رشا عمران: يحمّلون الشعر ما لا يحتمل.. لماذا نكتب الشعر؟

0

هل على الشعر أن يكون فعلًا نضاليًا؟ سؤال طرح كثيرًا خلال السنوات العشر الماضية بعد الربيع العربي وما حدث فيه، وهو مشابه لسؤال ستينيات القرن الماضي والعقود اللاحقة له، والمتعلق بالشعر والقضايا القومية والوطنية الكبرى، وهل على الشعر أن يكون ملتزمًا بتلك القضايا؟  وفي ظني أنه السؤال الذي أنتج عشرات من شعراء الأرض والمقاومة، في (بلاد الشام) بشكل خاص وفي العالم العربي عمومًا، لم يبق منهم حتى يومنا هذا سوى الشعراء الحقيقيون، الشعراء الذين أتوا بالقضية إلى الشعر واستخدموها بذكاء، أما الآخرون، أولئك الذين ذهبوا بالشعر نحو القضية واستخدموا شعرهم لخدمتها، فهؤلاء نادرًا ما بقي منهم إلا قلة ناجية عرفت كيف تتحول إلى الشعر بعد انتهاء (موضة) الشعر الملتزم لصالح الشعر الفردي واليومي والهامشي الخالي من الشعارات والوظيفة النضالية والتحريضية.

كيف يمكن للشعر أن يكون نضاليًا؟ الشعر فعل فردي ومستوحش جدًا إلى درجة المرض، كتابة الشعر تشبه المرض حقًا، وعلاقة الشاعر بالكتابة علاقة مرضية، علاقته بشعره أيضًا أشبه بأن تكون مرضية، إذ ثمة استنزاف متواصل لروحه، وثمة خوف وألم وهو يكتشف جزءًا من لا وعيه كلما كتب قصيدة أو نصًا جديدًا، كيف لفعل يشبه المرض أن يغير العالم؟ هل يخطر لكم سؤال كهذا؟ شخصيًا يخطر لي دائمًا وانا أقرأ مقولات لشعراء كبار يدعون أنهم يكتبون الشعر كي (يغيروا العالم)، يبدو الشاعر كما لو أنه يرتدي ثيابًا غريبة ويحمل بيده قصيدة سحرية ما أن يضعها على العالم حتى يتغير؛ بحيث تبدو معهم مقولة (أعذب الشعر أكذبه) كما لو أنها مقولة عن ادعاء الشعراء لدور الشعر لا عن الشعر نفسه، فالشعر أكثر هشاشة من أن يغير شيئا خارج كينونة كاتبه، وليس دائمًا ما يكون هذا التغيير إيجابيًا، فقد يجعل الشعر كاتبه مصابًا بجنون العظمة، أو قد يجعله هشًا حد الإقدام على الانتحار، أو قد يجعله متمرسًا في اقتناص الحياة إلى حد خوض أشنع التجارب وأكثرها انحطاطًا. شهد التاريخ البشري شعراء عظماء على هذه الشاكلة، أسقطوا تمامًا مقولة أن الشعر يغير العالم؛ شهد التاريخ البشري، وما زال، شعراء عظماء لم يستطع الشعر أن يجعلهم يرون الحياة من منظار أوسع قليلًا من منظارهم الإيديولوجي، فما القول بالشعراء الذين أيدوا الطغيان في تاريخنا البشري وحتى اللحظة؟ الواقفون مع الاستبداد بكل أنواعه، الداعمون له، والصامتون عن جرائمه، القديمة والحديثة، ما القول أيضًا بالشعراء المؤيدين للاحتلال، كل أنواع الاحتلالات، وهنا نتحدث عن مواقف الشعراء لا عن نتاجهم الشعري. لو أن الشعر يغير العالم كما يدعون لكان استطاع أن يخفف عن هؤلاء بعض الإيديولوجيا التي تضع ستارًا على باصرتهم الداخلية.

اعتاد الشعراء على تحميل الشعر في الأوقات السياسية والإجتماعية الحرجة ما لا يستطيع أن يحمله وحده، عملية التغيير التي يحكون عنها لا يقوم بها الشعر وحده، فرغم فردانيته إلا أنه في زمن الصعب يصبح جزءًا من كل، من كل الفنون مجتمعة، مع السياسة والاقتصاد والفكر، وكلها محمولة على حامل شعبي ضخم، هكذا فقط  يمكنه أن يساهم في عملية التغيير، التغيير يحتاج إلى حوامل كثيرة وكبيرة يتكئ عليها، الشعر وحده لا يكفي، لا يمكن له أن يقف وحده مناديا بالتغيير، لم يحصل هذا يومًا في كل العالم، هل غيّر شعر (اليسار) من مصير ومسار الحركة التقدمية في العالم؟ هل غيّر الشعر الثوري الفلسطيني شيئًا من قضية فلسطين؟ هل غيّر الشعر اللبناني المقاوم في قضية المقاومة وهل الشعر حرر الأرض؟ هل غيّر شعر ميدان التحرير من مسار ثورة يناير في مصر؟ على الشاعر في وقت ما أن يساند موقفًا أخلاقيًا ويكرس نصه لخدمة هذا الموقف، في حالة اتساق مع الذات في لحظة زمنية ما، لكن هذه المساندة وقتية، رهينة الظرف، ينزاح الشاعر الحقيقي إليها وينزاح عنها حسب راهنيتها، لكن لا يمكن لشاعر لا يمتلك عكازات شعرية له، تعينه على الخروج الشعري، خارج تلك اللحظة الراهنة، أن يستمر.

يغير الشعر في الذائقة الجمالية العامة، في المزاج الجمالي، في عملية تلق مختلفة للغة، في فهم الخيال والعلاقات اللغوية المرتبطة به، إن تحدثنا عن تغيير جمعي يمكن للشعر أن يقوم به، لكن هذا أيضًا مرتبط بمجموعة ظروف محيطة أولها العدالة، العدالة الإنسانية. ما هي الذائقة التي سيغيرها الشعر لدى مجتمع يعيش أكثر من نصفه تحت خط الفقر، هل يطعم الشعر جائعًا؟ هل يقدم الشعر لعبة لطفل مشرد؟ هل يعيد الشعر لأم ابنها المعتقل في سجون طاغية ما؟ هل يهدئ الشعر العويل في جلد النساء الوحيدات أو النساء الأرامل أو تلك اللاتي ينتظرن رجالهن الذاهبين مع الحرب؟ هذا ما يجب أن تفعله العدالة الإنسانية والبشرية والسياسية أولًا، ثم يمكن للشعر أن يتدخل ليبدأ ببناء ذائقة جمالية تستطيع أن تتراكم لتزيل بقايا الأسى والأذى والذي يصعب عليه رؤية الجمال على حقيقته، فالأذى الكثيف يشبه كثافة ستارة تحجب الضوء عن غرفة ما، النفس البشرية تشبه الغرفة، كي تضاء على أحدهم أن يزيح تلك الستارة، الشعر به من الوهن ما لا يمكنه من فعل ذلك وحده.

يقدم الشعر المتعة عند قراءته أو سماعه، وهو ليس أمرًا بسيطًا، أن تستمتع من مجرد كلام كتبه أحدهم! لماذا يستهين البعض بوظيفة المتعة ويقللون من شأنها؟ إذ لا شيء يستحق العيش من أجله أكثر من السعادة، دورة الحياة التي تنتهي بالموت تجعل من السعادة غاية بحد ذاتها، غاية عظيمة، لولا أن الحياة ليست عادلة، ولولا أن سؤال الموت خلق التملك والقوة في محاولة للقبض على الحياة ووهم الخلود، وهو ما بدوره خلق الظلم والاستبداد والاستعباد، لكن سؤال الموت نفسه خلق أيضًا الشعر والفنون وصناعة الجمال والفرح، الموت/ الفقد هو ملهم البشرية الأول، كل ما صنعته البشرية منذ تشكلها حتى اللحظة ملهمه الرئيس هو الموت بما هو صدمة الفقد، اختراع الفنون ليس سوى محاولة للتقليل من وطأة تلك الصدمة، متعة تلقي الفنون هي أيضا ضمن محاولات السعي للتخفف من وطأة الفقد/ الموت، ألا تستحق المتعة أن تكون هدفًا أو (رسالة) بحد ذاتها؟

يبدأ شاعر بكتابة نص وهو محمل بدفقة شعورية عالية، ثمة فراغ بداخله، النقصان والخسارة والفقد الذين تسببهم دورة الحياة يوسعون مساحة الفراغ داخل الشاعر، يكتب نصه ليشعر بمتعة تقليل تلك المساحة حين الانتهاء، نكتب أولا لننقذ أرواحنا من هول الفراغ، ثم نكتب لعل أحدًا ما يقرأ ويتفاعل ويشعر بما شعرنا ويستمتع؛ تغيير العالم متروك للقادة والمناضلين والسياسيين، وربما لصناع الحروب والأسلحة والمال، أو ربما، يتغير العالم حين (نغير ما بأنفسنا)، الشعر ربما هو في محاولات ذلك. عني أنا: راضية بالمتعة التي يحققها لي الانتهاء من كتابة نص شعري، أو قراءة شعر جميل، متعة صافية ومتخلصة حينما أنتهي من الكتابة أو قراءة نص يملك شعرية عالية، ومتعة مركبة أثناء إلقائي لشعري بحضور آخرين، حيث تبرز أناي وحضوري الذي أحبه واضحًا وقويًا ومتحققًا، هذا التحقق هو هويتي الشخصية التي لا هوية لي سواها، التي لا أريد أن أعرَف بسواها، لولا أنها لا تنفع في المطارات ولا على الحدود ولا في تقديم أوراق إقامة في بلد عربي شقيق، لا تنفع في أي مكان سوى في كينونتي الشخصية، لن يحميني الشعر من نظرة رجال الأمن المشككة حينما يرون جواز سفري السوري في مطارات العالم، من سيفعل ذلك هو السياسة.

(ضفة ثالثة) (اللوحة: أكسم طلاع)