رشا عمران: هذا العبث الثقيل

0

قبل أيام، كان عيد ميلاد إحدى صديقاتي، ممن اعتدن على الاحتفال مع الأصدقاء كل عام بالمناسبة. وبسبب العزل الصحي المفروض على البشرية، اتفقنا على أن نقيم لها حفلة افتراضية، حيث نجتمع كلنا على إحدى وسائل الاتصال ذات خاصية الفيديو كول. أنزلنا تطبيقا خاصا بالهواتف الذكية اسمه “هاوس بارتي”، يسمح بوجود نحو عشرة أشخاص في اللحظة نفسها، يتحدثون ويسهرون. اجتمعنا ليلة عيد ميلاد صديقتنا، قطعت قالب الحلوى، وغنينا لها الأغنيات المعتادة في هذه المناسبة، وأكملنا السهرة أكثر من ساعتين. ظننا لوهلة أننا مجتمعون في مكان واحد، كعادتنا. من يحب الرقص فعل ذلك ونحن نشاهده، ومن يحب الغناء أسمعنا ما نحب وطربنا معه، كما لو أننا معا. وفي اليوم التالي، تحدثنا على الهاتف، مستعيدين وقائع سهرة أمس مع بعض النميمة المعتادة، تماما كما نفعل بعد كل سهرة واقعية، كأن الزمن والمسافة وما يحدث في البشرية قد تمّ محوه من وعينا في هاتين الساعتين! عبثٌ حقيقي، لكنه ثقيل بشكل لا يطاق.تطبيقات الفيديو كول، على تعدّدها، لا تستخدم فقط في المناسبات العائلية والاجتماعية، بل أصبحت الوسيلة المتاحة حاليا لاجتماعات العمل، في الشركات والبنوك والمؤسسات الاقتصادية والثقافية في كل العالم. عربيا، كان أشهرها قبل أيام اجتماع لجنة تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) لتحديد الرواية الفائزة. كان كل واحد من أعضائها في بلده، واستمرت النقاشات في الاجتماع أكثر من ست ساعات متواصلة. ليس هذا فقط، فقد بدأت فرق موسيقية عربية تبث فقرات موسيقية مباشرة: العازفون والمغنّون يجلس كلٌّ في بيته ويبدأون الفقرة في وقت واحد! قبل أيام أيضا، توبع في العالم مغني الأوبرا، أندريا بوتشيلي، في حفل أقامه داخل كاتدرائية خالية من البشر في مدينة ميلانو الإيطالية المنكوبة، تحت اسم “موسيقا من أجل الأمل”، وبثه موقع يوتيوب مباشرة، ليتمكّن الملايين من متابعته في اللحظة ذاتها، متخففين من حالة العزلة الثقيلة المرعبة التي تعيشها البشرية. فعلها بوتشيلي أيضا مع سيلين ديون وليدي غاغا ولانغ لانغ، حيث قدّموا حفلا موسيقيا مشتركا، كلٌّ من منزله، في محاولةٍ لتوحيد العالم عبر الفن الذي يبدو أنه الأمل الثاني للبشرية في البقاء على قيد الحياة ومقاومة هذا العبث الثقيل، بعد الأمل في العلم لإيجاد لقاح مضادٍّ للفيروس ينقذ البشر والبشرية من الفناء، إما عبر العدوى أو عبر العزلة التي ستكون نتائجها بالغة الخطورة على المستويات الفردية والجمعية في العالم.
هل نتحوّل إلى عالم افتراضي شيئا فشيئا؟ سؤالٌ لا يمكن تنحيته من حياتنا حاليا، ويجعلنا، من دون وعي، نسقط في فخ نظرية المؤامرة، وننسج خيوطا لها عبر تخيلنا أن ثمّة تحالفا بين الشركات الاقتصادية العملاقة التي تتحكّم بالعالم، وتلك المالكة للعالم الرقمي والمتحكّمة به، هذا التحالف هو الرابح الوحيد من تحوّل البشرية إلى عالم افتراضي. تخيّلوا حاليا كم يخف الإنفاق الذي تنفقه عادة الشركات الاقتصادية الكبرى، سواء عبر التوفير في كلفة السفر والإقامة والتنقلات في الاجتماعات الصغيرة والكبيرة، تخيلوا أن يتم إلغاء الحفلات الضخمة بكل تكلفتها، إلغاء المدارس والجامعات وتحولها إلى “أون لاين” كما هو حاصل حاليا! تخيلوا الربح الهائل للشركات المتحكّمة بالعالم الرقمي، وما يمكن أن توفره الأنظمة عبر تقليل نفقاتٍ كتلك، هل يمكن أن يحصل هذا فعلا؟ لو أن هناك مؤامرة فعلا، فهي تستند، أولا، إلى قدرة البشر في التكيف مع كل الظروف الإجتماعية، والتأقلم الطبيعي مع أية بيئة جديدة؟ إذ يعتاد البشر بعد قليل على نمط جديد من أنماط الحياة الاجتماعية لم يكونوا قد عرفوه سابقا، سوف يصابون بصدمةٍ في البداية، لكنهم سيعتادون، هذا ما كانت عليه البشرية دائما.
ولكن مهلا، ما سبق ليس سوى تخاريف العزلة، ونتيجة الخوف مما يخبئه القادم. نظريات المؤامرة التي تحركها الفوبيا لن تنتهي، وستبقى تسير جنبا إلى جنب العلم والواقع، غير أنه يبدو، من واقع الحال حاليا، أنه كلما تأخر العلم في إيجاد اللقاح وطالت مدة العزلة، أصبحت العودة إلى حياتنا الطبيعية أكثر صعوبةً، شيء ما سوف يتغير في حياتنا كلها، في نمط الحياة، في العلاقة مع المجتمع، في الفردانية، في فوبيا الآخرين، في فوبيا المرض، في المناعة، في العلاقة مع الدين ومع الموت ومع الجنس، في التواصل العائلي، في الصداقات، لا شيء سوف يبقى كما هو، أو كما عرفناه إن بقيت البشرية مدة طويلة في هذه العزلة الثقيلة، بما لا يمكن وصفه.

*المصدر: العربي الجديد

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here