب، بل علاوة على ذلك، بعد أن أصبحوا أغنياء خلال الخمسينيات مع طفرة القطن، أصبحوا قادرين على تزويد أطفالهم بمستوى تعليمي يضاهي مستوى سكان مدينة الرقة. أخيرا، يسارعون إلى تذكر رواياتهم عن تاريخ الرقة الحديث، خلال المقابلات، وتقديمهم كمقاومين حقيقيين للاحتلال الفرنسي. وهذه الحقيقة الأخيرة شُهدت على القبائل الأخرى التي عارضت الجيش الفرنسي في عامي 1920 و1921، ولا سيما البكارة والعكيدات. وعَدّ عدد قليل من المثقفين المحليين لجمع تاريخهم، مع استثناءات قليلة ملحوظة، مثل الشاعر محمود الذخيرة من قبيلة العفادلة الذي كتب تاريخ قبيلته في عدة دفاتر، أو محمد المدفع مفتش تدريس اللغة الفرنسية في الرقة. والذي جمع أرشيف عشيرته، فإن رواياتهم لا تعرف دعاية ولا يمكنها أن توازن كتابات الرقاويين.
بدو الرقة: من القرية البدوية (حارة البدو) إلى الفيلات
بينما يُظهر سكان الرقة ازدراء للشوايا، فإن علاقاتهم مع البدو أكثر تعقيداً. في بداية القرن العشرين، استقبلتهم العائلات الكبيرة في المدينة عند قدومهم إلى المدينة، وعمل الرقاويون المتعلمون كسكرتارية لهم. ويشهد العجيلي في كتاباته عن العصر الذهبي للبدو في الرقة، على هذه العلاقة المتناقضة بين الثقافة العربية والثقافة البدوية المذكورة أعلاه، والمكونة من الإعجاب والتقليد. ومع ذلك، يبدو أن مثقفي الرقة يتأرجحون بين هذا الموقف الإعجابي والنقد الخلدوني الشديد لانحطاط البدو على اتصالهم بالمدينة. وهكذا فإن وصول مجموعات بدوية فقيرة بسبب الجفاف إلى الرقة، في بداية الستينيات، غيّر الرؤية التي كانت لدى سكان المدينة عنهم. الذين يعيشون في أحياء غير نظامية، مع قطعان هزيلة، فقدت الأخيرة بالفعل كل وجودها.
وفي رواية شهيرة نُشرت عام 1981 بعنوان “حارة البدو”، وصف إبراهيم خليل هؤلاء البدو بأنهم فقراء، مجبرون على التسول في شوارع الرقة للبقاء على قيد الحياة، وبالتالي فقدوا شرفهم. هذا الكتاب شَجبَ البدو كثيرا. يُشير أحد أفراد قبيلة فدعان الخرسة إلى أنّ ازدراء ساكن المدينة يمكن رؤيته في استخدام مصطلح “حارة” الريفي، في عنوان الرواية، بدلاً من “الحي” المديني، مما يعني أن البدو لا يمكنهم التكيف مع الحياة الحضرية. وكل هذه الرواية بالنسبة له مجرد نسيج من الأكاذيب. وبالتالي فهو يجادل في حقيقة أن جميع بدو الرقة يعيشون في حي محدد وهم فقراء هناك.
بدلاً من ذلك، يقال إن البدو منتشرون في جميع أنحاء المدينة، والعديد منهم يمتلكون فيلات ويشغلون وظائف مرموقة. يقتبس لي حالة نموذجية للدكتور محمود الفهد الكورة، الفدعان عنزة من عشيرة دانا محمود الوُلده، وهو طبيب متدرب في ألمانيا والذي بنى، في عام 1996، عيادة خاصة فاخرة فيها أربعون سريراً، حيث يمارس 18 طبيباً عملهم. هذا الأخير، الذي التقى به في مضافته، يفتخر بأن يصف لي، بالألمانية، المواقف المختلفة التي شغلها بدو الرقة. وهكذا، على أعلى مستوى في الدولة، في قيادة الحزب، يجلس محمود سعيد بختيان، عضو عنزة. – المهيد محافظ حماة. على مستوى محافظة الرقة، قاضي محكمة تل أبيض هو فدعان، وكذلك محامٍ بارز في الرقة. فرحان فرحان، أحد الأعضاء المهمين في حزب البعث في الرقة، بدوي أيضاً. لذلك لديهم شبكات قوية، ووجودهم في المدينة واضح من خلال العديد من المدارس التي يحتفظون بها هناك.
“الحي البدوي” موجود بالفعل، لكنه بعيد عن إعادة تجميع كل بدو الرقة. يعيش هناك محاوري ماجد من عائلة دانا، مع بعض رجال عشيرته الذين بنوا ثلاثة عشر منزلا هناك، لأنه، كما قال، “يحب البدو العيش معا”. يتم تنظيم هذه المنازل في الغالب حول فناء كبير حيث ينام أفراد الأسرة الممتدة في الصيف على حصائر وحيث يتم فصل المضافة عن جسد مكون من غرفتين أو ثلاث غرف مخصصة لكل من العائلات النواة. غالبا ما يكونون من مالكي أراضي السهوب، البعل، حيث يستفيدون من محصول الشعير مرة كل عامين(معاومة). ويفضل الرجال والنساء حياتهم في المدينة، حيث يكون تعليم الأطفال أسهل وحيث تكون الأعمال المنزلية أقل صعوبة. وتحافظ العائلات على علاقات وثيقة مع أفراد عشيرتها المتواجدين في الرقة أو شمال المحافظة شرق “سلوك”. وهناك يتم الاحتفال بالزيجات، تحت الخيام، التي تجمع جزءا كبيرا من القبيلة “25”.
كما أشار سليمان خلف في أوائل الثمانينيات، كانت العلاقات جيدة نوعا ما بين فدعان وأعيان المدينة. يؤهلهم بمصطلح تحالف وليس تبعية (خلف 1981، ص 80). هذا أكثر من مجرد تعامل سكان هذه المدينة مع البدو الذين وصلوا إلى مكانة اجتماعية عالية. من ناحية أخرى، تغضب ابنة مجحم بن مهيد الشيخة فوزة، التي تزوجت من العفادلة الشيخ محمد الهويدي عام 1951، من ازدراء أهالي الرقة بها لكونها بدوية تعيش في المشلبMachlab. تحب أن تتذكر أن العجيلي والسطاف، العائلتان الكبيرتان في كل تجمع، ما هما إلا خدامها: “كانا كتاب والدي”. تسارع الشيخة فوزة إلى تذكر أنسابها وتروي في الشعر قصة حلقات الحرب الكبرى التي تميز خلالها والدها وعمها. كما تثني على كرمهم، مما جعلهم رؤساء عظماء: وهكذا في عام 1911، خلال شتاء صعب، تمكن حاجم، الذي أصبح للتو وجيه العشيرة “26”، من إطعام القبيلة بأكملها لمدة 40 يوماً من الثلج. أما ولده فقد استأجر أثناء المجاعة مخابز الرقة ووزع الخبز على الجميع.
4- تمثيل العصبية والعشائرية في الانتخابات التشريعية
الانتخابات التشريعية لحظة أساسية لإعادة حشد الروابط القبلية. وبحسب وجهاء الرقة، فإن حزب البعث “أعاد تكوين” العشيرة من خلال الانتخابات، لكسب قواعد دعمها: “البعث هو الذي أعاد بناء العلاقات القبلية: بالنسبة للانتخابات، خطط لتوزيع المقاعد على العشائر. قال لي أحدهم في عام 2003. منذ الانتخابات التشريعية عام 1973، لم يكن لدى محافظة الرقة سوى ثمانية مقاعد، اثنان منها فقط مستقلان وبالتالي مفتوحان للانتخابات. أما المناصب الستة الأخرى فيعين من قبل النظام من بين أعضاء الأحزاب المكونة للجبهة الوطنية التقدمية “27”. ويأسف معظم مفكري الرقة وحتى المسئولون البعثيون على تجميد عدد المقاعد المخصصة لمحافظة الرقة لمدة ثلاثين عاماً لأنه لا ينبغي أن يكون ثمانية بل عشرين، لأن المقاعد الثمانية “تمثل” كل منها 125000 نسمة في محافظة كان عدد سكانها أكثر من مليون في تعداد 2004. وتتحدث عن “قواعد التعبئة السياسية العربية” لتأهيل استخدام العصبية في التحليلات السياسية للمجتمعات العربية (بيكار 2006 ص. 61).
اللوحة 9: شيخ العفادلة محمد الهويدي ووالدته الشيخة فوزة بنت مهيد من فدعان عنزة في منزلهما بالمشلب.
وفي حين أن العلاقات القبلية التقليدية قد تراجعت خلال الخمسينيات من القرن الماضي بسبب إثراء صغار ملاك الأراضي وتجنيد الفلاحين ورجال القبائل الذين لا يملكون أرضاً والذين كانوا يخضعون سابقاً للشيوخ، تم عقد علاقات قبلية جديدة، والتي تظهر بشكل خاص خلال الانتخابات. يواصل الفلاحون العيش كأعضاء في القبائل، ويظهرون مع ألقابهم القبلية. وفوق كل ذلك، يدعم معظم سكان الريف وسهوب محافظة الرقة مرشحي عشائرهم خلال الانتخابات.
صيانة العصبية بحسب الامين العام لحزب البعث في الرقة
وبحسب الأمين العام لفرع حزب البعث في الرقة، عيسى خليل، المعين عام 2001 والتقيته في آب 2001، فإن “العصبية هي الثقافة السائدة” في محافظة الرقة. ووفقاً له، فإن للثورة البعثية خصوصية في محافظة الرقة: وهي أن تظل راسخة في “فهم خصائصها الاجتماعية”. والعصبية asabiyya، أو ما يعرف ب “التضامن الجماعي la solidarité de groupe”، هو المفهوم الرئيس لنظرية ابن خلدون عن تطور الدولة في العالم العربي في العصور الوسطى. وتم استخدامه على نطاق واسع من قبل ميشيل سورات في تحليله للدولة السورية. يعرف أوليفييه رويRoy بأنه “أي مجموعة تضامن تقوم على العلاقات الشخصية (النسب، الزوجية، المحسوبية أو الولاء ….إلخ.) والتي يكون هدفها هو هذا التضامن بالتحديد وليس تنفيذ هدف يبرر إنشاء المجموعة”، فإنه تظل البيانات ذات الصلة لتحليل مجتمعات الشرق الأوسط في نهاية التسعينيات، “(ليس كتعبير عن ديمومة مجتمع تقليدي في دولة حديثة، ولكن (مثل) إعادة تشكيل شبكات الولاء السياسي والإقليمي، حيث تم تعديل الفضاء بشكل نهائي بفعل الدولة. ما يتم الحفاظ عليه ليس موضوعات بل نوع من العلاقة بالسياسة” (روي، 1996 ص 6-8).
وأمين سر حزب البعث في الرقة، عيسى خليل، هو في وضع أفضل للحديث عن هذه الخصوصية القبلية للمحافظة، لأنه، كما يقول لي نفسه، ينتمي إلى قبيلة بو حميد العفادلة التي تعيش في المشلب. إن التعبير عن الخصوصية القبلية يتعارض مع الإيديولوجية البعثية التي بذلت قصارى جهدها لمحاربة التعبير عن الخصوصيات الإقليمية والقبلية. ومع ذلك، وهذه علامة على تطور النظام، فقد تبنى محافظ الرقة عام 2001، فيصل قاسم، فكرة الخصوصية الثقافية للقبيلة في شرق سوريا. وأهمية الواقع العشائري في محافظة الرقة هي في الواقع، حسب رأيه، خاصية ثقافية لا ينبغي إهمالها لحشد الطاقات في طريق التقدم. وإن اعتراف سكرتير البعث والمحافظ بالحفاظ على التضامن الجماعي والنظام القبلي يشهد على التخلي عن إحدى معارك الفكر البعثي التي كانت تهدف إلى القضاء على هذه الخاصية الرئيسة للمجتمع السوري، فيما يتعلق بالريف والقبلية وكذلك المدن والطوائف، وأفضل مثال على ذلك يُعطى للمفارقة على ذلك هو التضامن العلوي في قمة هرم السلطة. (شويChouet 1995).
الانتخابات التشريعية عام 2003 في الرقة
في عام 2003، علق مسئول من بلدية الرقة على الانتخابات الجارية آنذاك: “تجري الانتخابات بشكل مختلف في الريف والمدينة. في الريف، القبيلة تقرر التصويت لواحد فقط، حتى الآن”. الأمر أكثر تعقيداً في الواقع، حيث تم تقسيم القبائل وقت التصويت بين مؤيدي اثنين أو أكثر من المرشحين. وهكذا، خلال انتخابات 1990 و1994، التي خُصص فيها ثلث المناصب لمرشحين من غير أعضاء حزب البعث “28”، انقسم بدو الفدعان بين مؤيدي دهام الجريش ومؤيدي غازي الحريمين. كذلك انقسمت العفادلة بين أنصار محمد فيصل الهويدي (نجل النائب فيصل الهويدي وابنة مجحم بن مهيد من فدعان عنزة) وأنصار عمه العجوز الحاج عبد الرزاق الهويدي. حصل الأخير على 15200 صوت داخل قبيلته خلال انتخابات عام 1990، مقابل 15000 صوت لخصمه، فقط السبخة، الذين هاجر جزء كبير منهم إلى المملكة العربية السعودية، ظلوا متحدين حول شيخهم أنور راكان، الذي تتم إعادة انتخابه بانتظام.
وخلال الانتخابات التشريعية لعام 2003، تنافس حوالي ثلاثين مرشحاً على المقعدين (أ ، ب) المخصصين لـ “المستقلين”. حصل عشرة منهم على معظم الأصوات. ومن بينهم شيوخ القبائل الرئيسية بالمحافظة: محمد فيصل الهويدي، عن العفادلة، وعلي أنور البورسان، شيخ الولده، وعبد المحسن أنور ركان، شيخ السبخة، ومحمد إسماعيل الباري، شيخ الولده، بو خميس. لم يمنع وجود الشيوخ بأي حال من الأحوال، كما في كل انتخابات، من تقديم مرشحين معارضين أنفسهم، كما كان الحال مع المرشح إبراهيم شاكر من الولده للمقعد ب. في المقعد أ، مرشح العفادلة، أحمد محمود الهادي، وتمكن من حشد قرابة 40 ألف صوت، فيما دعا الشيخ محمد فيصل إلى دعم المرشح أنور الراكان حليف القبيلة بالزيجات العريقة.
وفي عام 2003، تم انتخاب شيخ العفادلة محمد فيصل الهويدي للمقعد B متقدما على شيخ الولده علي أنور البورسان (91.179 صوتا مقابل 56234).
أما بالنسبة للمقعد أ، فقد فاز به رئيس قصير شيخ بو خميس محمد إسماعيل الباري، متقدماً على مرشح العفادلة أحمد محمود الهادي (43487 صوتا مقابل 39103 صوتا). على مستوى كل دائرة انتخابية، اللافت أن مدينة الرقة لم تقدم أي مرشح لمقاعد المستقلين. اختار المرشحون من العائلات الكبيرة في المدينة أن يكونوا أعضاء في أحد أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية لتأكيد سلطتهم في المدينة. وهكذا تم تعيين المحامي عبد الله حسن بليبل نائباً للحزب عام 2003، إلى جانب القاضية ندوة سلوم، وهي من سكان المدينة وتعود في أصولها البعيدة للعفادلة. وقت الانتخابات، صوّت أهالي الرقة، من عائلات الوجهاء السابقين (الغول Ghouls من بو شعبان)، للمرشح المستقل الشيخ عفضلة محمد فيصل الهويدي، الحائز على نصف الأصوات المدلى بها في المدينة.
وفي غرب المحافظة، فازت دوائر الثورة والمنصورة والجرنية حيث يقيم غالبية أبناء قبيلة الولده، فاز الشيخ علي أنور البورسان بأغلبية الأصوات. أيضا في منطقة السبخة التي بها بعض مجموعات الولده. بالنسبة للبقية، يفوز شيخ العفادلة بسهولة في انتخابات المقعد B في شمال ووسط وشرق المحافظة. المرشحون الذين يتنافسون على المقعد (أ) هم أكثر رقبة ورقبة، ولا سيما محمد إسماعيل الباري، شيخ بو خميس ومنافسه المباشر أحمد محمود الهادي من عفادلة، الذين حصلوا على حوالي 40 ألف صوت، في حين أن شيخ السبخة عبد المحسن أنور ركان حصل على 31399 صوتاً.
ويعكس جدول النتائج الانتخابية حسب الدائرة الانتخابية التضامن القبلي السائد في القرى الواقعة في أعلى المنبع من الرقة على نهر الفرات يسكنها بشكل عام أفراد من قبيلة الولده. أولئك الذين يقعون في اتجاه مجرى النهر في الرقة يسكنون على الضفة اليسرى من قبيلة فدعان، وعلى الضفة اليمنى تسكنها الولده والسبخة والعفادلة. لقد رأينا سابقاً حجم ملكية الأراضي للشيوخ الرئيسيين في عام 1942. تمكن هؤلاء الشيوخ من الاحتفاظ بجزء كبير من عقاراتهم من خلال تسجيلها باسم ورثتهم خلال الإصلاحات الزراعية والاستمرار في تشغيل آلاف الفلاحين. يعرض الجدول 32 تفاصيل التوزيع حسب عشيرة العفادلة لقرى الفرات الأوسط. بنيته بعد مقابلة مع شاعر العفادلة محمود الذخيرة في مشلب المدافعة في شباط 1997.
في نهاية الانتخابات التشريعية لعام 2003، تبين أن النواب الثمانية لمحافظة الرقة هم ستة منهم من ذوي الأصول العشائرية المميزة، كما هو مبين بالتفصيل في الجدول رقم 33. تم انتخاب مواطن واحد فقط من سكان الرقة، وهو عضو من حزب البعث. وفاز بالمقعدين المستقلين اثنان من شيوخ القبائل الرئيسين في الجزيرة. وهكذا تمكنوا من التفوق على أفراد قبيلتهم الذين كانوا يتنافسون معهم. لكنهم وجدوا في البرلمان أعضاء عشائرهم الذين أصبحوا أعضاء في حزب البعث ومستفيدين من الإصلاح الزراعي المضاد. واتخذت الخصومات بين المرشحين منعطفاً أكثر وحشية خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة في آذار 2007.
الهندسة الانتخابية أو تعبئة الشبكات القبلية
خلال الانتخابات التشريعية في نيسان 2007، كان ما لا يقل عن 39 مرشحاً يتنافسون على المقعدين المستقلين. وكان من بينهم اثنان من المنتهية ولايته: محمد فيصل الهويدي (شيخ العفادلة) ومحمد إسماعيل الباري (شيخ بو خميس)، وكذلك علي أنور البورسان، شيخ الولده. وتجدر الإشارة إلى أن طبيباً من حلب كان أيضاً مرشحاً للمقعد B عن محمد فيصل الهويدي، الأمر الذي أثار استياء كل من أبناء العشائر وسكان مدينة الرقة، الذين لا يزالون يتسمون بعلاقة التبعية التي تعود إلى قرن من الزمان. مقابل خانجي حلب.
الهندسة الانتخابية والتكلفة في النفقات وفي الرجال. قبل شهرين من الانتخابات، يقوم المرشحون بجولة في قرى عشيرتهم لعد الأطفال الذين أصبحوا بالغين خلال العام والذين يمكنهم التصويت. يُطلب من كل زعيم عشيرة أن يكتب على بطاقة جميع أسماء أبناء كل عضو وأن ينقلها إلى الشيخ المرشح. يدفع المرشح بعد ذلك رسوم التسجيل في القوائم الانتخابية: 10 ليرات للختم و25 ل.س للبطاقة التي تحمل صورة. هذه المبالغ المتواضعة تصبح كبيرة عندما تتضاعف في 10000 أو 20000، كما يشير مدير حملة المرشح محمد فيصل الهويدي. ضمنت التسجيل في القوائم الانتخابية لما لا يقل عن 18 ألف شاب من قبيلة العفادلة مدعوين للتصويت لممثل عشيرتهم، ولكن أيضاً، وهذا يبدو لي أكثر إثارة للاهتمام، سكان مدينة الرقة، ولا سيما عائلات الككاجي وخضر الذين احتفظت أيضاً بقوائم محدثة للأطفال الذين بلغوا 18 عاماً.
وتبدأ عملية الفرز والتسجيل في القوائم الانتخابية، التي يتم تنفيذها، في تعيين وكلاء انتخابيين مسؤولين عن توجيه الناخبين إلى مراكز الاقتراع. يخطط كل مرشح رئيسي لأن يكون له ممثلان (رجل وامرأة) في كل من مراكز الاقتراع البالغ عددها 429 في محافظة الرقة. علاوة على ذلك، وللتأكد من سفر الناخبين من السهوب والريف إلى مراكز الاقتراع، استأجر ميني باص “ميكرو باص” فيه رجل وامرأة مؤيدان للمرشح. وبذلك استأجر المرشح محمد فيصل الهويدي 85 مكرو باص لكامل المحافظة، ولمدينة الرقة فقط ثلاثين “خدمة” إضافة إلى نحو عشرين سيارة لأنصاره.
واتسمت انتخابات عام 2007 بأعمال شغب قبلية بين أنصار المرشحين إسماعيل مشوج البليخ وعبد المحسن أنور الراكان، وكانت الرقة تحت حظر التجول لمدة أسبوع. في 24 نيسان، سافر وزير الداخلية بنفسه إلى الرقة ومعدان لتقييم الوضع، فيما جرت مباحثات بين مشايخ العشائر محمد فيصل الهويدي (شيخ عفادلة) وعبد المحسن أنور الراكان (شيخ السبخة). وعلي أنور البورسان (شيخ ولده) والمرشح إسماعيل مشوج البليخ من البارياج (ولده). وتقرر منح مقعدي النواب المستقلين لمحمد فيصل الهويدي (النائب الحالي) وعبد المحسن أنور الراكان الحاصلين على أكبر عدد من الأصوات. وعرض الشيخ أنور الراكان مبلغ 10 ملايين ليرة سورية (150 ألف يورو) كتعويض على المرشح الخاسر إسماعيل مشوج البليخ الذي رفض ذلك. هذا المبلغ كبير، لا سيما أن سقف الإنفاق الرسمي للحملة حدد بموجب القانون بـ 3 ملايين ليرة سورية (تجاوزه في الواقع معظم المرشحين الرئيسين، لا سيما في دائرة دمشق).
في النهاية، لم يكن أي من نواب محافظة الرقة الثمانية المنتخبين عام 2007 من مدينة الرقة. تم انتخاب امرأة واحدة فقط، عضوة في حزب البعث، من مجتمع تجار سخان. عين نائب من دير الزور في ائتلاف الجبهة المتحالفة مع حزب البعث. وانتخب شيخا عفادلة والسبخة بعد وساطة المصالحة القبلية. تكشف هذه الأحداث عن اهتمام شيوخ قبائل الفرات التقليديين بالحفاظ على الهيبة المرتبطة بمنصب النائب وخصائص السلطة التي ينطوي عليها ذلك من حيث توزيع الوظائف والمزايا، على الرغم من أن جزءاً كبيراً من أعضاء حزب البعث تحرروا من عشيرتهم منذ الثورة البعثية ومشاركتهم في إدارة مشاريع التنمية في محافظة الرقة.
يضيف مفكرو الرقة إلى العصر الذهبي للعصر العباسي والبعثي في الرقة، عصرا ثالثا بإيحاءات قومية، يتم تقدير استقلالية مدينتهم ومقاومتها للمحتلين الفرنسيين في عشرينيات القرن الماضي. تمّ تقديمه على أنه إنشاء دولة بدوية مستقلة من قبل حاجم بن مهيد، زعيم فدعان عنزة، وقد أعاد مثقفو الرقة تفسيرها بالكامل على أنها حلقة من الاستقلال الحضري. ومع ذلك، فإن المحفوظات بالوكالة الفرنسية تقدم نسخة أخرى من الحقائق، وتصف العائلات الحضرية الخاضعة بشدة للضرائب البدوية والتي تسعى بأي ثمن للتخلص من هؤلاء البدو. من جانبهم، فإن شبه البدو، الذين غالبا ما يحتقرهم البدو وسكان البلدة، يدّعون شرف المقاومة للجيش الفرنسي، وهو ما يرويه بالفعل الأرشيف.
عند نشر رواية حالة حاجم بن مهيد المجهولة، بعد اثنين وأربعين عاما من الأحداث، نكتشف أن أحفاد هذه العائلات لديهم في صميمهم عظمة هذه الدولة، فضلا عن الفضائل القبلية ومعتقداتهم كبدو وهم “الشجاعة والكرم والتقشف”. في الوقت نفسه، يؤكد المثقفون الذين يدّعون هذه الفضائل أنهم ليسوا أبناء قبائل، لكنهم “عائلات” حضرية تماما. وهكذا تتشابك الخصائص العمرانية والقبلية في التراكيب البلاغية لمفكري الرقة، مثل عملية التناضح بين العالم المستقر والعالم البدوي التي كانت ستميّز شرق سوريا حسب الجغرافي جاك ويوليرس: تبني المفاهيم البدوية. لذلك فإن هذه المناطق المحرومة هي التي تتلظى بنار السماء ورياح الخماسين، هذه الخلطة المذهلة للقبيلة والمدينة، الراعي والقافلة، من البدو والحديقة، التي منها ولدت الحضارة العربية” (ويليرس، 1946، ص 300).
ومع ذلك، فإن هذه الإنشاءات الخطابية ليست سوى عنصر مؤسس للحضارة، والتي تتم دراستها من حيث الخطاب بقدر ما تتم دراستها من حيث الممارسات. وعلى الرغم من أنه يؤكد على الحفاظ على التقاليد القبلية في الإسكان، والتحالفات الزوجية، وتسويات مسائل الشرف والإعجاب بالقيم البدوية، إلا أن عبد السلام العجيلي يظل بعيدا عن أسلوب الحياة هذا الذي يصفه، قولا وفعلا. ولذلك من الضروري إكمال هذه الدراسة للخطابات حول المدينة من خلال تحليل الممارسات اليومية للفئات الاجتماعية التي تعيش في الرقة ومن خلال تحليل مؤانستهم. إن الجمع بين أيديولوجياتهم الإقليمية وممارساتهم سيسمح لنا بمعرفة مناطقهم الإقليمية.
هوامش:
1- لدراسة مسألة التمدن في الرقة، أعتمد على العمل المنسق من قبل بيير سينيولز وميشيل لوسو ونشره من قبل أورباما URBAMA العمران المعني، وكذلك على مقال ف. ميرمييه:
(لبوسّو، سيني (ميرمييه عن التحضر في صنعاء (CNRS-Tours) ، وكذلك على مقال ف. ميرمييه عن التحضر في صنعاء (لوسو، سينيول، 1996، وميرمييه، 1989).
2- حدد عالم الأنثروبولوجيا ديل إيكلمان أربعة أنماط من صياغة الهوية القبلية في الشرق الأوسط: استخدام الإيديولوجيات العرقية السياسية المحلية من قبل الأفراد لشرح تنظيمهم الاجتماعي والسياسي. استخدام المفاهيم من قبل السلطات للأغراض الإدارية؛ إسناد المفاهيم الأنثروبولوجية من قبل الباحثين؛ تقاسم المفاهيم الضمنية، غير الرسمية في شكل إيديولوجيا (إيكلمان 1989، ص 127).
3- في الفصل 2.
4- قام مارك سايكس بعدة رحلات إلى تركيا والشرق الأوسط في بداية القرن العشرين، والتي ولدت منها الأعمال الثلاثة: من خلال خمس مقاطعات تركية في التنكر، لندن، 1900؛ سجل رحلة عبر عشر مقاطعات آسيوية في تركيا، لندن، 1904، تراث الخليفة الأخير، لندن، 1915.
5- في عهد فيصل، تمّ تشكيل حكومة عربية في دمشق من تشرين الأول 1918 إلى آب 1920 حتى هزيمتها ضدّ قوات الجنرال غورو في ميسلون. هذه الحلقة من التاريخ السوري، والتي كانت مع ذلك فترة سيطرة النظام الملكي الهاشمي على سوريا، ارتقت إلى مرتبة التراث الوطني السوري من قبل حزب البعث، ويُذكّر البعث بأنّ “استقلال ووحدة سوريا الطبيعية”. أعلنها المؤتمر السوري في 7 نيسان 1920، حيث يتم للآن إحياء ذكرى هزيمة ميسلون كل عام (بيكار 1985، ص 211).
6- “إلى كل رؤساء قبائل دير الزور، تحية طيبة، نقدر كل الجهود التي بذلتموها في الماضي لخدمة الوطن العزيز. ووفقاً لرغباتكم، يأتي إليكم العقيد رمضان شلاش اليوم ليرسل لكم تحياتنا. عيناه قائدا لكامل منطقة دير الزور. نحن على ثقة تامة بأنكم ستساعدوه في خدمة الوطن وإنقاذه من هذه الأيام الصعبة. تعالوا واتحدوا. أرسل لك العديد من الأوسمة. انهض بسرعة للدفاع عن الوطن العزيز. توقيع فيصل، المقر الملكي، الديوان الأول، 29 شوال 338 “(15 تموز 1920) (نانت، ملف 546-7، تقرير جبَارة، 1932). قدم القوميون السوريون هذه الثورة كحلقة مهمة في النضال من أجل الاستقلال الوطني، يمكن مقارنتها بحلقة جبل الدروز عام 1925.
7- إشارة، جيش الشام، Box 4H107، تقرير أجهزة المخابرات بتاريخ 28 آب 1920 عن الفترة من 20 تموز 1920 إلى 22 آب 1920).
8- إشارة، جيش الشام،carton 4 H107, التقرير الشهري 27 أيلول 1920 عن الفترة من 16 إلى 23 أيلول 1920).
9- “يواصل حاجم بك بن مهيد إرسال الرسائل إلى أهل المدينة وإلى القبائل دون أي نجاح، ونحن لا نولي أهمية كبيرة لأفعاله” (نانت، الملف 546-7، ملاحظات عن قضاء دير الزور، رسالة من معتقد لواء الزور، القاضي فاضل العبود، إلى الجنرال دو لاموث، 5 تشرين الأول 1920).
10- “بالرغم من أن قضاء الرقة ينتمي إلى سنجق حلب، إلا أنه لا يمكن تحريره بعد من قبضة تركيا، التي تحتفظ، حسب آخر المعلومات، بحامية هناك من كتيبة معززة مكونة من 4 رشاشات وبندقيتين. يتصرف حاجم والعنزيون مثل الأسياد هناك، بعد أن أخضعا بالكامل قبائل العفادلة الذين يشكلون الجزء الأوسط من سكان المدينة المستقرين. بالتناوب، يمارس القائمقام التركي، المنفصل عن سنجق أورفا، وشوكت باي، ومحمد الهويدي الشلاش من قبيلة الولده، سلطة لا تكاد تمتد إلى الضفة اليسرى.
والاتصالات التجارية بين الرقة وحلب شبه معدومة، ويشكل الركود الذي تعاني منه المدينة والقضاء أفضل دعاية لصالحنا، مقارنة بالهدوء والازدهار اللذين تمتع بهما ممبج منذ شهرين. أثر مرور عمود ليموين، وهو الرد الشديد الذي تم في 17 حزيران على هجمات العفادلة، في ذروة الرقة، بشكل كبير على الروح المتنقلة للقبائل التي تأثرت بشدة بمظاهرة القوة الفرنسية. يبدو أن هاتشم قد فقدت الكثير من هيبتها وتشعر بالحاجة إلى الاقتراب منا. مزواد الجيش، منافسه في احتلال الرقة، المخيم حالياً في جبل مونشر، يطلب أيضاً الاتصال بنا. يبدو أن الوقت قد اقترب عندما يكون من الممكن إعادة الرقة إلى طاعة حلب”. ( شاة، carton 4H413 التقرير الشهري لشهر تموز 1921).
11- شاة، جيش الشام،carton 4H413 ، التقرير الشهري لشهر أيلول 1921.
12- لا ينبغي المبالغة في أهمية شخصية (حاجم). إن تأثيره محل نقاش كبير. وأهل الرقة يكرهونه. والعديد من القبائل التي يدعي أنه يقودها لا تعترف به كرئيس لهم. وفي حال توقف دعم الأتراك له، فسيتوقف قريباً عن اعتباره أي شيء آخر غير زعيم بدوي يقتصر تأثيره على اتحاد عنزة نظرياً أكثر من كونه حقيقياً” (شاة، جيش الشام، carton 4H107 نشرة الخدمة الشهرية، المخابرات، تشرين الثاني 1921، حلب، ص 21 – 22).
13- نانت، ملف 546-7، 1932، خليل جبارة، تقرير عن الوضع الاجتماعي في قضاء الرقة.
14- “بعد انسحاب القوات العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى، وتقدم القوات الفيصلية للثورة العربية، تم ضم الرقة إلى دير الزور. عندما احتلت القوات البريطانية دير الزور في كانون الثاني 1919، جرى إلحاق قضاء الرقة بحلب التي كانت بيد الحكومة العربية في دمشق، وعين فيها حاكم. بعد انسحاب القوات الإنجليزية من دير الزور، في كانون الأول 1920، عاد اللواء إلى حكومة دمشق العربية، وأصدر الأمير فيصل بن شريف قراراً بضم قضاء الرقة إلى دير الزور. وبعد معركة ميسلون، ودخول القوات الفرنسية إلى دمشق، كانت سوريا تحت الانتداب الفرنسي، وأقيمت الحامية الفرنسية في المدن السورية الرئيسة، بما فيها الرقة، وفي 19 كانون الأول 1921 دخلت بعض الوحدات المسلحة الفرنسية. الرقة التي تم إلحاقها بعد ذلك بلواء حلب لكنها لم تبقى هناك وربطت مرة أخرى بلواء دير الزور”. (الرقة، لؤلؤة الفرات، 1992، ص 269).
15- “في عام 1919، احتلت القوات البريطانية دير الزور وألحقت قضاء الرقة بلواء حلب الذي كان بيد حكومة فيصل العربية وعين الضابط رمضان شلاش محافظاً (حاكم) على الرقة.” (مدينة الرقة fil thâl … 1995، ص 16)
16- المضافة أماكن ضيافة من سمات التواصل الاجتماعي العربي. تمت دراستها في الفصل 8.
17- ينظر الفصل 1.
18- رفضت الولده، في نهاية الثلاثينيات، دفع الخوة إلى فدعان مهيد ، وفي نهاية الشجار، فقد إسماعيل بن حاجم بن مهيد حياته.
19- “في عام 1941، استؤنفت الحرب بين ولدهْ وعنزة، وكان هناك 311 حالة وفاة بين الأول (بما في ذلك امرأتان) و 279 حالة وفاة بين الأخير. وتمت المصالحة في عام 1956، وهي مصالحة كاملة: حتى لو حدثت وفاة، فلا رجوع عن الاتفاقية” (الشيخ بورسان الولده، تموز 2001).
20- شاة، carton 4H413، تقرير بقلم الملازم الثاني بروكاسون، ضابط الخدمات الخاصة، رئيس موقعي الرقة وتل أبيض، بتاريخ 28 شري الأول 1941.
21- يُنظر الفصل 2.
22- يحب المزاح أنه يعيش في “مكان مرتفع” في المدينة: ليس بالقرب من بوابة بغداد أو ساحة الرئيس، ولكن بالقرب من “العربة المكسورة” المهجورة على خطوط السكك الحديدية منذ سنوات!
23- وبالمثل، وجد قضاة القبائل أنفسهم محرومين من وظائفهم القضائية عندما خضعت القبيلة للقانون العام. وتُرفع القضايا الجنائية أو الخلافات الخطيرة في المصالح الآن إلى محكمة الدولة في دير الزور. ومع ذلك، بالنسبة للنزاعات الأقل أهمية، لا يزال من المفضل اللجوء إلى التحكيم عن طريق العرف. وهذا الشكل من العدالة الشخصية يبدو أكثر إنسانية ويجعل من الممكن تجنب تكاليف وتأخير إجراء لا نهاية له” (نفاخ 1971، ص 133).
24- بالنسبة لقبيلة العفادلة، فإن الشيخ الذي له وظيفة مماثلة لوظيفة الشيخ بورسان الولده، هو كلش العفادلة، من عائلة الهويدي. وهو قادر على الفصل في النزاعات في جميع أنحاء الجزيرة، ويحمل ختماً يمنحه حق القضاء العرفي. وتتمثل مهمته الرئيسة في تحديد سعر ضريبة الدم في حالة القتل. وقد جئنا لنتشاور معه في مضافته المشلب من جميع أنحاء شرق سوريا. وعندما يصدر حكمه، من المعتاد تمزيق منديل أبيض، مما يدل على أن القضية قد تمت تسويتها.
25- حضر حفل الزفاف الذي دعيت إليه في تموز 2001 حوالي 300 شخص من القبيلة. وجرى فصل الرجال والنساء ضمن الاحتفال.
26- ممثلها (حرفيا “الوجه”).
27- الجبهة الوطنية التقدمية، التي أُنشئت في آذار 1972 ضمت إضافة لحزب البعث جناحين من الحزب الشيوعي السوري بكداش ويوسف فيصل، الاتحاد الاشتراكي العربي، والوحدويين الاشتراكين، إضافة لجناحين من حركة الاشتراكيين العرب ولاحقا أصبحت تضم خمسة عشر حزباً. وتنص المادة 8 منه على أن البعث له دور قيادي في هذه الجبهة ويفرض مرشحيه على حساب حلفائه ( دروز- فيسي 1999، ص 530).
28- منذ انتخابات عام 1973، تم حجز نسبة مئوية من المقاعد للمرشحين “المستقلين” (خارج الجبهة الوطنية التقدمية). وزادت هذه النسبة بشكل طفيف في عام 1990.
*Myriam Ababsa مريم عبابسة:
مريم عبابسة فرنسية من أصول جزائرية، حاصلة على دكتوراه في الجغرافيا من جامعة تورز، فرنسا (2004). ومؤلفة العديد من الكتب. وتعمل زميلة باحثة ومستشارة في الجغرافيا الإنسانية في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في عمان Ifpo. يركز عملها على تأثير السياسات العامة على التنمية الإقليمية والحضرية في الأردن وسوريا. وهي تتساءل عن الحوكمة والمشاركة العامة في سياسات الإسكان وتقديم الخدمات.
*-Myriam Ababsa: La mise en récit de la citadinité tribale de Raqqa
ويشكل البحث المترجم، “رهان السرد العمران القبلي في الرقة”، موضوع الفصل السابع من كتاب متكامل بفصوله الثمانية، إلى جانب المقدمة، والنتيجة والمراجع وغيرها، بعنوان: الرقة والأراضي والممارسات الاجتماعيةلمدينة سورية RAQQA VILLE, TERRITOIRES ET PRATIQUES SOCIALES D’UNE SYRIENNE، وينحصر الفصل بين صفحتيص. 255-286. وأشير هنا إلى أنني لم أورد قائمة الجداول التي تأخذ حيّزاً كبيراً من البحث، حيث اكتفيت بالفكرة المستخلَصة.
وأنوّه إلى أنه ربما استعصى عليّ التعرف على بعض التفاصيل لصعوبة الحصول على الأصل العربي من الاستشهادات القديمة، فاجتهدت في ذلك، لهذا أعتذر للمعنيين بها مسبقاً.
وربما تُعطي قراءة المدخل لكتابها عن الرقة فكرةً عنه:
إنها نجمة الهلال الخصيب الواقعة على نهر الفرات على بعد مائتي كيلومتر شرق حلب، الرقة مدينة اتصال بين عالم البدو الرحل وعالم السكان المستقرين وعالم سكان المدن. سادس أكبر مدينة في سوريا في عام 2009، مع ما يقرب من 250 ألف نسمة، كان صعودها ملحوظًا في أوائل السبعينيات كمركز إداري لمشروع سدّ الفرات، والذي كان المشروع التنموي الرئيس لسوريا البعثية لمدة عشرين عاماً. وجرى بناء ثلاثة سدود ومدينة جديدة وخمس عشرة مزرعة حكومية، مما أدى إلى استقرار الآلاف من الموظفين والعمال والمهندسين السوريين والأجانب في محافظة الرقة، الذين أدخلوا ممارسات اجتماعية جديدة هناك.
في الوقت نفسه، تحولت الرقة إلى معرض للتطور العمراني البعثي مع ساحات الاستعراض والحدائق والمباني الرسمية والتماثيل والخطابات احتفالا بإحياء المجد العباسي لهذه المدينة التي كانت العاصمة المؤقتة للخليفة هارون الرشيد.
وأدى الازدهار الإداري والديموغرافي المزدوج في الرقة إلى تغيير جذري في علاقات القوة بين أفراد عائلات المدينة السابقة، وموظفي الخدمة المدنية من القبائل شبه البدوية السابقة، ومجموعات المهاجرين المستوطنة حديثا في المدينة. وحدث انتقام اجتماعي حقيقي لصالح صغار ملاك الأراضي الذين أصبحوا أعضاء في حزب البعث والذين تمكنوا من الوصول إلى المناصب الإدارية الرئيسية في المحافظة. لكن سكان المدينة القديمة كانوا قادرين على الحفاظ على أسس قوتهم الاقتصادية، مع نشر خطابات الهوية المستقلة الخاصة بهم وممارساتهم الخاصة في التواصل الاجتماعي (الاجتماع في المضافة، زيارة مقابر القديسين في المدينة على الرغم من أن هذه الأخيرة قد تغيرت. لصالح أضرحة الشيعة).
وهكذا تشكل الرقة موقعاً مثالياً لمراقبة التغيرات في سوريا المعاصرة نظراً لحجم الاضطرابات التي عرفتها منذ نصف قرن، والتي تتسارع مع الإصلاحات التي أدخلها الرئيس السوري الجديد منذ عام 2000 (تفكيك مزارع الدولة)، (تشجيع الاستثمار الأجنبي)، والتي تهدف إلى جعل شمال شرق سوريا منطقة إلدورادو جديدة للتنمية الخاصة.