رشا عمران: هل ثمة أمل بعد الرؤية الأحادية والخراب المتعدّد؟

0

كشفت سنوات الثورة وامتدادات الحرب المجنونة خلال سنوات العقد الماضي من الزمن السوري أن السوريين هم من أشد الشعوب العربية جهلًا ببعضهم البعض، وأكثرهم، ربما، توجسًا وخوفًا وريبة مما تحمله كل مجموعة بشرية في المجتمع السوري من مشاعر كراهية أو حقد أو بغضاء تجاه مجموعة أخرى، ما جعل الذاكرة الجمعية لكل مكون سوري تراكم عددًا كبيرًا من الأساطير عن المكونات الأخرى: طباعها، عادتها، أماناتها، أهدافها، أشكالها الحقيقية، خفاياها مشاعرها، واقعها.. إلخ. وهذا بدوره طور مجموعة كبيرة من المظلوميات تملكها كل مجموعة في لاوعيها الجمعي، وطبعًا أصبح الحديث عن دور نظام الاستبداد الذي حكم سورية منذ النصف الثاني من القرن الماضي وحتى الآن، حديثًا نافلًا، ذلك أن أمرًا كهذا قد أشبع بحثًا وتحليلًا وذكرًا في الدراسات والمقالات المتعلقة.

الثورة وأحداثها ومآلاتها والانقسامات حولها كشفت شيئًا مهمًا وأساسيًا: باطنية السوريين وتقيتهم، ولا أقصد هنا الباطنية الدينية او المذهبية فقط، بل التقية والباطنية السياسية والمجتمعية والتي ليست سوى نتيجة من نتائج الاستبداد والقمع الأمني الطويل الذي عمل دائمًا على إخفاء الخراب تحت قشرة التعايش أو العيش أو المجتمع المتجانس، لكن مع أول هتاف في الثورة بدأت الانقسامات الحادة التي خلخلت القشرة الأمنية الموضوعة فوق مستنقع المجتمع السوري، ومع تتالي الأيام ظهر العفن المخفي وظهرت كل الأساطير والمظلوميات المتراكمة؛ باختصار: لقد تعرى المجتمع وظهر باطنه المخفي وبانت عوراته كلها.

حين بدأت الثورة، كان الخطاب الطائفي العلني خاصًا بشبيحة النظام ومؤيديه خصوصًا لدى العلويين الذين استخدموا مصطلح (إرهابي) منذ البداية كتورية وبديل لـ(سني)، لهذا كانت مشاركة أي علوي في الثورة  بالنسبة لهم بمثابة خيانة مضاعفة، فغير خيانة الوطن (حيث لا وجود للوطن خارج النظام) هناك خيانة الطائفة والخروج عنها، لم يكن مفاجئًا أن ينبذ من جاهر بتأييده للثورة من العلويين من قبل أقاربه وأبناء قريته أو بلدته، ولا أن تلفق عنه قصص وحكايات وتشوه سمعته ولا أن يهدد بالقتل، ولا أن يكون هذا الخطاب شبه موحد حتى لدى المثقفين والمتعلمين تعليمًا عاليًا؛ يمكن فهم كل ذلك حين نفهم أنه تم ربط الوطن بالنظام وربط الطائفة بالوطن، وأظن هذا أيضًا قيل فيه الكثير خلال السنوات الماضية.

لكن لم يكن قد مضى وقت طويل على بداية الثورة حتى بدأت بوادر خطاب فئوي تظهر لدى عدد ليس قليل من مثقفي (السنة) العلمانيين، حيث صاروا يشكرون أسماء بعينها لوقوفها مع الثورة، وبالصدفة أن كل الأسماء أصحابها علويون أو من باقي (الأقليات): مسيحيون واسماعيليون ودروز (كان الأكراد ما زالوا يحسبون على الأكثرية). بالنسبة لي، ومثلي كثر، كنا في أول الأمر ممتلئين بشحنات عاطفية وطنية فقابلنا الشكر بمودة مضافة، لكن بعد قليل انتبهنا أنه يتم التعامل معنا كما لو أننا من بلد آخر، كما لو أننا لسنا سوريين نحلم ونطالب بالتغيير كغيرنا من السوريين الثائرين ولا كمواطنين يرون أن وطنهم لم يعد صالحًا لمستقبل أبنائه، ما يلزمه تغيير جذري فيه. هكذا كما ارتبط الوطن لدى العلويين ومنهم مثقفون ومدعو علمانية بالطائفة، ارتبطت الثورة بالسنة، ومن أصحاب هذا الخطاب كان هناك كثر من المثقفين ومدعي العلمانية.

وفي الوقت الذي استمر مصطلح (إرهابيين) لدى مؤيدي النظام وشبيحته في وصف الأكثرية الثائرة، تنوع شكل المصطلحات الطائفية التي استخدمت في خطاب المعارضة السياسية ولاحقًا العسكرية والإسلامية، فمن الطائفة الكريمة إلى أقليات الثورة إلى العلوية السياسية إلى التقية الأقلوية في الثورة إلى تحالف الأقليات (بعد إضافة الأكراد)، لنصل تاليًا وأخيرًا إلى خطاب (الثوار السوريون السنة العرب) فقط. كل من تنطبق عليه هذه المواصفات فهو من الفرقة الناجية وكل من لا تنطبق عليه فهو مطرود من جنة الثورة. دون الأخذ بالاعتبار أن من ضمن (الثوار السوريين السنة العرب) من هو ملحد أو لا ديني أو غير مؤمن أو معتدل، ودون الأخذ بالاعتبار أن ثمة في الآخرين من قد يكون أكثر جذرية في عدائه للنظام ورغبته في التغيير.

وعلى ما يبدو فإن السنوات الماضية بكل ما حصل فيها وبكل الخراب الذي وصمها زادت للأسف في تعميق الانقسام وجذرته أكثر فأكثر، وزادت في ظاهرة التعميم إلى درجة باتت معها المطالبة بالتحلي ببعض الموضوعية أشبه بالمطالبة ببقاء النظام.

ولكي لا يكون كلامنا مرسلًا يمكن القول إنه ما من أحد ممن يوصفون بالأقليات في الثورة إلا وقد تعرض للتخوين والطعن في مصداقيته الثورية، خصوصًا إن كان  يعمل في الشأن العام  (سياسة أو ثقافة أو صحافة أو فنون)، دائمًا سوف يجد من يتهمه بالطائفية أو بالكذب أو بالمواربة أو بالادعاء أو بالتعامل مع النظام أو بأنه يؤدي مهمة لنقل معلومات للنظام عن المعارضة (كما لو أن المعارضة السورية بالغة السرية)، وهنا يخطر لي سؤال: إن كان البعض يعتبر الثورة هي ثورة السنة العرب فقط من السوريين فلماذا يطالبون من هم ليسوا كذلك باتخاذ موقف مؤيد لها؟ ولماذا يشتمون من لم يفعل؟

والحال أنه ما زال مفيدًا التأكيد على أن التعامل مع البشر بوصفهم كتلة واحدة متجانسة هو أمر ليس فقط بعيد كل البعد عن الصوابية العلمية والأخلاقية بل هو أيضًا بالغ الخطورة لما فيه من تطوير لآليات خطاب الكراهية وشحن للغرائز والتحريض والبقاء في دائرة واحدة ووحيدة سيدور فيها الجميع دون إمكانية الوصول إلى حل جذري ينهي بعضًا من المأساة السورية، والذي لا يمكن أن يتم أو يحدث إلا على يد الوطنيين المخلصين من أبناء الثورة، ذلك أننا تجاوزنا منذ زمن طويل إمكانية التعويل على مشاركة أي أحد من مؤيدي النظام في عملية تغيير سياسية ما، فلا أمل بوجود أحد بينهم يمكنه أن يكون مؤثرًا أو فاعلًا أو مسموحًا له أساسًا أن يكون خارج دائرة (سورية الأسد المفيدة). ما يعني أن الأمر يجب أن يكون لدى من كانوا في نسق الثورة، ولكم أن تتخيلوا شكل التغيير الذي يمكن أن يحدث بخطاب مثل خطاب: ( الثوار السوريين العرب السنة) ليس فقط بالنظر إلى رفض المجتمع الدولي لخطاب كهذا (مجتمع دولي مصاب بالإسلاموفوبيا وما زال حتى اللحظة يتحدث عن اضطهاد الأقليات) وإنما أيضًا لما لهذا من استراتيجية خطيرة على المستقبل السوري إن كنا، طبعًا، ما زلنا نتكلم عن وطن اسمه سورية يؤمن الكثير من أبنائه به كوطن دائم ويحلمون بالعودة إليه، أما إن كان الحديث عن وطن بهوية مذهبية وقومية وحيدة فذلك أمر يمكنهم أن يحققوه في جزء صغير من سورية، وفي الأغلب يتم التحضير له حاليًا في الشمال السوري وبموافقة روسيا الدولة الوصية أو المحتلة لسورية.

غالبًا سوف يتم التعامل مع هذا المقال من قبل بعض المثقفين الثوريين بمنطق خلفية كاتبته المذهبية، وإن ناقشه أحدهم من هذا المنطق فسوف يجد فيه ما يدعم وجهة نظره، لكن لو نشر هذا المقال ذاته باسم شخصية (عربية سنية) فسوف تختلف قراءته لدى نفس القارئ؛ رغم أنني لست علوية، فأنا لا أعرف عن المذهب العلوي أي شيء يؤهلني للإيمان به، فكما تعلمون لا يتم اطلاع النساء العلويات على تفاصيل المذهب أو تعاليمه، إذًا، عمليًا ومنطقيًا، أنا خارج هذا التصنيف كوني لا أعرف شيئًا عنه، والحقيقة لا أعرف كيف أعامل كعلوية سواء من قبل العلويين أو من قبل غيرهم، فعدا عن أنني اخترت أن أكون لا دينية فأنا درست الدين الإسلامي (بالمذهب السني)، الذي تعتمده وزارة التربية السورية في مدارس سورية الرسمية، وتشبعت بالفكر العروبي القومي شأن كل أبناء وبنات جيلي، ولم أعش في القرية أو المدينة التي ولدت فيها كي أتأثر بمحيط (علوي)، عشت وكبرت ودرست في دمشق (السنية الأموية) كما يحلو للكثيرين تسميتها، إذًا لماذا الإصرار على التعامل معي من منطق وحيد فقط؟! وحين أتحدث عن نفسي فأنا أضع كثيرات معي (لا أتحدث باسم أحد بل فقط أصف حالة). في ظني أن الإصرار على التعامل والقراءة والنقاش من زاوية المذهب هو أحد أكثر ظواهر الاستبداد خطورة وتجذرًا في مجتمعنا السوري، بل هو السبب الأول فيما وصلت إليه الحالة السورية من خراب، فمنذ اللحظة الأولى للثورة أخذت الكثير من الاصطفافات منحى مذهبيًا وطائفيًا، علينا أن نكون واضحين في هذا، تفرقت عائلات من زواجات مختلطة بسبب الثورة، مثلما تخاصم أصدقاء للأبد، هذا شيء نعرفه جميعًا، لم يكن الخلاف سياسيًا للأسف، لم يصل يومًا أي خلاف سياسي إلى حد القطيعة والانفصال إلا نادرًا، الأسباب كانت أكثر تركيبًا وعمقًا، خوف مهول من فقدان الهوية: عودتها لدى أكثرية عانت طويلًا من التهميش والإقصاء خصوصًا أبناء الريف والمدن الثانية الصغيرة، وبدء اختفائها لدى أقليات لم تكن تعرف نفسها إلا من خلالها.

لم يسبق في التاريخ السوري الحديث أن حصل هذا، مرت سابقًا مجزرة حماة بصمت، عمقت مظلوميات فولكلورية لدى الكثير من السوريين، لكن المجازر المرتكبة وقتها كانت بين نظام وحزب سياسي ديني لم يخف يومًا رغبته بالسلطة ولم يخف جناحه العسكري ومشروعية جهاده، وهو ما جعل السوريين جميعا يتناسون ما حدث مخفين آثاره في أعماق اللاوعي الفردي والجمعي، لكن ما حصل بداية الثورة كان مختلفًا، هناك جموع متنوعة المشارب والانتماءات تطالب بوطن مختلف لا هوية فيه سوى المواطنة، الهوية التي لم يعرفها السوريون سابقًا، والبشر أعداء ما يجهلون، والعداء مع الخوف مع نظام مجرم مع مجتمع تم تجريفه مدنيًا وقيميًا مع ثقافة باطنية مجتمعية عامة، كل هذا سيجعل السوريين يشهرون لاحقًا هوياتهم الأولى في وجه حلم التغيير السياسي والمجتمعي. فهل ثمة أمل يمكن التعويل عليه بعد اليوم لاستعادة جزء من الأحلام المهزومة في ظل كل هذا الخراب؟ 

*ضفة ثالثة