دهشك حضور الله في مصر، في كل الشرائح المجتمعية، لدى كل الطبقات، بحيث يبدو لك وكأن المصريين هم الذين (اخترعوا فكرة الله)، وليس فقط فكرة التوحيد على يد إخناتون قبل أربعة آلاف سنة، ومصطلح (اختراع الله) رغم ما فيه من تجديف، استخدمته غولدا مائير رئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة في مذكراتها التي ضمها كتاب تحت عنوان (حياتي) ترجم في سبعينيات القرن الماضي إلى العربية، وأصدرته في دمشق هيئة كانت تسمى الإدارة العامة السياسية والعسكرية، على ما أذكر، إذ كتبت في المذكرات جملة تقول فيها: (نقول عن اليهود إنهم شعب الله المختار أما الحقيقة فإن اليهود هم الشعب الذي اخترع الله واختاره). غير أن وجود الله في الحياة المصرية وفي المجتمع المصري سوف يجعلك تسخر من فكرة غولدا مائير، وتسخر من معرفتك بالله قبل حضورك إلى مصر وعيشك فيها، فهو موجود في كل شيء، في كل مكان، في كل لفظ، في كل بيت، في كل نفس، حتى لدى أولئك اللادينيين، ينطقون اسم الله كل دقيقة، حتى لدى الملحدين، يتحول الله لدى المصريين جميعًا إلى كلمة تنطق باللاوعي، وكأن اللاوعي المصري يحتاج إلى من يحمل عن المصريين كتلة الأسى والهموم المتراكمة منذ الأزل. يبدو الله هنا جاهزًا لهذا الحمل الثقيل، بكل لطفه وسعته وتسامحه ورحمته، يلقون همومهم عليه ويمنحهم بدلًا عنها خفة دم (بتاعة ربنا)، حيث كل ما لدى المصريين من طباع وأحداث وحوادث هي (بتاعة ربنا)، هكذا تصبح الحياة أكثر سهولة لتعاش، إذ لولا وجود (ربنا) في أبسط يومياتهم لكان القهر قد أتلف قلوبهم وأرواحهم جميعًا.
غير أنه لا بد من التفريق هنا بين (الله) الموجود لدى عموم الشعب المصري بمختلف فئاته، وبين (الله) الذي يستخدم في السياسة، فأصحاب الثاني، يستخدمونه لقهر الشعب، ويستخدمونه لتكريس السلطة والمصالح والحكم، ويستخدمونه للانتقام من معارضيهم، ويستخدمونه لفرض إيديولوجياتهم على باقي الشعب بافتراض أن هذا الشعب قاصر دينيًا، وأنهم هم الأوصياء عليه، هؤلاء شوهوا في صورة الله لدى العامة المصريين، الصورة اللطيفة المحببة القريبة، لتصبح العلاقة معه علاقة براغماتية تشبه السياسة تماما، (سمعت مرة داعية مصري يتحدث عن الصلاة: “لما عندك مصلحة مع مسؤول حاتروحلوا وانت حامل معاك هدية عشان مصلحتك تمشي، احسبها كده مع ربنا، انت رايح ليك معاه مصلحة هي الجنة، فلازم تاخد له معاك الصلاة والحج هدية). ثمة في هذا الكلام منح مشروعية شرعية للرشوة والفساد، أو لنقل فتوى ربما، لكن متى كانت المؤسسات الدينية في العالم ليست في خدمة النظم الحاكمة وآلياتها في الحكم؟ لم يحدث ذلك سوى في أوروبا عندما أقرت النظام العلماني، ومع ذلك ما زالت الكنيسة تسعى للتدخل في الشؤون السياسية إن أمكن لها ذلك، فكيف الحال في بلادنا التي تتحالف منذ الأزل مع المؤسسات الدينية لقمع الشعوب وتغييبها!
وبقدر ما العلاقة الشعبية لطيفة وبسيطة ومحببة مع الله، بقدر ما هي معقدة مع رسوله الكريم محمد. قد يتسامح المصري مع كفرية يسمعها تتعلق بالله، لكنه لن يتسامح مع ما يخص الإسلام ونبيه محمد، فالله ملك الجميع، أما محمد فهو شأن إسلامي فقط، تعززت تلك الملكية مع ظهور حركات الإسلام السياسي في بدايات القرن الماضي، وتعززت مع استخدام الدعاة لخدمة الأنظمة في ثمانينيات ذلك القرن، هؤلاء الدعاة الذين نجحوا إلى حد ما في خلخلة الوعي المصري الذي كان يفتخر بمصريته القديمة، وبتلك الحضارة العظيمة التي أذهلت البشرية، حدثت محاولات حثيثة لإنتزاع ذلك التاريخ من لاوعي المصريين. قال لي سائق أجرة ذات مرة: “هم الفراعنة دول مش لازم يندفنوا عشان ربنا يحاسبهم يوم القيامة؟”. كان يحتج على نقل المومياءات إلى متحف الحضارة، فالمومياءات يجب أن تدفن. هكذا يروج دعاة الدين في بعض الجوامع كما فهمت، وهذا ليس سوى محاولة لطمس التاريخ المصري القديم، انتصارًا لدين محمد كما يعتقدون، وللأسف يبدأ التاريخ المصري لدى الكثير من المصريين مع عمرو بن العاص، ولدى آخرين مع صلاح الدين الأيوبي الذي حول التنوع المصري إلى مذهب واحد ووحيد، وجعل من أقباط مصر أقلية تشعر بالتهديد دائمًا. أما التاريخ المصري ما قبل الإسلام، فيشبه لدى بعض المصريين تاريخ الجزيرة العربية ما قبل الإسلام: جاهلي، ويجب أن يتم السكوت عنه، لولا أن عظمة الحضارة المصرية القديمة كانت دائما عصية على محاولات طمسها.
لا يشعر المصريون (باستثناء بقايا القوميين والناصريين) أنهم عرب أيضًا، فالعروبة في الوعي الشعبي المصري مرتبطة بالإسلام، هذا ما يفسر التشابه الكبير في الأسماء المصرية، خصوصًا مع اعتماد اسم الأب كاسم ثان، (في بلاد الشام يستخدم اسم العائلة أو لقبها كإسم ثان)، واضطرارهم إلى استخدام الإسم الثلاثي أو الرباعي في الأوراق الرسمية، فالأسماء في أغلبها هي اسماء إسلامية، عربية لكن إسلامية، قيل لي أن أسماء الإناث التي لا تدل على الدين تم اعتمادها ليس من وقت بعيد. طبعًا لأسماء الله الحسنى ولأسماء آل البيت النصيب الأكبر في الأسماء المصرية، حتى أن هناك مبالغة في هذه الإحالة الدينية في الأسماء، إذ أظن أن المصريين وحدهم بين العرب من يسمون (محمدين وحسنين وعوضين.. إلخ)، في ذات الوقت تستطيع أن تعرف القبطي من اسمه أيضًا، إذ من النادر أن يسمي قبطي ابنه باسم عربي، الأسماء العربية الفصحى لدى الأقباط فيها دلالة ما على صفات المسيح، وطبعًا الكلام دائمًا عن عموم المصريين، ثمة استثناءات لدى النخب سواء الفكرية أو الإقتصادية، (في بلاد الشام والعراق ثمة حضور للأسماء العربية الفصحى غير الدالة على دين معين لدى جميع الطوائف والقوميات، لكن ذلك قبل الحروب الأهلية التي صارت سمة من سمات بلاد الشام والعراق).
حين انتقلت للعيش في مصر كان أول ما لفت نظري أسماء المحلات التجارية، فهي مقسومة فعلًا بين الأسماء الدالة على الدين الإسلامي والأسماء الأجنبية، كل ما هو عربي في أسماء المحلات مرتبط بالإسلام، وهذه كما أسلفنا، واحدة من إشكاليات المجتمع المصري، ربط العروبة بالإسلام، والتي باتت مشكلة عربية ولم تعد محصورة في المجتمع المصري، خصوصًا بعد افتراقات الربيع العربي وصعود تيارات الإسلام السياسي والجهادي إلى الواجهة، واستعادة أحلام الخلافة الإسلامية، وهو ما ترك أثرًا رجعيًا على اللغة التي عادت لتصبح لغة مقعرة قرآنية، لا قاموسية فقط، حتى في المنطوق اليومي، بعد أن كانت قد بدأت تتخفف وتستورد مفردات جديدة تتناسب مع استخدام الشباب العربي لوسائل الإتصالات والتقنيات الحديثة، غير أن المظلومية (الإسلامية) التي ارتفع منسوبها مع بدايات القرن الواحد والعشرين ومع الربيع العربي، نسفت الخط الفارق بين العروبة والإسلام، حتى في اللغة، مثلما نسفت محاولات تطوير اللغة العربية نفسها، استعادت اللغة العربية أسلوبها الإسلامي القرآني، ورغم أن لغة القرآن الكريم هي لغة قريش ما قبل الإسلام، أو قريش (الجاهلية)، إلا أنه من الصعب إقناع الإسلاميين بهذا، فاللغة العربية لهم هي لغة الإسلام، يستخدمون منها ما يدل على ذلك فقط.
وربما من الأهمية الإشارة إلى أن كل ما سبق يظهر أكثر ما يظهر لدى الطبقات الوسطى، أي الطبقات التي يفترض أنها حاملة لأية عملية تغيير مجتمعية وثقافية، بيد أن التغيير تم في في الطبقة نفسها، حيث بدأت الطبقات الوسطى تتراجع وفي طريقها إلى الفناء، بعد أن تم استهداف قيمها عبر توجيه الخطاب الدعوي لها تحديدا، ومن بقي منها صامدًا بدأ (يغترب) في لغته وسلوكه، محاولة منه لمقاومة الانهيار والتمسك بأذيال الطبقات البرجوازية، خصوصًا أن التعليم الحكومي في بلداننا بات صنوًا للتخلف، وأصبح التعليم الخاص باللغة الإنكليزية أو الفرنسية هو البديل الوحيد لمستقبل مضمون. هل استطاع الربيع العربي، في مصر تحديدًا، كونها هي المثال الذي تقتفي أثره كل المجتعات العربية، التأثير على مصير الطبقات الوسطى وعلاقتها مع اللغة ومع الدين الإسلامي؟! للأسف حتى الآن لا يبدو الجواب في صالح مجتمعاتنا، ولكن من قال إن سيرورة الزمن ستتوقف حيث هي الآن!
(ضفة ثالثة)