لطالما كان هناك في شخصية دريد لحام ما يشعرني بأنه كاذب، لم أكن أستطيع متابعة أية مقابلة تلفزيونية له أو أي حوار معه، إذ في كل حواراته كان يذكر مفردة (الوطن)، وفي كل مرة سمعت هذه المفردة منه كنت أشعر بشيء غريب، لم أكن أتمكن من تفسيره، أتذكر أنه شعور غير مريح، طريقة أدائه للمفردة التي كان يتقصد مدها عند حرف (الطه)، كانت تشعرني بأن هذا الوطن الذي يتحدث عنه لا أعرفه، هو وطن للمنافقين.
كان في لفظه المتكرر لمفردة الوطن نفاق من نوع ما، أستشعره دون أن أتمكن من وصفه أو تحديد طبيعته وأسبابه، مثلما لم أكن أعي ماهية الوطن الذي كان يتحدث عنه دائما، كان يشعرني أن (الوطن) مكان هلامي، لا مقاييس له ولا معايير، ولا أبعاد ولا زوايا ولا أي شيء، وللأمانة فقط، لم أكن وقتها أهتم بالشأن السياسي، كنت أصغر من أن أهتم بذلك، أي لم يكن شعوري الغريب تجاه مفردته تلك يأتي من خلفية سياسية، كان للأمر علاقة أكثر بنبرة الصوت وطريقة الأداء، النبرة والطريقة نفسها التي اعتمدها في أعماله المسرحية، التي تشارك بها مع (محمد الماغوط)، بعد أن تخلى عن شخصية (غوار الطوشة)، البسيطة الكوميدية، لكنها أيضا الشخصية (الحريفة) في النصب وانتهاز الفرص، مقابل شخصية (حسني البورظان) الطيبة والصادقة والعفيفة، ولعل نهاية نهاد قلعي، مقابل استمرار دريد لحام حتى الآن، وأتحدث هنا عن التجربة الفنية لا عن الأعمار، فهي بيد الله تعالى، تشبه مسار شخصيتيهما في (صح النوم) و(حمام الهنا)، وربما ليس من قبيل المبالغة القول إن شخصية (غوار الطوشة) الانتهازية استطاعت تنحية كل شخصيات المسلسلين، حتى بعد تخليه عن دور (غوار)، وانتهاء هذه التجربة كلها، عرف دريد لحام كيف يهمش الذين اشتغلوا معه في بداياته، وكانوا سببا من أسباب شهرته وانتشاره، ليبرز هو بوصفه (النجم الأول) صاحب التجربة الفريدة.
يذكرني مسار شخصيته وتاريخه في الفن وعلاقاته مع المشتغلين معه، بمسار عادل إمام وشخصيته وتاريخه الفني وعلاقاته مع المشتغلين معه، للاثنين النرجسية ذاتها، وحب الزعامة والتفرد حتى لو على حساب العلاقات الإنسانية والصداقات، وربما ليس من قبيل الصدفة أن للاثنين نفس المواقف المؤيدة للأنظمة، ونفس استخدام شهرتيهما لتقديم (وجبات انتقادية) تخفف غلواء الجماهير وتعطي صورة مخادعة عن سعة صدر الأنظمة، ربما هذه الصورة المخادعة هي (الوطن) الممدودة طاؤه، الذي يتحدث دريد لحام عنه دائما، والذي وضحت صورته تماما بعد 2011، حيث انكشف أن وطن دريد لحام هو النظام نفسه، النظام الذي انتقده في أعماله المسرحية التي كتبها محمد الماغوط (ضيعة تشرين، غربة، كاسك يا وطن، شقائق النعمان)، لكنه كما أسلفنا، ذلك النقد البارد، كوخز الإبر الخفيف، الذي يخفف الاحتقان قليلا، ولا يثير حفيظة النظام الأمنية، بل على العكس تماما، كان النظام راعيا مباشرا لهذه الأعمال ومروجا لها، (كانت الصفوف الأولى في مسرحياته محجوزة دائما للمسؤولين، ويحكى أن حافظ الأسد قال عنه إنه يعادل كتيبة عسكرية كاملة في خدمته للنظام).
وبعد آذار 2011 فتح دريد لحام الباب الذي واربه طويلا في علاقته مع النظام، وأعلن تأييده الكامل والمطلق له، رغم استمراره في استخدام مفردة (الوطن) بدل النظام، بطاء ممدودة أضعاف مدها السابق، إمعانا في تأكيد نفاقه الطويل الذي تجلى في تصريح عجيب له قبل سنتين قال فيه: (أنا حذاء للوطن)!
هذه المسيرة التاريخية الطويلة بتناقضاتها وموارباتها لخصها في عدة حوارات أجريت معه مؤخرا، أعلن فيها بوضوح عداء صريحا للربيع العربي، وللثورة السورية بشكل خاص التي اعتبرها السبب في تدمير سوريا وتشريد أهلها، دون أن يغير عادته في النقد (الدبوسي) حين انتقد كل الأطراف التي تجتمع في جنيف، وطبعا لم يمر على دور النظام ولو واحدا في المئة في تدمير (الوطن)، كما أظهر في هذه الحوارات نرجسيته ومحاولات تهميش الآخرين، الذين اشتغلوا معه، وعلى رأسهم الشاعر الراحل محمد الماغوط، الذي قال لحام عنه إنه لم يكن يوما صديقا له، بل كان زميل مهنة، وإن المسرحيات التي مثلها ونسبت للماغوط كتب هو معظمها، ساحبا من الماغوط مهنته الوحيدة: (الكتابة)، ليصبح دريد لحام بهذا (العبقري) الذي يفعل كل شيء: ( one man show)، وهو التعبير الأدق الذي يناسب شخصيته النرجسية.
لا أعرف لماذا أثارت تصريحاته عن الماغوط، حفيظة معجبي محمد الماغوط، وهم كثر بين مؤيدي الثورة، مع أن دريد لحام أزال شبهة عن الماغوط بتصريحه ذلك، فتلك الأعمال كانت تصب في مصلحة النظام مباشرة، ومحبو الماغوط يقدمونه بوصفه كان معارضا للنظام، مع أن الحقيقة أن لا شيء في تاريخه يدل على هذا، فالماغوط مثل غالبية شعراء ومثقفي جيله، لم يكونوا أصحاب مواقف سياسية حاسمة، كانوا ينتقدون سلوكيات النظام ولكن في حدود السطح، ولا أستطيع استثناء سوى قلة نادرة من ذلك الجيل الثقافي السوري (أعرفهم جيدا عن قرب)، الذي بقي أفراده على تخوم السلطة الحاكمة، سواء في موالاتها أو معارضتها، لم يقترب أحدهم من عمق السلطة في النقيضين، لم يكن مسموحا أصلا الاقتراب الشديد إلا لمن يريد النظام تقريبه، أما إعلان العداء للنظام فكان ثمنه غاليا جدا، لم يدفعه سوى الذين انتموا للأحزاب الممنوعة، لم يكن الماغوط منهم بكل حال، ولا كان الحزب القومي السوري الذي كان الماغوط جزءا منه ممنوعا أيضا، بل على العكس لطالما كان هذا الحزب مواليا لنظام الأسد الأب والابن، وبعد 2011 لعب عناصره دور السلاح الضارب بيد نظام الأسد، ومارسوا التشبيح بكل أشكاله على السوريين الثائرين.
يخطر لي هنا سؤال عن الماغوط وعن كل الشعراء والمثقفين الذين غابوا عن الحياة قبل الثورة: ترى ما الذي كانت ستكون عليه مواقفهم لو أنهم عاشوا حتى شهدوا الربيع العربي؟! والحقيقة أن كثرا من السوريين يسألون هذا السؤال، أما الإجابة فهي حسب موقع السائل من النظام والثورة، الموالون للنظام يقولون إنهم كانوا سيقفون مع النظام باعتبار أن النظام كان (راعيا) لهم ومنحهم هوامش للكلام وحرية الرأي دون أي تبعات، بينما الموالون للثورة يتحسرون لغيابهم لأنهم كانوا سوف يشكلون فارقا بافتراض أنهم كانوا سيقفون مع الثورة ضد النظام الذي كانوا ينتقدونه، والحقيقة أن هذا التناقض بين موقف موالي النظام والثورة تجاه ذلك الجيل هو ليس سوى دلالة على الازدواجية التي عاش فيها مثقفو ذلك الجيل، وإشارة واضحة إلى عدم جذرية مواقفهم السياسية وعلاقتهم مع الأنظمة الحاكمة، ولنقل، بحسن نية، إن الخوف، بعد مجزرة حماة، اضطرهم إلى هذا النمط من العلاقة مع النظام، وهي علاقة لا تختلف عن علاقة دريد لحام مع النظام الذي كان يعتبر أحد أشد منتقدي النظام في أعماله المسرحية.
أفكر أحيانا أن رحيل مثقفي هذا الجيل قبل الثورة ربما كان نعمة حمتهم من انكشاف مواقفهم ومن تعرضهم للاتهامات والشتائم، التي يتعرض لها الباقون على قيد الحياة بسبب مواقفهم، وبسبب حالة الانقسام الحاصلة في المجتمع السوري.
والحال أن سوريا لو كانت وطنا طبيعيا، لا وطنا بـ (طه) دريد لحام الممدودة، والتي تشعرك أن ثمة هاوية خلف حرف الطه، سيسقط فيها الجميع، لما حصل ما حصل، لما وصلت سوريا إلى حالها اليوم، لكن الهاوية سحبت إليها الجميع، الهاوية التي عادة ما تكون في المجتمعات الفاشلة الناتجة عن أنظمة قمعية واستبدادية، ترفع شعارات جوفاء عن (الوطن) الذي لا قيمة فيه للمواطنة الحقة، هل سمعتم في العالم المتقدم أحدا يتحدث عن (الوطن) سوى العنصريين؟!
*تلفزيون سوريا