أثار رحيل الشاعر العراقي مظفر النواب أخيرًا جدلًا ثقافيًا حول دوره في ترسيخ القصيدة المحكية العربية وأخذها إلى مكانة لم يذهب أحد من شعراء العامية العرب إليها: “الابتعاد بالشعر المحكي عن التقريرية مستخدمًا لذلك المجازات والاستعارات اللغوية ومخضعًا المخيال الشعري ليكون طوع بنان اللغة”، وهذا من وجهة نظر أصحاب هذا الرأي ما لم يفعله أحد من شعراء المحكية العرب، خصوصًا وأن مظفر النواب كتب بالعامية العراقية قصائد ملحمية طويلة كانت ذات شأن في “تدوين التاريخ السياسي للنضال الطبقي ضد الإقطاع في خمسينيات القرن الماضي”، وهو حقًا يشكل استثناء في الشعر المحكي لم يقاربه ربما سوى الشاعر المصري عبد الرحمن الأبنودي، الذي كتب ملاحم شعرية عظيمة تصب في نفس المنحى النضالي السياسي التوثيقي. طبعًا لن يقلل ذلك من قيمة شعراء عامية مصريين آخرين، كسيد درويش وصلاح جاهين وبيرم التونسي وفؤاد حداد وفؤاد قاعود وأحمد فؤاد نجم، وآخرين كثر في المدرسة العامية المصرية، لكن يبقى الأبنودي في مصر ومظفر النواب في العراق هما الأكثر قدرة على استنباط لغة شعرية خاصة بكل منهما من قلب التراث اللغوي الشعبي بعمقه الاجتماعي الديني والاقتصادي السياسي، وتحويل هذا التراث إلى تركيب فلسفي وفكري ونضالي ولغوي ذي طبقات عميقة لا تمت للشفوية التي تميز الشعر السياسي المحكي بصلة.
شكًل مظفر النواب، ومثله الأبنودي، علامة فارقة في الشعر المحكي العراقي والشعر المحكي المصري، واحتلا مكانة من حيث الغزارة في الإنتاج الشعري والعمق والتنوع في القاموس اللغوي لكل منهما لم يستطع أحد منازعتهما عليها، وفي المقابل كانت المدرسة اللبنانية المحكية ابنة التراث الديني المتنوع (الكنسي والشيعي) على وجه الخصوص، تذهب بالقصيدة المحكية إلى مكان آخر هو أكثر التصاقًا بالمخيال الشعري وابتكار صور ذهنية محلقة بالغة الشفافية والعذوبة لكنها بعيدة عن لغة الأرض وعن القاموس اللغوي الشعبي وبعيدة عن المشافهة التي ميّزت الشعر السياسي. اتسمت القصيدة المحكية اللبنانية بالرومانسية وظلت في إطار الشعر كلغة وخيال، لم تظهر في الشعر اللبناني المحكي القصيدة السياسية بعمقها النضالي أو حتى بمشافهة يومية عابرة، ظل الرمز الشعري الأسطوري هو المسيطر عليها، وكأن الحداثة الشعرية، بحواملها الذهنية والأسطورية واللغوية، والتي لمعت مع مجلة “شعر” في خمسينيات القرن الماضي قد أعطت خصائصها أيضًا للقصيدة المحكية اللبنانية بقديمها (سعيد عقل وميشيل طراد والرحابنة) وجديدها (عصام العبد الله وطلال حيدر) وغيرهم كثيرون طبعًا دون أن يغيب عن البال شعراء الزجل ومبارياتهم الشعرية والتي ظلت أيضًا في إطار استعراض المقدرات اللغوية وابتكار الصور دون أن تحمل أي عمق سياسي أو نضالي ودون الالتزام بموضوعة مؤثرة في أي عملية تغيير مجتمعية، وكأنها وجدت من أجل المتعة الشعرية فقط، دون التقليل من أهمية المتعة كقيمة رئيسية في عملية التلقي في الفنون والأدب.
السؤال الذي لا بد وأن يحضر في هذا المقام هو: لماذا لم تظهر في سورية القصيدة المحكية ولماذا تم التعتيم على الأسماء القليلة جدًا التي كتبت القصيدة المحكية، بينما في ذات الوقت كان الشعر السوري الحداثي يتطور ويتقدم ويتنوع ويختلف ويتجاوز شعراؤه، في أحيان كثيرة، مجايليهم من الشعراء العرب الحداثويين؟ ثمة رأي في هذا المجال يقول إن السبب في عدم ظهور قصيدة محكية سورية يُعتد بها هو تنوع اللهجات السورية ومطابقتها للهجات الدول الحدودية المجاورة، فمثلًا لهجة أهل الجزيرة السورية تكاد تكون مشابهة للهجة العراق، وكذلك التطابق بين طرفي سهل حوران في سورية والأردن وفلسطين (ظهرت في الأردن وفلسطين القصيدة المحكية النبطية أو البدوية)، أما لهجة الساحل السوري فهي تتشابه مع اللهجات اللبنانية المدينية والجبلية، لكن هذا الرأي يمكن الرد عليه منه ذاته، ففي العراق ومصر ولبنان ثمة لهجات عديدة ومختلفة ساعدت بأن يكون الشعر المحكي أكثر تنوعًا وغنى، ثم ماذا بخصوص اللهجات السورية الخاصة: كاللهجة الدمشقية أو الحلبية أو لهجة حمص وحماة الخاصة؟ لماذا لم يظهر الشعر المحكي في هذه المناطق؟
ثمة أسباب عديدة لذلك منها طبيعة المجتمع السوري المديني التجاري، وعدم وجود مجتمع زراعي حقيقي في الريف السوري، حيث ثمة حضور كبير للبادية في سورية ما يعني أن القاموس اللغوي هو القاموس البدوي الذي نتج عنه الشعر النبطي، إلى أسباب أخرى لها علاقة بعدم الاستقرار السياسي والمجتمعي في النصف الأول من القرن الماضي، إضافة إلى أسباب دينية تتعلق بتقديس اللغة التي نزل بها القرآن الكريم وهو إرث يرجع إلى الخصوصية السورية في العلاقة مع الاحتلال العثماني. حتى جاء نظام البعث إلى حكم سورية بتوجهه القومي العروبي، وطريقته في تعريب كل شيء، وتكريس اللغة العربية الفصحى بكونها لغة الأمة، ثم خضوع سورية لحكم الأسد الحديدي، الذي فرض تجهمه على مجتمع متجهم وجدي أساسًا، وفرض التوجيه المعنوي العسكري ليكون هو الصوت الأعلى في سورية ما يلزمه بخضوع كل تفاصيل الحياة لهذا الصوت، ما جعل من القاموس اللغوي للهجات المحلية جامدًا وفقيرًا وغير متجدد (انتشرت في اللهجات السورية مفردات مستوردة من القاموس الفصيح) ذلك أن المجتمع السوري عاش في حالة ثبات لا متغير فيها، وتحول السوريون إلى مجتمع صامت ورقي أكثر منه شفاهي، وجدي أكثر مما تحتمل القصيدة المحكية، وخائف ومتوجس دائمًا، ما جعل منه باطنيًا أو مدونًا لا شفاهيًا مكشوفًا، عدا طبعًا عن التوجه الرسمي بتحويل المجتمع السوري إلى مجتمع متشابه في كل شيء فلا تظهر منه لا لهجات ولا مذاهب ولا قوميات متنوعة ومختلفة، وهذا كله مضاد للقصيدة المحكية التي تحتاج إلى حرية في استخدام اللغة المنطوقة اليومية وتحتاج إلى تنوع في القاموس اللغوي وإلى تراث لغوي وديني متنوع ويمكن إحياؤه في حال تعرض للموت، بينما التراث اللغوي للهجات السورية كان مصمتًا لا يمكن اختراقه متأثرًا بحالة الثبات التي عاشها المجتمع منذ الاحتلال العثماني وحتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ولا يمكن تذكر شعراء محليين غير اثنين فقط (عيسى أيوب وحسين حمزة)، والاثنان لم يتركا ما هو خارج الشفاهي السطحي البسيط بالقدر الذي كان مسموحًا لهما تقديمه؟ وربما هذا أيضًا ما جعل من وجود أغنية سورية يعتد بها أمرًا نادرًا في الوقت الذي كانت تزدهر فيه الأغنية المصرية والعراقية واللبنانية، ذلك أن الأغنية تحتاج إلى قصيدة محكية محلية مثل الصوت واللحن، وما ظهر من الأغنية السورية كان وطنيًا أو مادحًا للنظام و(منجزاته)، بينما في الوقت الذي فتحت الإذاعة السورية بثها للأغنية اللبنانية والمصرية همشت ما كان يظهر من الأغنية السورية غير الوطنية حتى لم تعد تذكر أبدًا فيما بعد.
*ضفة ثالثة