تبلل الوشاح بالعرق وارتخى، فتوقف ليعيدَ إحكام ربطه حول رأسه. كان الوشاح بقية كوفية فلسطينية بالية يعتصب بها دائما في أوقات العمل والكد. أدار حولَ قُطب المطرقة الضخمة كَفَّيْنِ متينتين. رفعها عاليا وهوى بها صارخا بكل قواه:
– اللهْ يْعَاوْنْ العَوْنَات..
رنَّ الإسفينُ وانفلق الجذر الضخم، وبدا للعيان باطنُه كبياض إبط. كانت الرنة الأخيرةُ صدىً حادا في فراغ، بينما الرنات السابقة كانت مكتومة بطيات الخشب. شاع عبقُ العرعر. كل الجذور تصير عرعرا عند الألم. سرت الرائحة في خياشيم الحاضرين هناك في باحة الفرن. تلك الباحة التي تصير ساحة فرجةٍ، كلما حلت تلك اللحظة القوية الفخمة من زمن الحي المتواضع..
ضجِرا مثل بطلٍ أنهى إنجازا ويستعجلُ الآخر. رمى الجيلالي المِطرقة جانبا ثم استوى مستقيمَ الظهر. وقف كعملاق منتصر على جلاميد الخشب. جذورٌ أخرى تنتظر على مقربة. ضخمةٌ هي الأخرى كأنها أضراسُ الجبابرة في النار. كل جسمه يتفصَّدُ الآن عرقا. عنقه على صدره المفتول؛ عضدُه الجزل كسفح جبل، على ساعدِه؛ وعلى جبينه تلألأت الرُّحَضاء وعلى خده وخلف أذنيه وفي كل مكان. ما لبث أن أحرق الملحُ جفنيه فمسحه بكمه الخشن. الأطفال الحضور يتراهنون على الجذر الموالي. يصفون كيف سيغلبه ويصرعه مثلما صرع الجذور الأولى، وفي أجَلٍ يتناقصُ. كأنه عداء متفرد يكسر رقمه القياسي كلَّ مرة ولا ينافسه فيه أحد. الشغل يزيده قوة إلى قوته. سرت همساتهم في وصفه ككل مرة يشهدون تلك المتعة. الجيلالي قوي. الجيلالي عملاق. الجيلالي من عائلتي. ابن عم أبي. ابن خال أمي. صديق أخي الأكبر. عمي. أبي. وكان كلٌّ منهم يتخيلُ نجاته من أحلك الظروف بتدخل الجيلالي في آخر رمق كأنه «زورو» أو «باتمان». لكن الجيلالي لم يكن قريبَ أحد ولا صديقَه. كان حديثَ نزوح من العَونات مِنْ سهل دكالة، أميا، ذا بسطة في الجسم جعلته قريبَ كل سكان الحي، لأن القوة تغري بالتزلف والمَلق..
أما الحضور الكبير فقد كان مشهد تكسير الجذور الضخمة مثل مُصارعة الثيران. الأستاذ بْنْ قْدُّور، صفق كعادته. كان يسمي الجيلالي «الماطادور» والجيلالي يضحك لغرابة اسم لا يفهمه ولا يستفهمُ عنه. لا بأس، ولا داعي. الأستاذ بن قدور رجلٌ فاضل ولا يمكن أن تكون كلمة «ماطادور» إلا مدحا وإكبارا. بن قدور دكالي هو كذلك وكان يقول لابن بَلده الجَلدِ القوي الأمي مفتخرا «كُنْ غِي دُكَّالِي، بْلا ما تقرا» والجيلالي يفرح وينتشي..
جْغْمُوط كان حاضرا هو كذلك ويأكله الغيظ، والجيلالي في غمرة العمل لا يجد وقتا ليتنبه لأحد يحنق عليه أو أن يحنق على أحد. كلما حضر ذلك المحفل، كان جغموط يُشِيع بأن الجيلالي يسكنه جِنِّي، ولا بد أنه عفريت قوي. هل يُعقل يا قوم أن تلك القوة طبيعية؟ ذلك النفَس؟ ذلك الصبر؟ «ما يمكنش» وكان يبحث كيف يثبت ذلك للناس ويفسخَ سِرُّ الجيلالي ويطردَ عفريتَه لينزع عنه لباس قوته. جغموط مُرَوِّجٌ، ومُخبرٌ كذلك، بفعل طول جلوسه في الحي ومراقبته للرتيب من الحركات وللطارئ. أهل الحي يخشونه كما تُخشى العقرب أو الأفعى، بينما يهابون الجيلالي هيبة تليق بالأقوياء الأشداء، ويحترمونه.
كان جغموط اليوم يحمل لفيفا خلف ظهره ويرقب استراحة الجيلالي. شيء كالقنينة. لا يمكن إلا ان تكون خمرا أحمر من النوع الذي يبيت يشربه في عتبة البيت ثم يتقيؤه في زوايا الحي، كحيوان يؤشر على دائرة نفوذه بنجاسته. اغتنم توقف الجيلالي وتقدم نحوه. ناوله الملفوف وقال له في تحد صبياني:
«- تْشْرْبْهَا قدام الناس نْعْطْيكْ زْرْقَالافْ، إِذَا كْنْتِي صْحِيحْ..»
تردد الجيلالي في تناول اللفيف، لكن نبرة التحدي استفزت حرارة جسده وجعلته يمسكه ويزيح ورق الجريدة فإذا بها قنينة زيت زيتون. خدعة!
– شنو هذي؟
– لتر زيت.. ما غاديش يغلبك..
تردد الجيلالي في البداية لكن.. إنها مئتا درهم، «زرقالاف»! لم يتقاضها دفعة واحدة عن خدمة الجذور الزائدة عن مهمة طرح الخبز في بيت النار. إنْ أمده صاحب الفرن بنصفها فقد بالغ في إكرامه. لم لا؟ هو قوي صلب البنية ومعدته طاحون كيميائي وميكانيكي، ولن يُبقي افتضاض الجذور الضخمة أي بقية لذلك اللتر اليتيم. فتحَ القنينة وشرع يشرب الزيت جرعة، جرعة، ويقلب الجذور بقدمه أيُّهَا جاء دورُه. بينما جغموط ينتشي برؤيته وهو يشرب. خطته نجحت أو تكاد. حتى لو لم يُصَب الجيلالي بمرض فالزيت عدو الجن وسيفرون من جسد الجيلالي ويتركونه بدون قوة أو مدد، وسيطرده صاحب الفُرن رغم كونِه عَونِيًّا مثلَه ومعظم دعائه «الله يعاون العونات».. والعونات فقط..
أتم اللترَ وأحس بمغص خفيف استحمله، وبالغ في انتصابه. تناول المطرقة من جديد وأثبت الإسفين في طية من طيات الجذر الموالي وضرب ضربة مُبالغةَ انكسرت له قطب المطرقة وطار رأسها الحديدي. توقفَ ونظر مليا، التفت إلى الناس كالمعتذر، ثم اتخذ انكسارَ المطرقة حجة للانصراف الباكر.. تبعه جغموط وسلك في جيبه الورقة الزرقاء. أبرأ ذمته الغادرة. التفت وفي عينه شماتة وانتظار. هل يعود الجيلالي غدا أم لا يعود..
*القدس العربي