ثمة مشكلة حقيقية مع الثبات في الرأي رغم كل المتغيرات! أراه غريبا أن لا نلتفت للخلف قليلا، أن لا نراجع ما حدث معنا في حياتنا، سواء على المستوى الشخصي أو على المستوى العام بشكل أكثر تحديدا وتأكيدا، فشأننا الشخصي حاليا، كسوريين وعرب لا يمكن فصله عن الشأن العام بأي حال، نحن نعيش حياتنا من دون تخطيط لما بعد، يوما بيوم، فكل ما في حياتنا مرتهن بالمزاج السياسي المحلي والدولي، أقصد هنا نحن السوريين، من لا يزال يعيش منا في سوريا، ومن منا يعيش في الدول التي لا تمنح حق اللجوء مع ضمان الحقوق الكاملة للاجئ، ربما، إلى حد ما، نجا من هذا الانتظار اليومي لأي متغير مأمول، السوريون الذين يعيشون في دول لا تحكم سياساتها العامة مزاجية أمنية أو إعادة تحالف سياسي وعسكري واقتصادي قد يترك أثره على اللاجئين السوريين في هذا البلد أو ذاك.
لدي مشكلة في التعامل مع من يظنون أن ما يعتقدونه هم هو فقط الحقيقة، والحقيقة المطلقة، مع من يؤمنون بصوابية مطلقة لآرائهم ومواقفهم، هؤلاء الذين يطلقون أحكام قيمة أخلاقية ووطنية على الآخرين، الذين يعتقدون أنهم المالكون والمانحون شهادات حسن سلوك وطنية للآخرين لمجرد أن ما حدث توافق مع رؤيتهم، رغم أن تلك الرؤية قد لا تكون نابعة من بصيرة وطنية وشفافة، وإنما من إيديولوجية لا تنقصها العنصرية والاستعلاء، وتوافقت بالمصادفة مع التحالفات السياسية والتغيرات الحاصلة في الرؤية الدولية لما يحدث في بلادنا. أو أولئك الذين لا يتورعون عن اتهام أي اختلاف بالرأي أو الرؤية بطائفية صاحبه أو قوميته والنظر إليه من زاوية واحدة غالبا ما تكون هي الزاوية الوحيدة التي يتم التعامل منها مع كل القضايا الوطنية الخلافية الأخرى.
لدي مشكلة حقيقة مع الرأي الأحادي والثابت، فما حدث خلال السنوات العشر السابقة، وما وصلت حالنا إليه، والافتراقات المهولة التي مررنا بها كأفراد وكشعب وكثورة، يجعل من سردية الصوابية السياسية التي يتبجح البعض بها، سردية مخيفة ذلك أنها مبنية على رأي متعصب ومنحاز لفكرة تغفل وتهمل الاختلافات الاجتماعية والثقافية بين السوريين، هذه الاختلافات التي لعب عليها النظام السوري بحرفية جعلت ممن ثاروا عليه ينجرون إلى ملعبه ذاته، ولا استغراب في ذلك، فالنظام منذ تسلم الأسد الأب لحكم سوريا في أول سبعينيات القرن الماضي، وهو يؤسس لمواجهة يوم كيوم انطلاقة الثورة، وكأنه كان يدرك أنه سوف يجعل من سوريا ملكية له، وأن السوريين سوف يغضبون ويثورون ويخرجون عن طاعته ذات يوم.
أسس الأسد الأب مجتمعا يلغي ظاهريا خصوصية مكوناته واختلافاتها، وبذات الوقت يعززها عبر سرديات ومظلوميات تظهر من حين لآخر، وتكرس السلبي في تلك الخصوصيات بدلا من الإيجابي الذي عادة ما يفرزه التنوع والاختلاف في المجتمعات المنجزة ذات النظم الديموقراطية المحافظة على حقوق الإنسان، عزز نظام الأسد الأب مبدأ التقية التي أصبحت عادة سورية بامتياز نتيجة القمع الشديد والخوف الذي عانى منه السوريون عقودا طويلة، هذه التقية كانت تتمدد أفقيا وشاقوليا، وتمدد معها إفرازات الاختلافات في مجتمع مريض بالخوف والشك والسرانية، والتي لم تكن لتحتاج سوى لإطلاق الحناجر بهتافات تخلخل الغطاء القمعي قليلا، حتى انفجرت وطفت وأظهرت كل المسكوت عنه خلال عقود حكم نظام الأسد، المبني أساسا على مجتمع لم يكن قد وجد الفرصة بعد ليتشكل بشكل صحي بعد نشوء الدولة السورية إثر اتفاق سايكس بيكو، وهو حال جميع دول المشرق العربي التي تتنوع مكوناتها الاجتماعية، أو التي كانت ذات يوم جزءا من تكوين بلاد الشام أو الهلال الخصيب.
والحال أن صوابية الرؤية السياسية مفهوم لا يمكن التعامل معه ضمن مجريات الثورة السورية وماحدث خلالها، ما لم يتم وضع المجتمع السوري باختلافاته وخلافاته في الحسبان، فقد كشفت الثورة جهل السوريين بعضهم ببعض ليس فقط كمذاهب وإثنيات بل أيضا كسرديات متداولة في القاع عن كل مكون من مكون آخر، كشفت المظلوميات المزيفة التي يحملها السوريون، ويتلاعب بها النظام من وقت لآخر، أو يتاجر بها شركاء المصالح والارتزاق حتى الآن؛ حسنا، مع هذه المعطيات كيف يمكن الاستمرار في رؤية واحدة لم تتغير منذ أول الثورة وحتى الآن؟ ألا يدل هذا على قصور في الرؤية لا على صوابية سياسية؟ ثم أن جميعنا قد تأثر وانفعل وتفاعل مع الأحداث منذ البداية، وجميعنا بنى {أيا ما في لحظة ما بناء على المعطى الحاصل، أو الحدث المتغير، حيث يفترض التغير في الحدث أن تتكيف الرؤية الشخصية معه، فالرأي الثابت الذي لا يحيد قيد أنملة رغم كل المتغيرات حوله هو رأي عقيم وعاجز، ولا يمكن التعويل عليه في بناء مجتمع جديد أو نظام جديد، ذلك أن أي عقد اجتماعي جديد يجب أن يأخذ بعين الاعتبار وجهات النظر كلها، مهما كانت مختلفة ومتناقضة ومغايرة، فالرؤية من زاوية واحدة ومن نسق ضيق يمنع رؤية الأنساق والزوايا الأخرى هو تماما ما فرضه النظام السوري على المجتمع، وما نحتاجه اليوم، نحن السوريين بانحيازاتنا المختلفة، الذين لم تغمس أيادينا بدم إخوتنا، هو التبصر بما حدث وتحليله ومحاولة الوصول إلى رؤية مشتركة تنقذ ما تمكن، أمأ أولئك الذين تاجروا بالدم وبالوطن وبالثورة، فمصلحتهم هي بالاستمرار بما هم عليه، كلما زاد الخراب زادت فرصهم بالنجاة، ليست الانتباهات إلى ما حدث في واردهم ابدا.. الوطن أو الثورة لهم هو (هم)، الآخرون المختلفون جميعا، هم أعداء ولا مشكلة في فنائهم.
*تلفزيون سوريا