ماذا لو أن مصر لم تدخل في قطار الربيع العربي عام 2011؟ يخطر لي هذا السؤال كلما فكرت بما حدث في سورية علي وجه الخصوص؛ وربما من المفيد القول إن موجة الربيع العربي السورية كانت ارتدادًا قويًا للموجات الأخرى في تونس ومصر وليبيا؛ وإن كان الربيع المصري هو الأشد تأثيرًا على الحراك السوري الذي تحول إلى ثورة ثم إلى حرب أهلية وحرب دولية لاحقًا؛ فمصر كانت دائمًا كما لو أنها المثال الذي يتبعه السوريون والعرب عامة. في ظني لو أن الحراك العربي لم يصل إلى مصر عام 2011 وتوقف في تونس لما امتد إلى باقي الدول العربية، ولربما كان الوضع قد بقي على ما هو عليه، لولا أن لمصر ذلك التأثير الكبير في العصر الحديث على باقي الشعوب العربية، فلو عدنا في الذاكرة قليلًا لاكتشفنا أن معظم الحركات السياسية التي كان لها دور في تغيير مسارات التاريخ العربي قد انطلقت من مصر أولًا.
يمكننا الحديث أولًا عن حركة (الإخوان المسلمون) التي ظهرت في مصر عام 1927 على يد حسن البنا، وانتقلت إلى باقي الدول العربية والإسلامية بكل ثقلها السياسي والاجتماعي، الذي كان له دور كبير في تكريس سلطة القمع السياسية، وتكريس الرجعية المجتمعية عبر تحييد دور المرأة عن الحراك المجتمعي، وتعزيز الشوفينية الدينية الكارهة لكل مختلف والرافضة له حد القتل؛ هذا عدا عن أن حركة (الإخوان المسلمون) هي المنبع الرئيس لكل الحركات الجهادية التكفيرية العربية التي جاءت بعدها، وتركت ما تركته من آثار سيئة علي سمعة الإسلام والعرب في العالم.
الحركات التحررية من الاستعمار انطلقت أيضًا من مصر، فمنذ حركة التحرر عام 1919 ضد الاستعمار الإنكليزي وما تلاها من ثورات منسية لم تتوقف حتى رحيل الإنكليز ثم الفرنسيين، شهد العالم العربي المحتل لاحقًا من الدول الاستعمارية عدة ثورات وطنية تحررية انتهت بالاستقلال والتحرر من الاستعمار، في الجزائر ودول المغرب العربي وبلاد الشام ضد الفرنسيين، في ليبيا ضد الإيطاليين، في اليمن والعراق ضد البريطانيين، وطبعًا دون أن ننسى محاولات تلك الدول في التخلص من الحكم العثماني والتي كانت بدايتها في مصر منذ القرن الثامن عشر، ثم ظهرت في بدايات القرن العشرين في باقي الدول العربية التي كانت تعاني من الاحتلال العثماني.
انقلابات العسكر أو ما يسمى بالثورات ظهرت أولًا في مصر على أيدي (الضباط الأحرار) في 23 تموز/ يوليو 1952 والتي كانت، تمامًا، بداية عصر عربي جديد، حيث انتقلت هذه الثورة إلى العراق وليبيا وسورية والسودان واليمن وتونس والجزائر، مستلهمة روح الثورة البلشفية في روسيا ومستعيرة من الاتحاد السوفياتي وحلفائه أساليب حكم لم يمض وقت طويل حتى أصبحت وبالًا على هذه المنطقة وشعوبها. وربما من المنصف اليوم القول إن الشيطنة التي حدثت للنظم الملكية في الخطاب (العسكري التحرري)، كان محملة بالكثير من الأحقاد المحقة والمتعسفة، مع أن هذا لا ينفي طبعًا الاستعلاء الذي مارسته الملكيات على الشعوب العربية والفروقات الطبقية التي كرستها في المجتمع على المستويات كافة، وهو ما جعل الشعوب تتعاطف مع الانقلابات العسكرية تلك وتؤيدها بحماسة شديدة، فهي تحمل معها وعودًا باستعادة الحقوق المهدورة في التملك والتعليم والطبابة وكل مقدرات الحياة؛ غير أن (الضباط الأحرار) المصريين ومن شابههم في باقي الدول العربية، كانوا قادمين من الريف ومحملين بثقافة ريفية رجعية دينية ومذهبية (رغم ادعاء التقدم) حاقدة على المدينة بإرثها الحضاري والكوزومبوليتاني، تلك الثقافة التي شوهت مدينية المدن العربية التي كانت تضاهي مدينية الغرب، وريفتها عبر سياسات اقتصادية مدمرة، كما أممت كل التركة الملكية والأرستقراطية والبرجوازية المدينية ووضعتها في أيد ليس لديها أي تقدير لقيمة تلك التركة، ولا تملك المؤهلات المناسبة للحفاظ عليها بوصفها تراثًا من تراث الإنسانية مهما كان الاختلاف مع من صنعه. تلك الغوغائية العسكرية (بالعموم الثورات غوغائية دائمًا) تحولت بعد وقت قصير إلى نظم شمولية وديكتاتورية وأمنية وفاسدة، بل أكثر فسادًا من النظم الملكية ذاتها، والوعود التي تنسمت بها الجماهير العربية خيرًا تحولت مع الوقت إلى مجرد شعارات جوفاء يرددها أيديولوجيون لا يرون أبعد من المربع الذي يعيشون به؛ أفسدت الأنظمة العسكرية تلك كل شيء في بلادنا، التعليم أولًا وتحالفت ضده مع منظومة دينية رجعية وفاسدة مثلها مثل الأنظمة، وأفسدت القضاء وسيّسته لصالحها وصالح وجودها، أفسدت الزراعة والصناعة والصحة، أفسدت كل شيء، بل جعلت الفساد نظام حياة يومي، واستبدلت الطبقة الأرستقراطية والبرجوازية بقيمها كلها بطبقة من أثرياء الفساد الجدد الذين لا يملكون من القيم الجمالية والإنسانية والأخلاقية إلا ما ندر؛ والنتيجة هي مدن مشوهة دون أي حس جمالي، وريف متخلف معدوم التنمية، ومجتمعات مشوهة لا تملك قيما حقيقية ولا هوية أصيلة تجمعها؛ حتى وصلنا إلى ما نحن فيه اليوم من تشوه وانحطاط كشفت أحداث الربيع العربي مستوياته كلها.
كان لا بد لإفشال وإفساد فكرة الربيع العربي من ثورات مضادة تصب في صالح الأنظمة العميقة لدوله، استولى الإسلام السياسي بكل فروعه، التي تدفق إليها التمويل والدعم العربي والغربي، على الحراك الشعبي، وصار هو الواجهة لهذا الربيع الذي تسمى في أدبيات مريدي الإسلام السياسي والمستشرقين بالربيع الإسلامي، لكن العسكر كانوا يعيدون ترتيب المشهد لصالحهم، هكذا اختلطت الأوراق وتداخلت المصالح الداخلية والخارجية، انتهى دور بعض الوجوه واستبدلت بغيرها بينما ظلت المنظومة الحاكمة هي نفسها. استعرت حروب قبلية وعشائرية في أكثر من مكان، حتى الدولة الوحيدة التي كانت متفردة (تونس) انتهت نهاية وخيمة الآن في محاولة سلطوية لتكريس حكم الفرد الديكتاتور المستبد.
لكن أين سورية من كل هذا المشهد البائس حاليًا؟ في الحقيقة تبدو الحالة السورية هي الأكثر فرادة في كل المشهد، فرغم استعارة ثوارها لمشاهد ميدان التحرير، واستعارة تنظيم الإخوان فيها لمحاولة قطف ثمار الثورة على غرار ما حدث في مصر، ورغم أنها كادت أن تكون مشابهة لمصر حتى في المصير السياسي اللاحق لو أن بشار الأسد تنحى على طريقة مبارك، إلا إن ما حدث كان مختلفًا تمامًا لسبب أساسي: طبيعة النظام السوري والمؤسسة العسكرية والأمنية السورية القائمة على البعد المذهبي الطائفي الذي حوّل المؤسستين إلى مؤسستين مرتبطتين تمامًا برأس النظام، ما يعني أن تغيير بشار الأسد سوف يتبعه حتمًا تغيير كامل في أساس المؤسستين، وهو ما لا يمكن السماح به في بلد مثل سورية، جيشها، بما هو عليه، اعتاد على التراخي بما يخص العلاقة مع دولة إسرائيل التي دفع السوريون مقابلها أثمانًا غالية بسبب شعارات النظام عن المعركة المستمرة والمقاومة والصمود… إلخ. هذه الخاصية في التركيبة المذهبية السورية والتي تم تأسيس بنية النظام السوري عليها، هي بذرة الحرب الأهلية التي ما زالت مستمرة نفسيًا وذهنيًا حتى الآن رغم انتهاء المعارك ورغم التطبيع العربي مع النظام السوري. لكن هل كان التطبيع مفاجئًا؟ في الحقيقة ما حدث يؤكد أن التدخلات العربية ضد الثورة السورية ومحاولات إفشالها ودعم الثورة المضادة السلفية الدينية كانت قائمة منذ البداية، وبعلم من النظام السوري وبتعاون بين جميع الأنظمة العربية التي تحركها منظومة سياسية واحدة تبدأ في مصر وتنتقل إلى باقي دول العرب كالعادة. وإلا ما هو السبب في فشل كل شعوب الربيع العربي، دون استثناء، في تحقيق هدف واحد من أهدافه؟
*ضفة ثالثة