رشا عمران: الراح والريح الكاشفة

0

ثمة بيت شعري يُنسب لخمريات أبي نواس يصف فيه تأثير الخمرة على شاربها يقول فيه: الراح كالريح إن مرت على عبق/ تصفو وتخبث إن مرت على عفن. وثمة من يذكر البيت نفسه على النحو التالي: الراح كالريح إن هبت على عطر/ طابت وتخبث إن مرت على الجيف. ورغم أنه لا يوجد تأكيد على أي الصيغتين هي الأدق، ولا على نسب البيت بحد ذاته لأبي نواس، رغم أن سياقه وسياق أبي نواس في خمرياته يمكنان من نسبه له دون غيره، وبكل حال فالقصد من ذكر البيت ليس تأكيد نسبه من عدمه، إذ يمكن بمراجعة دقيقة وشاملة لديوان أبي نواس معرفة ذلك، وإنما القصد هو المعنى العميق لهذا البيت الشعري في وصف الراح/ الخمر، وتأثيرها على شاربها.

شهدت في حياتي، وشهد كثر غيري، العديد من الحالات والحوادث والجنح وأحيانًا الجرائم التي يتم تبرير ارتكابها أو القيام بها بسبب تأثير الخمرة على حواس شاربها وعلى إدراكه، وعلى قدرته على التحكم بأفعاله وتصرفاته، وقد نوافق، وهذا مثبت علميًا أيضًا، أن من يشربون الخمور أكثر من احتمال أجسادهم لها فإنهم فعلًا يفقدون قدرتهم على التحكم بأفعالهم، إلى حد أنهم ينسون في اليوم التالي ماذا حدث لهم في الأمس، وينسون ما قاموا به من أفعال وتصرفات، سواء أكانت مؤذية وعنيفة، أو كانت طبيعية وعادية، وكأنهم يضعون (بلوك) على ذاكرتهم في مرحلة السكر الشديد، بحيث ينسون تمامًا ما حدث معهم، وفي ظني أن هذا نوع من أنواع آليات الدفاع الذاتية والنفسية، تشبه الإنكار، فإن تم تناسي تلك اللحظات فسوف يبدو الأمر، نفسيًا، كما لو أنها لم تمر في حياة صاحبها، كم لو أنها ممحية تمامًا من ساعات ودقائق اليوم السابق، هكذا ربما يستطيع الشخص إراحة ضميره، إن كان قد قام بفعل سيء، ويتخفف من شعور بالإثم أو الذنب قد يعتريه فهو لا يتذكر شيئًا مما حدث، وبالتالي كأن الحدث نفسه لم يتم، يحصل ذلك بفعل اللاوعي، أقصد أن المخمور لا يتقصد فعل ذلك في اليوم التالي، بل تفعل الذاكرة واللاوعي فعلهما لمحو إدراك لحظات السكر الشديد، إذ ثمة منطقة عميقة في النفس البشرية تدرك أن الوصول إلى حالة كهذه هو شيء خارج عن القيم الأخلاقية، ليس فقط المتعارف عليها اجتماعيًا، بل تلك التي راكمها الشخص ذاته عبر وعيه وإدراكه المعرفي لصورته أمام نفسه قبل صورته أمام الآخرين.

غير أن للخمر صفة ذكرها بيت أبي نواس السابق، إذ يقال على المستوى الشعبي، في نفس السياق ولكن في معنى آخر، إن السكر يكشف للشخص حقيقة نفسه مثلما يكشفها للآخرين، يكشف معدنه الداخلي الحقيقي، فما تفعله الكحول هو أنها تزيل الأقنعة التي نركبها على شخصياتنا الحقيقية يوما وراء يوم، الأقنعة التي تجعلنا نبدو أكثر اتساقًا مع المجتمع والمحيط حولنا، ما تفعل الخمر أنها تنزعها قناعًا وراء الآخر، وتجعلنا عراة أمام حقيقتنا وأمام الآخرين، مكشوفين تمامًا، لا قدرة لنا على تقمص شخصيات اعتدنا على تقمصها خارج وقت الشراب، إن كانت أرواحنا ونفوسنا طيبة فإن ذلك سيظهر أكثر تجوهرًا وتجليًا في لحظات الشرب والسكر، سنكون أكثر لطفًا وحساسية ومراعاة للآخرين، إلى حد لا نصل إليه في حياتنا اليومية، أقصد أننا أحيانًا نضع قناع الجدية والصرامة والحيادية في علاقتنا بالبشر، في حالة الشرب يزول هذا القناع ويظهر لطفًا ورقة كنا نخفيهما عن الآخرين، وقد يكون العكس، بمعنى أننا قد نبدو في حياتنا اليومية بالغي التهذيب واللطف والإتيكيت، وما أن نوغل في الشرب قليلًا حتى تزول تلك الأقنعة وتظهر بذاءتنا وسوقيتنا ودناءتنا وأمراضنا وعقدنا النفسية والاجتماعية، يظهر كل ما كنا نحاول إخفاءه عن الآخرين عبر تقمص شخصيات لا تشبهنا. تفعل الخمر تمامًا مع تفعله الريح، تمر الريح فوق بستان ورود فتحمل معها رائحة الورد العطرة في طريقها، وتمر فوق مزبلة فستحمل معها رائحة المزبلة النتنة في طريقها، الخمر لا تغير طبيعة الشخص، هي في الحقيقة تكشف طبيعته الحقيقة وتفضحها، لهذا ربما تم طلب تقليلها في بعض الأديان (قليل منه يحيي قلب الإنسان)، وتم طلب تجنبها في أديان أخرى (رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه)، لأن الإكثار منها يفقد الوعي الذي يضع الأقنعة على شخصياتنا، الأقنعة اللازمة لضبط قوانين الحياة ومنع تحولها إلى فوضى تعيق سيرورة الحياة بحد ذاتها، وتعطل تطورها.

ثمة بيت آخر أيضًا مثبت لأبي نواس:

فلما شربناها ودب دبيبها/ إلى موطن الأسرار قلت لها قفي

مخافة أن يسطو علي شعاعها/  فيطلع ندماني على سري الخفي

ذلك أنه حين تسقط الأقنعة بفعل الشرب يبدأ الشارب المخمور بالتدفق والبوح والحديث عن مكنونات نفسه ولواعجه ومكابداته، ويبدأ بكشف ما أخفاه من أسرار عن الآخرين وهو ما يزيد من شعوره بالذنب لاحقًا فيمعن وعيه بإخفاء تلك اللحظات، يصحو الشارب المخمور من غفوة السكر وهو لا يتذكر شيئًا مما حدث معه ومن كلامه ومن سلوكه، فما حدث هو سلوك اللاوعي الذي وجد مساحته للظهور والافصاح عن وجوده المختفي تحت طبقات من الوعي والأقنعة المتراكمة.

يتذرع كثيرون بالشرب مبررًا لتصرفاتهم أو سلوكهم السيء أو الجيد أو لما قاموا به في تلك اللحظات شديدة الخصوصية، ويحدث كثيرًا أن تنتهي علاقات متينة بفعل الانكشاف الذي يحدث في أوقات كهذه، أو تتمتن علاقات، ويحدث أن تحصل جرائم حقيقية أيضًا بفعلها، ومع ذلك علينا أن نكون ممتنين دائمًا للراح ولما تفعله في كشف حقيقتنا أمام الآخرين، حقيقتنا العبقة التي نخجل من إظهارها للآخرين بفعل تربية صارمة تلقيناها لا مكان فيها للعواطف واللطف، أو حقيقتنا العفنة التي أخفيناها طويلًا وخدعنا الآخرين بظهورنا بشخصيات مستعارة لا تشبهنا.

(ضفة ثالثة)