قرأت، أخيرا، عدة منشورات ساخرة لصديق مصري في “فيسبوك”، ينتقد فيها فاتن حمامة، ويتعرض فيها إلى السذاجة التي جعلتنا نقبل أدوارها ونعتبرها سيدة الشاشة العربية، متحدّثا عن عدة أفلام لها، كانت الشخصية التي تلعبها فيها نموذجا للفتاة ذات الأخلاق الصارمة، الفتاة المؤدّبة التي تُصلح أخطاء الجميع، حتى لو كان في ذلك تدخل في شؤون غيرها. ولفتني حديثه عن فيلم “نهر الحب” مع عمر الشريف وزكي رستم (إخراج عز الدين ذو الفقار)، المأخوذ عن رواية تولستوي “آنا كارنينا”، حيث افترض أن من قامت بالدور هي الممثلة والراقصة المصرية هياتم بدلا من فاتن حمامة، وتساءل إن كان الفيلم سوف يُقبل في المجتمع المصري الحريص على قيم الأسرة المصرية كما قبله من فاتن حمامة.
والحال أن تساؤله وافتراضاته لفتت نظري إلى قضيةٍ مهمةٍ تتمحور حول الشخصية الحقيقية للممثل أو النجم السينمائي، وكيف يستثمرها المخرجون للعب أدوار درامية عادة ما تكون غير مقبولة اجتماعيا، لا سيما في المجتمعات العربية التي ترفع من شأن القيم المجتمعية والروابط العائلية، وتعلي من مبادئ الأخلاق الاجتماعية ضد ما تعتبره انحلالا وخروجا عن العرف والقيم العامة السائدة، أو لإيصال رسالةٍ اجتماعية عبر السينما.
قدّمت السينما المصرية، في العام 1971، فيلم “الخيط الرفيع”، وهو من إخراج هنري بركات وبطولة فاتن حمامة ومحمود ياسين، ويتحدّث عن شابة فقيرة تعمل في بنك، وراتبها لا يكفي لإعالتها وأسرتها، فتّتخذ من ثريٍّ عجوز عشيقا لها، ومن خلاله تتعرّف إلى شاب مهندس، تنتقل للعيش معه من دون زواج، وتساعده على تأسيس عمله الخاص، ثم يهجرها، ليتزوّج من شابة عذراء وابنة أحد الأثرياء، تاركا إياها لمصير مجهول. يمكن رؤية أحداث الفيلم من زاويتين: الأولى، زاوية نقد ازدواجية الرجل الشرقي، فهو يعيش حياة كاملة مع امرأةٍ ساعدته كثيرا، لكنه يرفض الزواج بها. وزاوية نقد سلوك الفتاة التي تفرّط بسمعتها وشرفها. والمدهش أن الجمهور كان متعاطفا مع شخصية منى (فاتن حمامة) في الفيلم، كما تعاطف، قبل عقد ونيف، مع نوال، الشخصية البطلة في “نهر الحب”، التي خانت زوجها، وأحبّت شابا، وتخلت عن ابنها لأجله، وعاشت معه، وهي لم تطلق بعد، ناسفة بذلك كل مفاهيم المجتمع عن الأمومة والتضحية والأخلاق. ومع ذلك، لم يبخل الجمهور العربي بدموعه حزنا على مصيرها، حين تقرّر الانتحار بعد استشهاد حبيبها على جبهة القتال.
قد يبدو الأمر وكأن الجمهور العربي كان متسامحا مع الحب، وغافرا أخطاءه الكبيرة، وهو، بكل حال، أمر طبيعي، فنحن شعوب ميلانكولية ومنفعلة. لكن الأمر، في ظني، يتعلق بشخصية فاتن حمامة نفسها، الشابة الارستقراطية صاحبة الملامح الملائكية والسلوك المترفع والمتعالي (الإيتيكت). يأتي القبول والتعاطف هنا من منطق محض طبقي، حيث المجتمع يخاف من تقييم سلوك الطبقة العليا، فالطبقة العليا هي رمز السلطة، هل يحقّ للعامة في بلادنا انتقاد السلطة؟ أيضا، هذا التعاطف مع أخطاء الحب سرعان ما سيتحوّل إلى غضب ونفور وانتقاد بعد عقد مع ظهور أفلام المقاولات، والتي تعجّ بشخصيات نسائية تترك كل شيء من أجل الحب، كما فعلت منى ونوال، لكن الفرق أن بطلات هذه الأفلام لسن مثل فاتن حمامة، لا يملكن ملامحها الارستقراطية، ولا سلوكها المترفّع. هن يشبهن عامة الشعب، بملابسهن وضحكهن ودلعهن ورقصهن، وإظهار مفاتنهن (فاتن حمامة نادرا ما ضحكت بصوت عال في أفلامها، ورفضت أن ترقص الرقص الشرقي بعد فيلم “بابا أمين”).
الخروج عن العرف السائد حين يأتي من العامة يصبح فضيحة مدوّية، حتى لو كان مجرّد شخصية في فيلم درامي، فلطالما ظلّ الجمهور العربي يخلط بين الشخصيتين، الحقيقة والدرامية. ربما هذا ما جعل الصديق المصري يفترض أن هياتم هي من أدّت دور نوال في فيلم “نهر الحب” بدلا من فاتن حمامة، ويتساءل: ماذا كان سيحدث؟ وأظن أننا جميعا تقريبا نتوقع ما سيكون رأي الجمهور بشخصية نوال/ هياتم. كانت ستستحق مصيرا أكثر قسوةً من الانتحار في نهر النيل، ربما كان الجمهور سيطالب بذبحها من الوريد إلى الوريد على يد زوجها، وسيطلق لقب ديوث على أخيها ممدوح (عمر الحريري) الذي ساعدها على ترك زوجها والعيش مع حبيبها؛ لكن فاتن حمامة أيقونة، والعرف يقول إن الأيقونات لا تمسّ ولا تُنتقد.
*العربي الجديد