مات التي نطقها الطبيب والكاتب الروسي أنطون بافلوفيتش تشيخوف (29 يناير/كانون الثاني 1860 – 15 يوليو/تموز 1904). وهو طبيب وكاتب مسرحي ومؤلف قصصي روسي كبير، ينظر إليه على أنه من أفضل كتاب القصص القصيرة على مدى التاريخ، ومن كبار الأدباء الروس.
كتب المئات من القصص القصيرة التي اعتبر الكثير منها إبداعات فنية كلاسيكية، كما أن مسرحياته كان لها تأثير عظيم على دراما القرن العشرين.
في عام 1891 يقرر تشيخوف نشر رواية قصيرة كان قد انتهى من كتابتها منذ ثلاث سنوات في عام 1888 لكنه امتنع عن نشرها، إلا إنه عادَ إلى فكرة نشرها في ذلك العام، وكانت في الأصل تحمل عنوان (مريضتي). ورغم صفحاتها القليلة إلا إنها تعتبر من أعظم الأعمال في الأدب الروسي، فقد ناقشت أوضاع روسيا السياسية والاجتماعية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث انقسام المجتمع الطبقي واحتقار طبقة الأغنياء والمترفين للطبقات الأخرى (هناك صنف في بطرسبرغ اختصو بالضحك من كل مظهر من مظاهر الحياة، لا يستطيعون أن يمروا برجل يموت جوعاً او بحادثة انتحار، دون أن يتفوهوا بشيء مبتذل). (إن روسيا مثل فارس في الفقر والبلادة، إن الطبقة المثقفة يائسة، والأغلبية المطلقة بينها ـ في رأي بيكارسكي ـ قاصرة لا تصلح لشيء، الشعب سكير كسلان، سراق منحل، ليس عندنا علم، وأدبنا عاثر وتجارتنا تقوم على الخديعة: لا بيع بغير غش. كان كل شيء على هذا النحو، وكل شيء يثير الضحك). هذه الرواية عكس أغلب الروايات يكون دور البطولة للخادم وهو الراوي.
فلاديمير إيفانتش رجلٌ ثوري ينتحل شخصية خادم، لكي يدخل إلى منزل موظف بطرجي يدعى أورلوف والده سياسي نابه خصم لمبدأ فلاديمير السياسي، كان الأخير يتوقع بدخوله لخدمة (ابن المسؤول السياسي) إنه سيعلم كل خططه السياسية، لكن سرعان ما تخيب آماله فأورلوف جورجي إيفانتش، رجلٌ عديم الطموح لا يكترث لأي شيء في هذه الحياة (عديم المبادئ) لا يحب الأطفال ولا حتى رائحة الطبخ في المنزل، يقضي كل لياليه يلعب الورق مع أصدقائه، وابتسامة السخرية لا تفارقه حتى مع حبيبته زينايدا فيودوروفنا، التي هجرت زوجها وجاءت لتسكن معه. (إن زينايدا فيودوروفنا تريد لسذاجة قلبها، أن أحب ما كنت أتجنبه طوال حياتي، إنها تريد أن يكون لمسكني ريحة الطهي والمسح، تريد ضجة الانتقال إلى مسكن آخر، والركوب في عربة خاصة، تريد أن تعد قطع ملابسي وتعنى بصحتي، تريد أن تتدخل في حياتي الخاصة كل لحظة، وأن تراقب كل خطوة لي، وهي في الوقت عينه تؤكد لي مخلصة أن عاداتي وحريتي ستظل كما هي، وهي معتقدة أننا سنرحل لنقضي شهر العسل، مثل زوجين شابين؛ أي أنها تريد أن تكون معي طوال الوقت في القطارات والفنادق، في حين أحب أنا القراءة أثناء الرحلة، ولا أحتمل الحديث في القطارات).
من هنا يظهر بوضوح عزوف أورلوف عن تحمل أي مسؤولية، حتى إن كانت مسؤولية حبيبته، فأورلوف هنا صورة واضحة عن الطبقة السياسية في روسيا، في ذلك الوقت، العاجزة عن تحمل مسؤولية الشعب.
ولم تكف زينايدا فيودوروفنا عن محاولة تغيير حياة حبيبها أورلوف، لكن دون جدوى إلى أن يبدأ بالتهرب منها (بدأ يتجنب الحديث معها بعد ذلك المساء الذي تحدثا فيه عن عمله الرسمي؛ فكلما أخذت زينايدا فيودورفنا تجادل أو تتوسل إليه، أو بدت على وشك البكاء؛ تلمس عذراً ما للاعتكاف في حجرة المكتب، أو الخروج، وكثر تخلفه عن النوم في المنزل، وكان تخلفه عن العشاء أكثر، وفي أيام الخميس كان هو الذي يوحي إلى أصدقائه بسهرة ما، وكانت زينايدا فيودورفنا ما تزال تحلم بالطهي في المنزل، والانتقال إلى مسكن جديد، والرحلة في الخارج، ولكن أحلامها بقيت أحلاماً).
يهيم الخادم بحب سيدته دون أن يطلعها على ذلك، يراقبها وهي تتعذب من حب رجل لا يحبها، بارد، قاسي القلب، ملول من كل شيء. وتتصاعد الأحداث وتكثر الخلافات بينهما (إننا لا نزال ندور وندور ولا نلتقي في النقطة الحقيقية، إن النقطة الحقيقية هي أنك ارتكبت خطأً، ولكنك لا تريدين أن تعترفي به، لقد تخيلتني بطلاً، وأني صاحب أفكار ومثل سامية، وإذا بي موظف عادي ولاعب ورق لا يتحمس لنوع من الأفكار، أنا خليق بأن أمثل العالم الفاسد الذي هربت منه؛ لأنه أثارك بتفاهته وفراغك، اعترفي وكوني عادلة؛ لا تسخطي عليّ بل اسخطي على نفسك؛ لأن الخطأ خطأكِ لا خطئي).
(يا لجبنك إزاء الحياة الحقة، والطبيعة الحقة، اللتين يصارعهما كل رجل صحيح سليم).
وبعد كثرة تغيب أورلوف عن المنزل يقرر فلاديمير أن يتخلى عن كل شيء عن هدفه السياسي، وخدمة أورلوف، ويكشف الحقيقة لزينايدا فيودوروفنا، وكذلك يكشف لها عن هويته الحقيقية، ويسافر بها إلى البندقية، ورغم تعلقه بها إلا إنها تعجز عن أن تصبح حبيبته وتموت منتحرة بعد أن تضع مولودتها سونيا.
قد تبدو هذه الرواية للمرة الأولى إنها رواية اجتماعية عاطفية أكثر من كونها رواية سياسية، لكنها رواية سياسية بامتياز، فعجز أورلوف عن إعطاء حبيبته مكانتها الأجتماعية والبقاء معها، صورة طبق الأصل عن عجز الطبقة السياسية آنذاك عن الاعتراف بالطبقات الروسية الفقيرة والنهوض بها. حتى عندما علمَ بأن له ابنة من زينايدا فيودورفنا لم يتقبل فكرة وجودها معه وقررَ إدخالها إلى مدرسة داخلية (آه يا إلهي! أي عبء في أن يكون المرء اباً لطفلة! ولكن بكارسكي سيرتب كل شيء). وهنا تحضرني المقولة الشائعة: (من السهل أن نتفادى مسؤولياتنا، ولكن لن نستطيع أن نتفادى النتائج المترتبة على ذلك).
*القدس العربي