تقع ساحة جورج خوري، حيث عاشت عائلتي سبعينيات القرن الماضي، قرب شارع القصاع الممتد حتى باب توما، أشهر أحياء دمشق، والتي تتفرع غالبية أحياء دمشق وشوارعها القديمة منها: باب شرقي، القشلة، القيمرية، القباقبية، وهي الأحياء التي تصل باب توما بالحميدية والإطفائية وباب الجابية، والشاغور حتى الميدان. سلسلة واحدة من أحياء دمشق القديمة، كانت تتوسّطها حارة اليهود، أو ما يعرف اليوم بشارع الأمين حيث عاشت بقايا الطائفة (الموسوية)، الاسم الذي أطلقته الحكومة السورية على اليهود، وسجلته على قيودهم الشخصية، بعد أن ألغت بند الهوية الدينية من القيود نفسها على باقي السوريين، مسلمين ومسيحيين بكل طوائفهم. وحدهم اليهود أجبرتهم دولة “البعث” على الاحتفاظ ببند الدين والطائفة في قيودهم، كما لو أنها كانت تُقصي عنهم صفة المواطنة السورية علنا، وهو ما فهمه يهود سورية الذين شعروا بهذا التمييز في كثير من تفاصيل الحياة، سواء في التعامل معهم في الوظائف الإدارية أو في الجيش أو في حقوقهم الشخصية، فهاجر معظم اليهود من سورية على دفعات، واستقرت غالبيتهم في بروكلين في الولايات المتحدة، بينما لم يهاجر إلى “إسرائيل” سوى عدد قليل، وبقيت عائلة يهودية واحدة في دمشق، حتى سنوات قريبة، قبل أن يرحل آخرها عن الحياة، بعد أن شاهد اندثار عهد اليهود في بلده الأم سورية. بعد حرب 1967، لم يكن أمام الأنظمة العربية الحاكمة المتورّطة بالهزيمة، لتبعد غضب الجماهير العربية عنها، سوى أن توجّه هذا الغضب نحو العرب اليهود، فبدأ خطابها القومي الشوفيني يزداد علوّا، ومعه ازداد الحقد الجماهيري العربي على العرب اليهود، أبناء بلادهم، فغضّت الأنظمة النظر، بل ساعدت، في أحيان كثيرة، على التنكيل بهم وبممتلكاتهم، وعزّزت فكرة اقتران اليهودي بالصهيوني، (لا تخلتف عن قرينة الإسلام بالإرهاب حاليا)، وقدّمت الدراما العربية صورة نمطية عن العرب اليهود، لا تستدعي سوى الكراهية والضغينة، في وقت كانت “إسرائيل” تقدّم لليهود المغريات، فهاجر منهم من هاجر إليها، أما غالبيتهم فاستقرّت في أميركا التي انطلقت منها هجرات يهودية عربية لاحقة إلى بلاد أخرى.
صنع الخطاب القومي العروبي الشوفيني ضد اليهود أسطورةً استطاعت دولة الكيان الصهيوني الاستناد إليها في خطابها عن الاضطهاد التاريخي ضد اليهود. وفي الوقت نفسه، عمل هذا الخطاب على محو الهوية الوطنية الجامعة من الذاكرة الجمعية العربية لصالح الهوية الدينية، فاليهودي في الذاكرة العربية صهيوني ومغتصب، ويجب الاقتصاص منه لما فعلته “إسرائيل” بإخوتنا العرب الفلسطينيين، في إحالةٍ لا واعية إلى اعتبار اليهودية قوميةً مناهضة للقومية العربية، لا دينا من ضمن الأديان المتعايشة على أرض واحدة. سرعان ما أصبح هذا الخطاب الجمعي هو السائد، حين تم ربط العروبة وحدها بالإسلام، وتم لاحقا اعتبار المسيحيين العرب أقليةً لا مواطنين، ليتخذ الأمر بعد ذلك المنحى الأخطر، وهو المنحى الطائفي في قلب الدين الواحد، لتشهد بلادنا صراعاتٍ جديدة، استطاعت تمزيق الهوية الوطنية تماما، وتفتيت بنى المجتمعات العربية، لنشهد ما نحن فيه اليوم من دولٍ فاشيةٍ فاشلة في كل المناحي، ومجتمعات مهشّمة ومدمّرة، ومستقبل عربي مسدود الآفاق، وأجيال تبحث عن هويةٍ تلتحق بها، بعد الهزيمة التي لحقت بحلم التغيير مع الربيع العربي، وتم وأده بأبشع الطرق وأكثرها إجراما.
بالاستناد إلى ما سبق، هل من الطبيعي أن يصنّف أي عمل فني ينصف تاريخ العرب اليهود في بلادهم بوصفه تطبيعا مع العدو الصهيوني؟ ألا يجب أن يتخلص العرب من نظرتهم الشوفينية ضد العرب اليهود الذين لا ذنب لكثيرين منهم بما حصل لفلسطين وللأراضي العربية المحتلة الأخرى، بل الذنب، أولا وأخيرا، هو ذنب الأنظمة العربية بكل أشكالها، والتي استخدمت وجود الاحتلال ورقة رابحة تمكّنها من إخضاع شعوبها وترهيبها بذريعة المعركة الكبرى مع العدو، هذه المعركة الأبدية التي لم يخسر فيها سوى الشعوب العربية منذ نشوء الكيان الصهيوني.
أتابع، مثل كثيرين، حاليا المسلسل الخليجي “أم هارون”، إخراج المصري محمد العدل وبطولة الكويتية حياة الفهد. وأتمنى ألّا يسقط في فخ التهافت في محاولته التخفف من العنصرية التي لم تنجُ منها بطلته، حين طالبت بالتخلص من الوافدين المصابين بكورونا في بلدها، ونفيهم إلى الصحراء لتجنيب الكويتيين العدوى منهم.
*المصدر: العربي الجديد