رنا علوش: ماذا لو لم يقطع فان غوخ أذُنه؟

0

الفنان فنسنت فان غوخ (1853-1890) من أشهر الفنانين التشكيليين في العالم. وما زالت قصة قطعِه لأذنه تثير الجدل؛ هذه القصة التي تشعبت حولها الروايات والأساطير، تشبه تشعب الأخبار والروايات حول موته أو انتحاره الغامض. لكن ماذا لو لم يقطع فان غوخ أذنه؟ ماذا لو لم تُثر حوله كل هذه الروايات المؤثرة؟ هل كانت لتقترن باسمه اليوم كل هذه العظَمة؟ هل العواطف المثارة هذه هي سبب شهرته الواسعة اليوم؟ أم أنّ أعمال فان غوخ جديرة وحدها بهذه الشهرة؟


على غرار الكثير من فناني عصره، لم يحظَ فان غوخ بالتقدير والشهرة خلال حياته، بل بعد وفاته الغامضة، أصبحت رسومه من أشهر وأغلى اللّوحات في العالم. وتختلف الروايات في سرد أحداث وأسباب قطع فان غوغ أذُنه… تقول أبحاث أنّه أصيب بنوبة عصبيّة بعد شجار حصل بينه وبين صديقه الفنان بول غوغان، فأقبل على قطع شحمة أذنه. لكن دراسات تستند إلى تقارير الشرطة، تفيد بأنّ فان غوخ لم يلحق الضرر بنفسه، وأنّ غوغان هو مَن قطع أذُن صديقه بعد نفاد صبره. أمّا الروايات الأخرى لبعض الكتّاب، فتنص على أنّ غوغان ليس له علاقة بتلك الحادثة لا من قريب ولا من بعيد، وأنّ فان غوخ أقبل على قطع أذنه بعد تلقيه خبر زواج أخيه ثيو، الذي كان المُعين الوحيد للفنان ماديّاً ومعنويّاً. هذا الإختلاف في سرد الرواية، يجعل الحادثة أكثر غموضاً وإثارة للجدل، وجعل محبّي الفن أكثر إقبالاّ للإطلاع على حياة فان غوخ وفنّه بهدف تحليل شخصيّته وحلّ اللّغز الكامن وراء قطعه أذُنه. 

تتناول لوحات الفنان الهولندي مواضيع متنوّعة، فإلى جانب لوحته الشهيرة “عبّاد الشمس”، صوّر فان غوخ المناظر الطبيعية، والبورتريه، وخصوصاً البورتريه الذاتي، بالإضافة إلى المواضيع الخاصة، مثل مقتنياته (حذائه) وغرفة نومه. وتعدّ لوحته “ليلة مرصعة بالنجوم” التي أنجزها خلال إقامته في المصحّ النفسي، من أشهر الأعمال الفنيّة في العالم على الإطلاق، فغدت أيقونة لمحبي الفن التشكيلي، وبتنا نشاهدها في كلّ مكان: مطبوعة على الملابس وأغلفة الدفاتر والأواني المطبخية والتحف والحليّ وغيرها من أنواع التذكارات.

تتباين في لوحات فان غوخ الألوان الزاهية بين الأصفر والأزرق، وتتراقص الخطوط المائلة عبر المساحات اللّونية الكبيرة والمسطّحة، المستوحاة من المطبوعات اليابانية. كما تبرز ضربات ريشته القويّة والحادّة على أسطح القماش، معبّرةً عن حالة الفنان المتوترة. قام الفنان بأسلوبه المميز هذا، بنسخ مواضيع وتآليف من أعمال للفنان الفرنسي فرانسوا ميليه (1814-1875) Francois Millet، فأخذ عنه المَشاهد والعناصر ونسخها بألوانه وخطوطه الخاصة. لقد أعجب فان غوخ بأعمال هذا الفنان، الذي عُرف برسّام الحياة الريفيّة الفرنسية. رأى فنسنت نفسه في قصة حياة ميليه، فهو أيضاً رجل بسيط نشأ في عائلة من الفلاحين وكان فخوراً بجذوره. عزز هذا من تصميم فنسنت على رسم حياة الفلاّحين، تمامًا مثل ميليه، بل قام بعمل نسخ طبق الأصل من أعماله، وكانت هذه هي الطريقة التي مارس بها فان غوخ الفن خلال خطواته الأولى، محاولاً تطوير نفسه بنفسه. والسؤال أيضاً: هل لفنّانِ نسخ عن فنانِ آخر قبله، أن يتمتع بهذه الشهرة الواسعة وغير المسبوقة؟ بل تتخطى الفنان الذي نسخ عنه!

يدور الجدل مؤخراً حول أعمال فان غوخ المنسوخة عن ميليه، مع التأكيد على أن أعماله غير محصورة في ما نسخه عن ميليه، بل لديه الكثير من المواضيع التي استوحاها من حياته اليوميّة والطبيعة المحيطة به. فضلاً على أنّه من الطبيعي أن يقوم الفنان في بداية مسيرته بنسخ أعمال لفنانين آخرين، ففي أكاديميات الفنون، يقوم طلّاب السنوات الأولى بنسخ أعمال الفنانين الكبار، كوسيلة لتعلّم قواعد التأليف والمنظور والضوء. ثمّ يُطلب من هؤلاء الطلّاب إعادة نسخ اللّوحاتن لكن بأسلوبهم الخاص، تماماً كما فعل فان غوخ.

قد تكون سيرة حياة فان غوخ جذّابة ومثيرة للمشاعر، ولعلّها أحد أسباب شهرة الفنان. لكن أهميّته لا تقتصر على قصته “المأسوية”. لقد كان فان غوخ أوّل من ترجم حالته الإنفعاليّة من خلال ضربات ريشته الحادّة، فأعطى للتضاد اللّوني قيمة تعبيريّة. ثمّ معه لم تعد اللّوحة تقتصر على نقل مشهد معيّن بالخضوع إلى قاعدة لونيّة معيّنة، كما فعل الإنطباعييون من قبله، بل أصبحت اللّوحة تحاكي أيضاً ما يختلج في نفس الفنان وحالته خلال تصويره للمشهد. وبالتالي نستطيع وبكل ثقة أن نعتبر فان غوخ الممهد الأوّل للمدرسة التعبيريّة expressionism.  ومن ناحية أخرى، لا يمكننا فصل قصة فان غوخ وحالته عن أعماله، لأنّ حالته تتضح أشدّ الوضوح في تلك الأعمال وتتمثل في اختياره للألوان وطريقة تعامله معها وتوزيعها على سطح اللّوحة.

ففي إحدى لوحاته الأخيرة “حقل القمح والغربان”، يصوّر فنسنت الغربان وهي تجتاح حقل القمح وتحلّق في كآبة السماء. اختار الفنان أن يصوّر مساراً صغيراً في منتصف اللّوحة يفصل حقل القمح ويقسمه إلى قسمين، ما يخلق إحساسًا بالوحدة وعدم اليقين. فضلاً عن خطوطه في اللّوحة التي توحي بالتوتر، وألوانه التي تبرز بكآبة وبؤس. يعتبر كثر أنّ هذه اللوحة تنذر بانتحار فان غوخ، وتمثل العزلة التي شعر بها على مر السنين. لا سيما أنه أنجزها في الأسابيع التي سبقت وفاته. فهل كان للفنان أن ينجز لوحة كهذه، لولا حالته المرتبطة ترابطاً واضحاً مع العمل الفنّي؟

لو أنّ فان غوخ لم يقطع أذُنه، كان سيبقى على المقدرة الفنيّة ذاتها، بعدما غيّر في مسار الفنّ ومهّد لظهور الفن التعبيري. لكن هل كان ليستقطب شرائح متنوعة من الجمهور المتعاطف معه والفضولي؟ سؤال لا يمكن الإجابة عليه إلّا إذا تمكنّا من السفر عبر الزمن وإقناع الفنان بعدم إلحاق الضرر بنفسه. صحيح أنّ حياة فان غوخ غنيّةن بالغموض والمعاناة والأحداث المأسوية، لكن كلّ هذا البؤس كان مساهماً في طبع أعماله الفنيّة التي جعلته مميّزاً وسابقاً لعصره. فلا يمكننا سوى التأسف على أنّ أعماله لم تحظ بالتقدير اللازم إلا بعد وفاته.

*المدن