سمعتُ يوما عن شاعرةٍ عربيةٍ أنها كانت حبيبة محمود درويش. سمعت هذا بعد رحيله. قال لي صديق، هو من المقرّبين لدرويش، “الموضوع مختلق من أساسه، هو غازلها فقط، كما عادته مع النساء الجميلات، وهي تعاملت مع الغزل بوصفه تصريحا بالحب”. هل من شاعرة عربية أو امرأة مهتمة بالشعر لم تحلم يوما أن ما يكتبه درويش مخصص لها وحدها؟ شاعرة شابة جمعني بها نشاط ثقافي في بلد أوروبي، ذكر المترجم، في تقديمه لها، أنها كانت ملهمة درويش. ترجم لنا أحد الأصدقاء ممن يعرفون لغة البلد المستضيف ما تم ذكره في التقديم، فأصابتنا الدهشة، فالشاعرة شابة صغيرة، وحين كان درويش على قيد الحياة كانت هي بين الطفلة والمراهقة.. هل يعقل أن محمود درويش غازل طفلة؟! ولكن لم لا يمكن لهذا أن يحدث؟ سير الشعراء والمبدعين نادرا ما كانت تسير على الصراط، كما أن كلمة غزل واحدة من شاعر كدرويش يمكنها أن تكون “علامة” في ذاكرة مراهقة تكتب الشعر، وترى في درويش قمر الشعر الذي يوزّع نوره على النجوم حوله. شيءٌ ما في محمود درويش يشبه هذا، يستمد المقرّبون منه ضوءا قويا، حتى بعد رحيله. قلة فقط من استطاعت النجاة من هالته، وتفرّدت بعيدا عنه، غالبا ما كان هذا حال الشعراء الكبار.التقيت محمود درويش مرتين، وفي كلتيهما كان لقاء سريعا. لم أكن جميلة لألفت نظره ويغازلني. لهذا ربما تساءلت حين رأيته: لماذا تُعجب به النساء اللواتي أعرفهن إلى هذا الحد، فهو ليس وسيما، وفظ ومتعجرف. هل لو كنت جميلة وغازلني، لكنت اليوم أقارن باقي رجال الأرض به، وأحكي عن غرام لم يكتمل؟ كل شيء وارد في سير الشعراء، الشعراء الفحول الذين يلقون على أكتاف الشاعرات كلمتي غزل، نوعا من “الرفق” ويمضون، بينما نحاول نحن أن نزرع كلامهم كشجرة نحملها على أكتافنا ونكمل حياتنا راضيات. ليتني كنت جميلةً يوم قابلت قمر الشعراء.
بالمناسبة، هل ثمة أي تصريح علني لمحمود درويش يمتدح فيه شاعرة عربية، أقصد يمتدح شعرها لا أنوثتها؟ حكت لي أكثر من شاعرة أنه امتدح شعرها حين التقاها، بيد أنه لم يصرّح بهذا المديح علنا، أو دعوني أقول: أنا لم أقرأ أو أسمع له مديحا بشاعرة عربية. وسأصدّق كل ما تقوله الشاعرات عنه، طالما هو ليس على قيد الحياة لينفي أو يؤكد، ولماذا لا أصدّقهن؟ من قال إن الشعراء الكبار ليسوا هوائيين؟
ثمّة ميلٌ لدى العرب إلى أيقنة الشعراء الكبار، الذين التزموا بقضايا وطنية، الذين رحلوا قبل أن يكشف الربيع العربي حقيقة مواقفهم، الأيقنة التي تنزع عن الشاعر إنسانيته. الشاعر كائنٌ هشّ، مهما ادّعى غير ذلك، هشٌّ وضعيفٌ أمام رغباته وشهواته وغرائزه، هذه الهشاشة الجميلة هي ما يخلق الشعر، لماذا نحاول أن نعصم الشاعر من الخطأ؟ لماذا نريده معقّما ومنزها كما الملاك؟ أصل الشعر الغواية، والشاعر مغوي، لا معقّمٌ ولا معصوم، وغاووه مثلُه، والغواية ضعفٌ جميل، حتى لو كانت نتائجها لا تعجب كثيرين. بابلو نيرودا كانت لديه طفلة معاقة رفض الاعتراف بها. هو الشاعر الثوري العظيم. بيكاسو العظيم حطم مودلياني، ودفعه إلى الانتحار. لماذا نستهجن أن يكون لدرويش ابنةٌ من علاقة ما؟ ولماذا نستهجن أيضا أن يكون هذا الكلام اختلاقا؟ لم أقرأ لسليم بركات أيضا مدحا بشاعرة؟ هو أيضا من فئة الشعراء الفحول العظماء، ربما أكثر فحولةً من درويش. لغته تضج بالفحولة، حتى حين يكتب عن صديقٍ حميم. سليم بركات المبتعد عن اللقاءات والحوارات والمشاركات، المكتفي بخوض حجارة اللغة كما يخوض البحر، يعزّز فحولته باللغة، بينما درويش كان يعزّزها بالحضور الشخصي والصوت، تاركا للغته أن تسيل كماء الأنثى في لحظة الذروة.
ثمّة أسرارٌ كثيرة في سير فحول الشعراء، في رغباتهم، في لا وعيهم، في شهواتهم. ثمّة رغبةٌ في الحضور الدائم، يواربونها على شكل كشف سر، في محاولة للتطهّر. لماذا لا يحق لسليم بركات أيضا أن يشعر برغبة “إمامة” شعراء جيله؟ لماذا نستنكر عليه هذا الضعف، إن كان موجودا؟ لماذا نريده معصوما؟ ثم ما معنى كشف سر صغير في ظل عالم مكشوف بالكامل، حتى في أدقّ تفاصيله، حيث أصبحت مفردة “خصوصية” مجرد مفردة في قاموس لغوي، مثلها مثل مفردة “سر”.
لفتني في إطار الدفاع عن درويش وشتم بركات ما كتبه أحدهم: “يبحث بركات عن الشهرة التي طالما ابتعد عنها درويش”.. يا لهذه الأيقنة!
*العربي الجديد