رشا عمران: الإهداء الشخصي جسرًا بين الكاتب وقارئه

0

في أول شارع الصالحية  الشهير في دمشق، بالقرب من مسرح الحمرا، كان هناك بائع للكتب المستعملة (لا فكرة لدي إن كان ما زال على قيد الحياة، وإن كان ما يزال هناك من يشتري الكتب في هذا الزمن السوري القاسي) يأتي  كل يوم جمعة صباحًا، حيث المحلات مغلقة يوم الجمعة، وحيث الحركة في الشارع وعلى الرصيف نادرة، فلن تعيق الكتب التي يفردها على الأرض مرور أحد، كنت أسكن في منطقة قريبة من الصالحية، هذا كان يجعل من المشي الصباحي نحوه أمرًا جميلًا، فشوارع الشام يوم الجمعة صباحًا عادة ما تكون ممتعة، هدوء كامل حيث لا ضجيج للسيارات ولا للمارة، إذ قلة أولئك الذين يخرجون من منازلهم قبل صلاة الجمعة،، وبرودة منعشة في الصيف إن كان الطقس صيفًا، ثم هناك فنجان القهوة في مقهى الروضة القريب، كل شيء في طقس يوم الجمعة الصباحي مغر للذهاب لتفقد الجديد من كتب أبو طلال ( أظن أن هذا اسمه على ما أتذكر)، إذ رغم أن الكتب كانت تقريبًا هي نفسها كل يوم جمعة إلا أنه كان واردًا جدًا أن يصدفني وجود كتاب نادر، أو آخر فقدته من مكتبتي، ذاك أن احتمال أن يكون هناك من باع مكتبته أمس أمر وارد، أو مكتبة شخص رحل قبل فترة وأرادت عائلته التخلص من كركبة الكتب، وبائعو الكتب المستعملة كانوا دائمًا في انتظار فرصة كهذه، فتلك سوف تكون واحدة من أكثر الصفقات جذبًا لزبائن الكتب المستعملة.

لم أكن أشتري من أبي طلال سوى كتب نادرة أعرف أنني لن أجدها في المكتبات العامة، لكنني كنت أقصده كل يوم جمعة تقريبًا لأتصفح الصفحات الأولى من الكتب، الصفحة التي تضم الإهداء، سواء الإهداء الشخصي، المكتوب بخط اليد، أو ذاك المعلن للقراء جميعًا، المطبوع مع الكتاب. لدي هذه العادة منذ وعيت على القراءة، محاولة فهم الرابط بين الإهداء ونص الكتاب، بقدر ما كانت تستهويني قراءات الإهداءات الشخصية على الكتب التي تهدى لوالدي. كان والدي شاعرًا، وترأس دوريات ثقافية عدة، هذا يعني أن نصيبه من الإهداءات والإطراءات كان سيكون كبيرًا، ذات يوم في أول شبابي كنت في سهرة (يسارية) تضم كثيرين لا أعرف معظمهم، حين سمعت فجأة حديثًا بين اثنين لا أعرفهما ولا يعرفان من أنا، كان أحدهما يشتم محمد عمران والدي، بطريقة جارحة، صمت وسألت عنه فأخبرني أحد الأصدقاء باسمه وبأنه شاعر يساري معروف، بعد عدة أشهر رأيت كتابًا شعريًا له على مكتب والدي في بيتنا، فتحت الصفحة الأولى لأفاجأ بكتابته إهداء لوالدي متناقض تمامًا مع شتائمه له قبل أشهر. أصبح هذا أمرًا عاديًا لاحقًا، أن أكتشف ازوداجية كثر من مثقفي ذلك الوقت وتقيتهم ونفاقهم، من الإهداءات التي أقرؤها لهم، لكن ذاك حال الغالبية مع كل صاحب سلطة، أليس كذلك؟ ورئيس تحرير أية دورية ثقافية هو صاحب سلطة للأسف، يحدث هذا في كل مكان، فما بالكم في دولة مثل سورية لم يكن فيها دائما سوى منابر قليلة جدا للكتابة!

ذات يوم وأنا اتصفح كتب أبي طلال، لفت نظري ديوان شعر لشاعر أحبه كان ما يزال على قيد الحياة، فتحت الكتاب الذي كان واضحًا أن لا أحد تصفحه من قبل، لأعرف إن كان صاحبه قد أهداه إلى أحد ما، فقرأت الإهداء التالي: (إلى معلمي الشاعر والأديب الكبير………… أرجو أن يجد هذا الكتاب مكانا له دائما في مكتبتك……). كان الشاعر المعلم ما زال أيضًا على قيد الحياة تلك الفترة، واحتمال أنه باع الكتاب لأبي طلال وارد جدًا، إذ كانت تلك واحدة من عاداته التي يعرفها المقربون منه: التخلص من الكتب الشعرية للشباب الذين كانوا يمشون على خطاه في الشعر معتقدين أنه سوف يقرأ ما يكتبون.

في إحدى الدعوات الشعرية في دولة عربية، سألني عامل تنظيف الغرفة ذات يوم وهو يرى كتبا موضوعة في الغرفة: (أستاذة رشا هل تريدين مني التخلص من هذه الكتب؟). استغربت سؤاله فقال إنه معتاد على فعل ذلك مع الكتاب الضيوف، يطلبون منه ومن زملائه التخلص من الكتب التي تهدى إليهم في أمسياتهم، سألته ماذا يفعلون بها هل يلقونها مع المهملات، قال لا: من منا يحب القراءة يأخذها، لكن معظمها يباع لبائعي الكتب المستعملة، كان الفندق الذي أنزل فيه تعتمده وزارة الثقافة في تلك الدولة لبرامجها الثقافية ونزل به أهم الكتاب العرب على مدى سنوات طويلة، تخيلت ماذا سوف تكون ردة فعل كاتب أهدى كتابه إلى كاتب معروف زائر لبلده، حين سيصدف أن يلقى الكتاب المهدى بخط يده إلى ذلك الكاتب على بسطة للكتب المستعملة في مدينته! نعرف جميعًا أن هذا ما يحدث غالبًا ومع ذلك لا أحد منا يتوقف عن إهداء كتبه الصادرة لكاتب آخر عابر أو زائر أو مقيم.

لدي مشكلة في إهداء كتبي للأصدقاء المقربين، أعرف هذا جيدًا، ذاك أن تعبيري عن محبتي لهم نادرًا ما يكون بالكلام، وغالبًا ما أظن أن ما سأكتبه لهم في الإهداء سيكون أقل من مشاعري الحقيقية، لذلك مرات كثيرة تتواجد كتبي لديهم دون إهداءات، إلا لو كنت في حالة من التجلي، عندها أكتب لهم إهداءات أحولها إلى نصوص لاحقًا، (هكذا أستخدم حتى محبتي لكم من أجل الشعر)، أقول لهم ذلك ويضحكون، أن تكتب بخط يدك على كتابك المطبوع بالآلة، والمنسوخ مئات النسخ بآلة أخرى، هو أمر بالغ الحميمية، خصوصًا في وقتنا الحالي، حيث بتنا نكتب نصوصنا على لوحة الكيبورد، ولم يعد القلم والورق الأبيض أساسيين في حياة الكاتب، هذه الحميمية تفترض حميمية مقابلة مع القارئ الذي ستهدي إليه كتابك، أيًا كان هذا القارئ، صديق أو قارئ عابر أو كاتب كبير، أستغرب الاستعلاء الذي يمارسه الكثير من الكتاب في إهداءات كتبهم، خصوصًا في حفلات التواقيع، حيث يكتبون جملة واحدة كما لو أنها ختم شخصي يضعونه على الكتاب: (إلى فلان…….. مع التحية) ثم يوقعون، ومنهم من يضع اسمه ويوقع فقط، دون أي اهتمام بمن هو القارئ الذي أمامه، ما اسمه، من هو، ماهي حيثياته؟ يتذرع البعض بأن وقتهم لا يسمح لهم بكتابة إهداءات لكل قارئ، لا بأس، توقف إذًا عن حفلات التوقيع أو أكمل وأنت تحترم قارئك مثلما تحترم كتابك، هكذا أفهم العلاقة مع من يرغب بالحصول على توقيع مني

وأنا أكتب هذا السرد تذكرت أن معظم إهداءاتي لكتبي بعد خروجي من سورية كانت تتضمن مفردتي الوطن أو العزلة، وهما سؤالان لطالما شغلاني خلال السنوات الماضية، إذ كيف سأكتب إهداء خارجًا عن نصي، أو خارجًا عن حالتي النفسية وعن أسئلتي المتواصلة؟ كيف يمكنني أن أصنع مسافة بيني وبين القارئ وبينه وبين نصي بإهداء محايد وباهت والكتابة أساسًا هي حالة انحياز كاملة، لذاتي ولقارئ ما لي؟ هل يمكنني القول إن الإهداء هو الجسر الصغير الواهي الذي يربط بيني وبين القارئ قبل أن يبدأ بالقراءة؟ ربما في الأغلب، أو هذا على الأقل ما أعتقده، لهذا نادرًا جدًا ما أهديت كتبي لكتاب كبار (من هو الكاتب الكبير؟)، لن يستطيعوا عبور ذلك الجسر، ما سيفعلونه أنهم سوف يضعون كتابي عند أول الجسر ويعودون من غيره، وأنا شخصيًا أتمنى لكتبي مصائر أفضل، أعرف أنها سوف تجدها لدى قارئ عادي، يقرأ بقلبه ويعبر الجسر الواهي وكتابي في يده، دون أن يسقط منه على ناصية رصيف ما.

(ضفة ثالثة)