رشيد سكري: سارة برنار: موهبة الفن النادر

0

في كثير من الأحيان تستوقفني مقالات تثير فيّ شغبا خاصا، بل تدفعني إلى البحث عن منابع إضافية، أستزيد من ثرائها المعرفي، وأنهل من معين أصولها التاريخية أيضا، فتلقي بي، لا محالة، في دهشة إبحار فكري قسري، دون وعي أو دون شعور مني. إن مثل هذه المقالات، في نظري، هي التي تخلق من القارئ باحثا حقيقيّا، رغم كسله وخموله، فيدركه صعود مختلف عن سابقيه، بما هو يزوده بوسائل كفيلة بأن يرفع بنودا خفّاقة بالتحدي المعرفي، ففي سبيل ذلك تكون المزية الحسنة هي الوصول إلى الأسباب الحقيقية، التي كانت وراء هذا التأثير البالغ الذي عم أرجاء الكون، أهو جراء موقف؟ أم هو عائد إلى نبوغ فني؟ أم حصيلة تمثيل في الكونسرفتوار؟
تثير مقالات عميد الأدب طه حسين زخما معرفيا وفكريا قلّ نظيره في خريطة الثقافة العربية، وهذا ما تركت مقالته الشهيرة عن سارة برنار في مجلده «علم الأدب» من قضايا جدلية ساخنة في المشهد الثقافي والفني والسياسي الفرنسي إبان القرن التاسع عشر. إن رحلة البحث عن المعرفة، من القاهرة إلى باريس، صادف خلاله طه حسين، موت الفنانة الفرنسية سارة برنار عن عمر ناهز الثمانين عاما، فكان الازدحام على أشده حينما نقلت وسائل الإعلام دخول صاحبة الجمال النادر، والذكاء الباهر هزيعها الأخير. فمن بين الوسائل التي اقتفت أثر هذه الجوهرة الشهيرة برنار، مجلة «الألستراسيون» التي تعنى بالطبقة البورجوازية ذات النفود المؤثر في الجمهورية الفرنسية، وكان يديرها الصحافي الفرنسي إدوارد شارتون.
في غمار ذلك، كانت سارة برنار حديث كل المهتمين بالفن في باريس وخارجها، بدعوى أن الفنان الحقيقي هو الذي يدخل غمار القضايا التي تؤرق المجتمع وتدفع به في أتون الفوضى والخراب، فأسوة بأبيها الهولندي، ذي الأصول اليهودية، الذي ظل منشغلا بالسياسة العامة حتى آخر أيامه، كانت سارة برنار تتخذ مواقف جريئة في الهزات العنيفة التي يمر فيها المجتمع السياسي الفرنسي، فهي من بين أتباع إميل زولا في ما يعرف بقضية الجاسوس «ألفريد درايفوس» التي قسمت المجتمع الفرنسي إلى قسمين. فإميل زولا كان من المدافعين والمنتصرين للحق في الحياة والعيش الكريم داخل المجتمع الفرنسي، وبهذا جاء موقفه واضحا ضد الإعدام في قضية ألفريد، ليكون السجن حلا وسطا لهذا الجاسوس، الذي ملأ الدنيا وشغل بال الفرنسيين.

إن مثل هذه القضايا تكشف عن مدى لحمة المجتمع، وعن مدى مساهمة الفن في القضايا السياسة التي تشغل بال المنتظم الدولي، فسارة برنار عاشت وحيدة بين يدي مربية في كوين بيرلي، وهي مقاطعة فرنسية، قبل أن ترسل إلى مدينة فرساي، لتكتشف موهبتها الفذة في النحت والرسم والرقص والموسيقى. وبفضل رجل السياسة الفرنسي، وعضو الجمعية العامة دوك دومورني، دخلت سارة برنار الكونسرفتوار والكوميدية الفرنسية من بابهما الواسع، وذلك في ستينيات القرن التاسع عشر. وقبل الثورة الفرنسية مباشرة تم تأسيس المسرح الفرنسي «لوديون» الذي يُطلق عليه حاليا اسم «المسرح الأوروبي» وكان لهذا الأخير، في حياة سارة برنار، نقطة تحول عميقة، حيث أبرمت مع إدارة المسرح عقودا بموجبها تلعب أدوارا مهمة في أمهات روائع الأدب الإنساني آنذاك. وفي هذا المقام، باشرت ولأول مرة، دور الملكة في رائعة ري بلاس، وهي دراما رومانسية لفيكتور هوغو، إلى جانب «فايدروس» لجون راسين. ليتحول هذا المركب المسرحي إلى مستشفى عسكري، لما كانت فرنسا تحت رحمة المد النازي، الذي أتى على الأخضر واليابس.
بعد هذا المسار الطويل بدأت سارة برنار ترنو إلى خارج فرنسا، فقدمت استقالتها من مسرح «لوديون» لتنتقل، بعد ذلك، إلى بريطانيا وكوبنهاغن والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، لكن هذه المرة ببروفايل جديد أكثر جرأة وحماسة، تجرأت، من خلال مسرحيات راسين، على لعب أدوار رجالية. ففكتور هوغو يصفها بالصوت الذهبي، بينما الشاعر والمخرج الفرنسي جان كوكتو يرى أن عبارة «الوحش المقدس» أليق بسيدة الفن والتمثيل والرقص. ففي سنة 1900 اقتحمت سارة برنار عالم السينما من خلال فيلم «مبارزة هاملت» لمخرجه كليمون موريس، الذي لعبت فيه برنار دور هاملت.
ومن بين الأسئلة المشروعة، التي كان يطرحها عميد الأدب في مقالته عن سارة برنار، من قبيل، متى يتاح لمصر نابغة كسارة برنار؟ شرعية هذا السؤال وغيره، متعلق بارتباط الفن بالحياة العامة ليس في مصر حسب، بل في العالم العربي على وجه التحديد. بصيغة أخرى، هل في العالم العربي متسع من الزمن السياسي أن يستوعب أمثال سارة برنار؟ فنحن شاهدنا كيف كانت تشارك، كفاعلة سياسية، في المنعطفات الحاسمة التي تمر منها الحياة السياسية الفرنسية. فالفن كواجهة ثقافية في العالم العربي ما زال يزعج ويقلب المواجع، فضلا عن أنه باستطاعته أن يرسم صورا كاريكاتيرية للمشهد السياسي العربي. فكثيرا ما أزعجت روايات، أنظمة وأخرجتها من قماقمها، روايات عبد الرحمن منيف، على سبيل المثال لا الحصر. وكثيرا ما أرقت مسرحيات ركحية جهات كانت تنعم بالحرير، وتنام على أجنحة من ريش الحمام، مسرحيات دريد لحام، وسعد الله ونوس على سبيل المثال لا الحصر. فسارة برنار كانت واجهة الفن، الذي يوظف بهدف الرقي الحضاري، ويصبح عنوانا دالا على الرسالة النبيلة، التي يؤمن بها الفن في المجتمع. فالفن والحرية وجهان لعملة واحدة، فبهما نستطيع الحكم عن مدى جاهزية الرقي الحضاري للمجتمع. ومن خلال ذلك أصبح الفن تسيطر عليه رؤوس أموال شركات متعددة الجنسيات عابرة للقارات، بهدف صناعة بديل يبدو هزيلا مقيتا، يفرغ الفن من رسالته السامية، التي تؤثر في المجتمع وتبني أذواقا راقية، ليسبح المجتمع برمته في ملكوت الفن الحقيقي الهادف، فيبتعد عن التفاهة، التي أصبحنا نتمرغ فيها صباح مساء، وتطاردنا أينما رحلنا وارتحلنا.

*القدس العربي