رشا عمران: هكذا تصدعت أكبادنا في سنوات عشر ماضية

0

مرت الذكرى العاشرة لانطلاقة الثورة السورية ولم أكتب عنها شيئا، مر يوم 15 آذار، ومر بعده 18 آذار ولم أكتب شيئا، قرأت ما كتبه كل الأصدقاء، وشبعت عيني من هاشتاغات الثورة في ذكراها العاشرة، ولم أكتب شيئا، استمعت بشغف وحب لأغنية ( عيني عليها حوران يا أهل الهوى) إذ إني حورانية الهوى، ولطالما شعرت أن حوران هي المعيار، وأن ما يجري فيها هو المؤشر على مسار الثورة، وأن الثورة التي بدأت من هناك، سوف تحسم في نفس المكان يوما ما، وعلى مدار السنوات الماضية، كنت أتابع ما يجري في درعا وسهلها، وأدرك أني محقة، ومع ذلك، لم أستطع في الذكرى العاشرة للثورة كتابة أي شيء، رغم متابعتي، بفرح، لبعض المظاهرات في منطقة أو أخرى في سهل حوران، ولأكون صريحة، لا أهتم كثيرا بالمظاهرات التي تحدث في إدلب ضد النظام السوري، إذ إنها من النوافل، أهتم بها حين تحدث ضد الفصائل المتحكمة بمصائر السوريين وأرواحهم وأرزاقهم هناك، مثلما لا تعنيني الوقفات التي تحدث في دول أوروبا، ودول الجوار، هذا أيضا من النوافل، ولست معنية بانتصار الإسلام على (العلوية) كما هتف متظاهرون سوريون في شارع ما في إسطنبول في ذكرى الثورة، ولا أهتم بالذرائع المساقة لتبرير شيء كهذا، ولا أن من فعل هذا بعض المراهقين، في الحقيقة، تعلمت خلال السنوات العشر الأخيرة أن لا شيء حدث ويحدث في الثورة بشكل عفوي، عدا انطلاقتها الأولى في آذار 2011، كل ما تلا الأشهر الأولى كان مدروسا ومخططا له: تشكيل الائتلاف، توزيع المقاعد فيه، تغيير العلم، تسمية أيام الجمع، والتي اشتغل أصحابها بدأب واضح على تطييف المجتمع السوري والثورة، إذ لا يوجد أي معنى لتسمية (جمعة القيامة) أو (جمعة صالح العلي) أوجمعة (سلطان باشا الأطرش)، سوى تعويد الناس على رؤية المجتمع السوري بوصفه مجموعات بشرية مختلفة تنتمي إلى هوياتها المذهبية، لتصبح الهوية الوطنية السورية كلاما في الهواء، أو شعارات ظاهرية بينما يختفي في الباطن ما يختفي، أو يختفي في الباطن ما يساعد النظام السوري على الحفاظ على حياته ممتنا لأصحاب دكانة (الثورة)، على ما يقدمونه له من دعم، وأيضا لا يوجد أي معنى لتلك التسميات سوى السعي لإلحاقها بأسماء جمع أصولية متشددة، تحيل الثورة كلها إلى مكان واحد (الثورة السنية)، يساندها في ذلك حملات إلكترونية منظمة للإساءة لكل من يعترض على مسار الثورة، ولكل من ينتقد الأخطاء والمبالغات، ولكل من يعترض على العسكرة والأسلمة، ليس فقط إساءة، بل تشويه سمعة من يرفض الطائفية والتطييف، ليس فقط التشويه، بل أيضا التحريض على الموجودين في المناطق الثائرة من الثوار الرافضين لكل ما سبق، هل سنستغرب أن التحريض ذاك آتى ثماره؟ وتم تغييب عدد كبير من خيرة نشطاء الثورة وإخفاؤهم، التمنع عن ذكر أي معلومة عن مصائرهم حتى اللحظة، وهم يفترض أنهم كانوا محميين من قبل الفصائل التي يفترض، أنها كانت تقاتل النظام.  

مرت الذكرى العاشرة للثورة ولم أكتب شيئا عنها، وأقرأ ما يكتبه سوريون يعيشون في أوروبا، استقرت حياتهم وحياة أولادهم منذ سنوات، محميون بقوانين تكفل حقوقهم كاملة، لا جوع ولا برد ولا انقطاع لأولويات الحياة، من منهم بلا عمل يحصل على مرتب شهري من قبل الدولة المستضيفة له، يكتب هؤلاء عن الثورة مع هاشتاغ مرافق: “الثورة مستمرة”، وأتساءل عن معنى هذه الجملة، أين هي هذه الثورة المستمرة؟! ماذا بقي أصلا من الثورة لتستمر؟ هل تستمر الثورات على أنظمة ما، بينما من ينادون باستمرارها يعيشون في أمكنة بعيدة جدا عن مكان الثورة؟ هل تستمر الثورات بالكلام عنها أو بهاشتاغات ستنسى بعد حين لتعاود الظهور مجددا بعد عام؟ هل يعتقد أصحاب هذه المقولات أن السوريين الباقين في سوريا سوف يكملون الثورة؟ وهم جميعا على وشك الفناء من فرط ما فتك بهم النظام السوري ، ومن فرط ما تركت الحرب الطويلة من آثار مدمرة عليهم، ومن فرط ما تم تخوينهم من قبل ( الثوار) الذين يعيشون في بلاد الأمان ويطالبون من تحملوا عبء كل شيء بالثورة على النظام الذي مازال حتى اللحظة يفتك بأي صوت معترض على الفساد وليس فقط على النظام بحد ذاته، يطالبونهم بالتضحية بأنفسهم من أجل ماذا؟ هل سيتخلى هؤلاء عن امتيازاتهم في الدول التي استقروا فيها ويعودون إلى بلاد منهكة ومدمرة ولا تصلح للحياة الآدمية؟ أم أن الأمر هو فقط مجرد تخفيف حمل عن ضمائر أثقلتها ربما النجاة من الخطر، والبعد عن الثورة، مع أن ذلك هو أحد أهم حقوق البشر: البحث عن الأمان، غير أن ادعاء البطولة والثورية والمزايدات والتنقل بين صفحات( العالم الافتراضي) الذين يعتبرون أن الثورة انهزمت، وشتمهم واتهامهم والسخرية السمجة منهم، وتبني نفس سردية النظام بإعدام معارضيه نفسيا وماديا، وتبني سردية الإسلام السياسي الذي يعتبر أي انتقاد له هو انتقاد للثورة ومحاولة لتخريبها، ذلك كله لا ينتج سوى عن الهزيمة الكبرى، التي لا يريدون الاعتراف بها بعد سنوات عشر من هزائم متتالية، وثورات مضادة شاركنا جميعا بها حتى وصلت الحال بنا إلى ما نحن فيه.  

مرت الذكرى العاشرة للثورة ولم أكتب شيئا عنها، وهل هناك من يهتم إن كتبت أو لم أكتب، من أنا لأشكل شيئا في تاريخ استثنائي مثل تاريخ الثورة السورية؟ من أنا فعلا، ماذا سأشكل للمستقبل؟ ماذا سيبقى من رأيي السياسي بعد خمسين عاما؟ أنا التي تركت سوريا بعد أقل من عام على انطلاق الثورة بحثا عن أماني الشخصي، من نحن جميعا وماذا نشكل في مجريات الثورة، التي يصر البعض على أنها مستمرة، سوى متتاليات من الفشل الذريع حتى في قدرتنا على الاختلاف دون عداوة، حتى في عدم قدرتنا على الافتراق عن كل ما أسسه النظام الذي يفترض أننا ثرنا عليه كما ندعي، هل اختلفنا عنه بالكراهية، بالحقد، بالتعالي على الهوية الوطنية، بالتخوين، بالفساد، بالديكتاتورية، بالاستبداد، بالسرقة، بالكذب، بالعمالة، بالارتزاق، بالتحريض، بالشخصنة، بالمحسوبيات، بالأنانية، بالمزايدات الثورية (الوطنية)، بإعدام الرأي المختلف، ببيع قضيتنا إلى من يدفع أكثر، بالمتاجرة بالمظلوميات، بفقداننا لأية رؤية مستقبلية تنقذ الثورة والبلد، بفقداننا لخطاب ثوري وطني يجتمع عليه السوريون ويتفقون عليه، بتعنتنا عن بناء عقد اجتماعي بذريعة أن حاضنة النظام كلها مجرمة (وهو نفس ما يقوله مؤيدو النظام عن حاضنة الثورة)! بعد عشر سنوات بماذا اختلفنا؟  

أمس مر معي منشور على الفيسبوك بالذكرى العاشرة للثورة: أحد قادة الثورة يعرض منزلا له للبيع في تركيا بمبلغ خرافي، هل يحق لأحد سؤاله: ” من أين لك هذا”؟، قبل أيام أيضا، رأيت صورة لواحدة من قيادات الثورة، تزرع زيتونا في عفرين المحتلة متباهية بذلك! قيادة الثورة التي باركت كلها احتلال عفرين وتهجير أهلها الأصليين، أليس هذا ما فعله النظام أصلا ؟!  

في الذكرى العاشرة للثورة لم أكتب شيئا عنها، ليس لأنني لم أعد أؤمن بها، بل لأنني فقدت الجمال الذي احتل روحي عام 2011، فقدت ذلك التوقد والشغف، فقدت الأمل بمستقبل نظيف لأجيال سوريّة قادمة، فقدت الانتماء إلى وطن ثائر، فقدت كل شيء، لم يبق سوى ذلك التصدع في الكبد والروح، والخلخلة في الإيمانات القديمة، وندوب في الجسد والقلب لفرط ما حمل من الحزن، وفقدان كلي للقدرة على جدال ونقاش لن يفضيا سوى إلى مزيد من العداوات. 

*تلفزيون سوريا