ثمة مواعيد دائمة للسوريين مع الموت، مواعيد لا تتوقف ولا تنتهي، وإلا ما الذي جعل الزلزال الأخير يبدو كما لو أن أحدهم أرسله كصاروخ مُحمّل بمواد مدمرة أو كبراميل متفجرة نحو السوريين أكثر من غيرهم؟ هل تستغربون؟ كثر جدًا من ضحايا الزلزال في تركيا هم من السوريين، إذ حدثت حركة الأرض القاتلة في منطقة يتمركز فيها السوريون في تركيا، هي المنطقة الأقرب إلى سورية بكل حال، ليس فقط جغرافيًا بل أيضًا في العادات والتقاليد وحتى في اللغة، فمركز الزلزال كان ملاصقًا لإقليم هاتاي/ لواء إسكندرون، أو اللواء السليب، كما كان يطلق عليه في كتبنا المدرسية، قبل أن يصدر قرار رئاسي بإزالته من الخريطة السورية حين أصبحت العلاقات مع تركيا إستراتيجية إلى حد التنازل لها عن هذا الجزء المهم والحيوي من الجغرافيا السورية، لولا أن ما حدث خلال العقد الماضي جعل البعض من مؤيدي النظام يلوح بورقة اللواء والمطالبة به في المحاكم الدولية نوعًا من الضغط على تركيا التي أظهرت على ما يبدو التنازل الرسمي السوري للواء فسكتت الأصوات. لكن ذلك شأن سياسي، وغضب الطبيعة لا تعنيه السياسة ولا خصوماتها ولا تحالفاتها.
سكان لواء إسكندرون يتكلمون اللغة العربية، بلهجة الساحل السوري وامتداده حتى جسر الشغور، وكان هذا مفاجئًا لي حين زرت تلك المنطقة في عام 2014، سيشعر أي سوري هناك أنه خرج من تركيا في اتجاه سورية، ليست اللهجة فقط بل الطعام وطرق تقديم المائدة وجغرافية المكان والعشوائية في البناء والإهمال في الخدمات، وصور بشار الأسد ووالده، وصور حسن نصر الله، أمين عام حزب الله، لا شيء سيقول لك أنك ما زلت في تركيا؛ أخبرني الأصدقاء أن تلك الصور قد اختفت لاحقًا، بعد أن تغيّر مزاج أهل الإقليم الذين كان يعتقدون أن نظام الأسد على حق، إذ كانت أحزاب المعارضة التركية تستخدم الانتماء المذهبي لمعظم سكان الإقليم وتتلاعب بهذا العصب الخطر في حملاتها الانتخابية. يضاف إلى ذلك أن الكثير من السوريين الهاربين من الموت قد وجدوا في الإقليم مكانًا آمنًا ووجدوا في سكانه جيرة طيبة، الاختلاط والتجاور سوف يظهران الحقائق ويكشفان النفوس على حقيقتها، ويبدو أن ذلك أيضًا قد غير في المزاج العام لسكان الإقليم.
“اللغة وطن”، يبدو أن لا مناص من إعادة هذه الجملة الهامة دائمًا، وهو ما يعرفه البشر تلقائيًا، هذا ما جعل الكثير من السوريين يتوجهون نحو الإقليم ليكون وطنًا بديلًا عن المفقود، حيث لا معاناة مع الاندماج، فلغة اليوميات واحدة، وتقاليد اليوميات واحدة، والأسماء مشتركة، والأشكال متشابهة، واللباس مشترك، حتى الماضي والأحاديث عنه قد تكون مشتركة، أو لنقل إن الذاكرة الجمعية القديمة التي بنيت عليها ثقافة المجتمع مشتركة. هل من مكان يمكنه أن يكون مناسبًا للسوريين الهاربين من الموت، خصوصًا سكان ريف اللاذقية ممتدًا حتى جسر الشغور وحلب، أكثر من هذا المكان؟! حتى المصير أصبح مشتركًا؛ هكذا تكتمل دائرة المأساة السورية تمامًا وتنغلق على ذاتها حين يحدث زلزال مدمر يصيب المنطقة المشتركة بين تركيا وسورية، ويمتد ليطال مدن الشمال السوري ومدن الساحل السوري ويقتل من السوريين عددًا مهولًا سيبقى تقريبيًا ومرهونًا بآليات إنقاذ بدائية ومحكومة بحسابات سياسية تافهة ورخيصة.
عشر سنوات لم تبق فيها طريقة من طرق الموت لم يجربها السوريون، الموت بكل أصنافه وبكل أدواته وبكل أشكاله مرّ على هذا الشعب الذي لا يعلم أحد لماذا عليه دفع كل تلك الفواتير الباهظة! عقد كامل من الزمن كأنه تعويض عن خمسين سنة من صمت السوريين على ما ابتلتهم به الحياة. ومع ذلك كأن عشر سنوات من الموت والقهر والذل لم تكن تكفي، فالمأساة تسأل هل من مزيد؟ فترد عليها الطبيعة بكرم فائض تبتدئ به عقدًا جديدًا تغدق فيه على السوريين ما لديها من الموت والدمار والتشرد والبرد والجوع والفقر والحزن. كأن اللغة حزن، أو ربما أصبحت اللغة حزنًا، بعد أن ظنها السوريون الهاربون من الموت وطنًا آمنًا، هكذا اقترحت لهم الطبيعة: هذا المصير المأساوي وتلك العلاقة المرتبكة والأليمة مع اللغة/ الوطن.
اللغة شرك، إذ كيف لمن هو مثلي، من يعيش خارج الحدود الجغرافية للمأساة، أن يعبر باللغة عن تلك الهوة الهائلة في روحه، وهو يرى ما يرى ويقرأ ما يقرأ ويسمع ما يسمع، ويدرك أنه عاجز تمامًا عن فعل ما يمكنه أن يخفف بعضًا من وطأة ما يحدث؟ أو: كيف للغة أن تشرح تلك الفجوة التي تحدث داخلك أنت الذي اعتقدت أنك نجوت وصدقت أنك قد نسيت وأنك تعيش حياتك وأن لا شيء بعد يربطك بذلك المكان، ثم فجأة، حين تفتح صفحة الفيسبوك صباحًا وتقرأ عن الزلزال، تشعر بارتداده في روحك وأنت تتابع أخبار الموت والدمار في تلك البلاد التي تقول إنها لا تعنيك؟ إن اللغة عجز كامل أحيانًا، يشبه عجزك أمام هول ما يحدث، يشبه روحك التي تمسكها بيدك كما لو أنك تمسك بناء كاملًا تراه في الشاشة وهو يسقط أمام عينيك على من فيه فتسقط روحك معه وتتفتت كحجر من الرمل؛ يشبه شلل حواسك وأنت تقرأ أسماء أصدقائك وعائلات أصدقائك مدفونة تحت الردم في مدن تعرفها جيدا ولك فيها ذاكرة طويتها طويلًا كمنديل عتيق؛ يشبه إحساسك بالعار وأنت تجلس على كنبة مريحة تشرب مشروبك الساخن وتكتب على صفحتك في الفيسبوك أخبار الًزلزال وأسماء الموتى؛ اللغة عار يشبه رغبتك في الاختفاء (أن تنشق الأرض وتبتلعك) وأنت تفكر بإرسال مبلغ من المال إلى جهة ما بدل أن تشتري به طعامًا لقطتك؛ اللغة تافهة تشبه تفاهة الحياة التي تنهيها بلحظة واحدة حركة كسولة ومتململة للأرض وتترك الأحياء مشدوهين من شدة العبث وفقدان المعنى وخسارة اللغة.
اللغة خاسرة، إذ تفقد في لحظة واحدة قدرتها على أن تكون وطنًا أو أن تكون ملجأ أو أن تكون هوية، مفسحة في المكان للموت لكي يحتل المشهد فيصبح هو الوطن الوحيد لشعب يلتقط كل فرد فيه صورة جماعية للموت يضعها كشاهدة على مقبرة ما في مكان ما من هذا العالم البائس.
*ضفة ثالثة