رشا عمران: مثل زورق يستعد للغرق: عن فيلم “السباحتان” والسوريين والمونديال

0

ربما كان من الأفضل لي أن أكتفي بمتابعة مباريات كأس العالم وردود الفعل حولها، سواء في الصحافة العالمية، أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لكنني قررت فجأة أن أشاهد فيلم “السباحتان” الذي عرض أخيرًا على شبكة نيتفليكس العالمية (كان قد عرض ضمن مهرجان القاهرة السينمائي قبل أيام، لكنني لم أتمكن من مشاهدته). هذا الفيلم الذي أنتجته نيتفليكس أخرجته البريطانية المصرية سالي الحسيني، واشتركت بكتابته مع الكاتب المسرحي جاك ثورن. يحكي الفيلم حكاية الشقيقتين السوريتين يسرى وسارة مارديني، اللتين تركتا سورية نهاية عام 2015 في رحلة طويلة امتدت من لبنان إلى تركيا، ثم في هجرة غير شرعية عبر البحر إلى اليونان، ومنها نحو ألمانيا، حيث صادفتا في الطريق الأوروبي أهوالًا ومخاطر لا تحصى، سواء من مهربي البشر، أو من حرس الحدود، أو حتى من الناس العاديين الذين يتعاملون مع اللاجئين كما لو أنهم حثالة البشر. تصلح حكاية سارة ويسرى مارديني لتكون فيلمًا مصنوعًا ليحكي عن الأهوال التي تصادف المهاجرين اللاشرعيين حتى وصولهم إلى أوروبا، المهاجرون القادمون من بلاد الرعب والخوف والفقر والحروب والاستبداد، يشكل السوريون جزءًا كبيرًا منهم، لكنهم ليسوا الوحيدين في هذا المصير المرعب والقاسي.

غير أن لسارة ويسرى مارديني قصة أخرى غير قصة رحلتهما المرعبة إلى أوروبا. الشابتان هما ابنتا السباح السوري عزت مارديني، الذي كان مؤهلًا ليصبح بطل سورية في السباحة لولا أنه أجبر على الالتحاق بالجيش وحمل السلاح (يشير الفيلم إلى هذا الأمر)، فوجد في ابنتيه القالب المناسب لتحقيق حلم ضاع مع الحرب، فبدأ في تدريبهما على السباحة، وكان يخطط لأن تشاركا مع المنتخب السوري في أولمبياد ريو دي جانيرو عام 2016، لم تتمكن سارة من تحقيق نتائج مرضية، بينما كانت يسرى مستعدة لهذا لولا أن وضع العيش داخل دمشق لم يعد يطاق: استفزاز وحواجز وتحرش وقذائف وموت يقترب كل لحظة ساحبًا معه أحباء وأصدقاء، حتى التدريب لم يعد ممكنًا، إذ طالت القذائف حتى الملاعب وصالات الرياضة. الحرب أسقطت القذائف والموت، وأسقطت معهما القدرة على الاستمرار في الحياة في بلاد تتهاوى تمامًا. تقرر الشابتان مغادرة سورية نهائيًا، والالتحاق بمن سبقهما من الأصدقاء. أوروبا هي الحلم حاليًا، وما من سبيل إليها سوى التسلل بحرًا، أو برًا. تقطع الشابتان المرحلة الأولى برفقة قريب لهما، ثم تبدأ قصتهما العظيمة: يبدأ القارب الذي يقلهما مع مجموعة من المهاجرين مختلفي الجنسيات بالغرق، فتترك الشابتان القارب وتسبحان وهما تجران القارب المحمل بالبشر لساعات عدة، حتى تصلا به إلى جزيرة ليسبوس اليونانية. أنقدت الشابتان السوريتان قاربًا محملًا بعشرات المهاجرين، رجالًا ونساء وأطفالًا. كان عليهما بعد ذلك الوصول إلى ألمانيا، حيث تمكنت يسرى من الالتحاق بمركز تدريب سباحة، وأكملت حلمها، واستطاعت أن تذهب إلى أولمبياد ريو دي جانيرو، وتنافس على المركز الأول في سباحة الفراشة، لكن ليس لتمثل بلدها سورية، وإنما لتمثل منتخب اللاجئين. بينما تقرر سارة العودة إلى اليونان لإنقاذ اللاجئين من الغرق، ومساعدتهم على إكمال حياتهم، لتتهم لاحقًا من قبل الحكومة اليونانية بتهمة تهريب البشر، وتحاكم وتسجن قبل أن يطلق سراحها بكفالة مالية بعد تدخل وضغط من المنظمات الإنسانية حول العالم.

في حوار فيلم “السباحتان”، هنالك جمل بعينها بالغة الدلالة والعمق، ولا يمكنها أن تمر بشكل عادي إن كان من يستمع ويشاهد لاجئًا. حين يعرض على يسرى أن تكون في منتخب اللاجئين ترفض ذلك أولًا، لأنها أدركت أن المشاركة في ريودي جانيرو ليس لأنها تستحقها، بل لأنها لاجئة ومنكسرة وضعيفة، شعرت يسرى أن مشاركتها سوف تكون تحت بند الشفقة على اللاجئين، ومحاولة التعويض عليهم. لا أعرف لماذا خطر لي في هذا المشهد الدعوات وفرص المشاركة والترجمات للكتاب والمبدعين السوريين بعد 2012، هل استحققنا نحن جميعًا تلك الفرص، أم أننا كنا من المشفق عليهم كلاجئين ناجين من الموت؟ يسرى استطاعت أن تثبت نفسها كسباحة تستحق اللقب، فهل استطاع الكتاب والمبدعون السوريون إثبات جدارتهم بهذا الاستحقاق الكبير؟

تتحدث سارة التي رفضت إكمال تدريبات السباحة بعد وصولها إلى ألمانيا عن أن السباحة لم تكن يومًا حلمها، بل هي حلم والدها الذي لم يتمكن من تحقيقه، فأراد تعويضه في بناته من دون حتى أن ينتبه إلى رغبتهن في ذلك. يسرى تبنت الحلم، وأصبحت فتاة أبيها المفضلة، بينما سارة كانت مهمتها حماية شقيقتها البطلة، ما خلق بينهما تنافرًا مخفيًا كان يظهر في وقت الأزمات، لكن الخوف والرعب والمصير الذي تشاركتاه معًا كان أقوى من أنانية حلم الأب المفرغ في ابنيته. وطبعًا أتحدث عن الفيلم لا عن الحياة الحقيقية للشابتين، ففي سيناريو السيرة دائمًا هنالك ضرورات درامية مضافة قد لا تكون موجودة في الواقع.
الفيلم بالغ الحساسية والرهافة، رغم مشاهد العنف في دمشق، ورغم كل الإيحاءات عن مصائر عشرات الآلاف من الهاربين من أوطانهم، عن مصائرنا جميعًا، نحن الذين اكتشفنا أننا بلا وطن، وأن أوطاننا البديلة ستبقى تنظر إلينا كلاجئين إلى أن ننسى نحن أصولنا، وأظن أن هذا ما يجعل المهاجرين العرب والمسلمين (قديمًا وحديثًا) يعيشون ضمن دوائر مغلقة لا يتمكن من الخروج منها إلا من يقرر أن يصبح ابن المجتمع الجديد تمامًا، هذا أيضًا هو ما يجعل الغضب ينمو داخل تلك الدوائر غير المندمجة، ليظهر على شكل عنف في مناسبات مثل مباريات كرة القدم، كما يحدث حاليًا في المونديال، سواء على أرض الواقع، أو في عالم الافتراض على السوشيال ميديا، حيث يظهر الغضب الذي تربى خلال السنوات الماضية لدى المهاجرين والواصلين إلى ألمانيا، ممن صدموا بالثقافة المختلفة للمجتمع الألماني، وفشلوا في الاندماج، ولم يعد لهم وطن يعودون إليه، فكانت مناسبة كأس العالم في قطر بكل ما أثير حولها وفيها وما قدمه الفريق الألماني العريق من أداء كروي بائس فرصة لهؤلاء لشتم الألمان الذين استقبلوهم، بينما في الحقيقة هم يشتمون واقعهم وحالهم كلاجئين عاجزين عن الاندماج وعن العودة. وربما يظهر بعض هذا في فيلم “السباحتان” حين يتحدث نزار (ابن عم الشابتين والمرافق لهما في رحلتهما) إلى يسرى وهي تتهيأ للالتحاق بمونديال ريو دي جانيرو، عن خيبته وندمه على ترك سورية التي لم يعد من الممكن العودة إليها، وليس قادرًا على أن يكون متميزًا في أي شيء يجعل من اندماجه أمرًا يسيرًا. يتحدث نزار في الفيلم بلسان كثير من الشباب السوريين في ألمانيا، وغيرها من دول اللجوء. وقد يكون نزار اليوم أحد الذين يسخرون من الفريق الألماني الخاسر على السوشيال ميديا. في الفيلم، يحدث قطع مع مصير نزار مارديني بعد تلك المحادثة مع يسرا، وفي الواقع لا أحد يعرف عنه شيئًا، هل هو خائب ومنكسر ومهزوم مثل كثير منا نحن السوريين المتروكين هكذا كزورق وحيد يستعد للغرق في بحر واسع من دون أن يجد من يجره إلى اليابسة.

*ضفة ثالثة