تحت طائلة ألا تستوي الكتابة عن النبي الحكيم، نشأت مجد النور، مع كمّ الظُّرف والحبور الذي بثته هذه الشخصية في السوشال ميديا اللبنانية مؤخراً، يبدو مغرياً النظر في تلك الفيديوهات التي تستحق وصفها بالروحانية كونها تردّ الروح ضاحكةً متخففة. وإن كان ثمة ما يُقال في ما بَعد الكوميديا، رغم فضيلة الاكتفاء بالفرفشة كمؤنِسَة هذه الأيام الصعبة، فهو أن المعلّم نشأت، عن جدارة، نبي من هذا الزمان.
فمن الأنبياء مَن هدم أصناماً وهياكل، وهو النبي الذي هدم “الجدار الرابع”، مثلما شقّ موسى البحر بعصاه، وضاعف المسيح السمك والنبيذ، وجاء محمد الأمّي بالقرآن الفصيح.
هو الجدار الوهمي الذي، بتعابير أهل المسرح، ينتصب بين المؤدين على الخشبة، وبين الجمهور. يستطيع المتفرج رؤية العرض عبر الجدار، من زمانه ومكانه، متصلاً بأزمنة الشخصيات المسرحية وأمكنتها. فيما لا يملك الممثلون اختراق العازل الشفاف، وإن فعلوا، فبقرار درامي. والنبي نشأت، عمداً أو بسليقة كاريكاتورية ما، نسف هذا الحائط الوهمي “من لغاليغو”… خدمةً للحقيقة. الحقيقة التي نطق بها. ومنطوقه لم يُجافِ واقع الانهيار والإفلاس. بالـparody الكاملة جاءنا، منسجماً مع اللامعقول المُعاش، حدّ التطابق.
نبوّته هكذا، بسيطة، نزقة. فانتازيتها المجلوبة من “علي اكسبرس”، مركّبة بطريقة “أبصق وألصق” من أفلام خيال علمي ورسوم متحركة، و”كومبو” الروايات الدينية نفسها التي يخشع أمامها المؤمنون رغم أنها لا تملك قيمة مضافة في المصداقية، بل قد تتقهقر إلى المركز العاشر في مسابقة الترويح عن النفوس الضائقة.
تعاليم نشأت السوريالية، بالغة الجدّية والصرامة. لكنها ليست ثقل ميشال حايك، ولا هذر مريم نور، ولا حتى غرابة مايك فغالي الذي حمل هو أيضاً صولجاناً وتدثّر ببُردة مذهّبة ولم يتوانَ الإعلاميون عن استضافته والمشاهدون عن متابعته.
لا أثر يُرى هنا لتسريبات أجهزة أمنية، ولا لاستثمار في سوق العرافين ربّيح الملايين. بل تماسُك النكتة المسبوكة بشدة افتضاحها، إذ تُرمى في أحضان المتفرجين كرُزم من المرح، مُوَضِّبها من النوع الذي لا يمزح في عمله. يتكئ على اللامنطق، الهوائي، المبعثر، منزوع البراغي. تماماً كالهذيان الذي تُدار به الأزمة اللبنانية، ويعجز الناس أمامه إلا عن الضحك… مع فارق أن فيديوهات النبي آخر العنقود، تسلية صافية نظيفة، ولا أحد يموت فعلاً من الضحك، بل في التفجيرات وعلى أبواب المستشفيات.
ليس مهماً على الإطلاق التأكد إن كان الرجل مقتنعاً بشخصيته الفائقة، أو ممثّلاً أو صاحب مخطط جهنمي لحصد المتابعين وربما الإعلانات الالكترونية. هل يتلبس النبوّة من كل عقله، بمكياج الرموز على وجهه، ولبوس الطوطم والكهنوت مع عصا الستارة في يده؟ لعلها المعرفة الوحيدة في الكوكب الآن التي لا ضرورة لها، بل لا حكمة في السعي إليها. ذلك أنه، عليه السلام، تفوّق بالأصالة على كل البرامج الكوميدية المتفاقسة حالياً في التلفزيونات والانترنت، حتى تلك التي خصصت له فقرات ساخرة.
نبي هذا الزمان واثق من نفسه، رغم كل شيء. بل إنه لا يتسامح مع منتقديه والساخرين. وبّخ معلّقين ومغردين مصريين شتموه وتنمروا عليه. وعدهم بزلزال، وحظرهم من صفحاته الاجتماعية. والحق أن المزاج الأعم من التعليقات المصرية تراوح بين الاندهاش والاستغفار على خلفية إسلامية إزاء ظهور “نصاب” و”مدّعي نبوة”، وبين البلطجة المباشرة بالسباب، ومعايرته بأنه كان طبالاً (فماذا عن أنبياء كانوا صيادين ونجارين ورعاة غنم؟)، مع وعيد جنسي سفيه. وكأن نشأت، على غرار المُرسَلين من حيث لا يدرون ولا يفقهون، كشف مُصابَ الثقافة المصرية السائدة في أعز ما تملك: ذكاء النكتة. أما اللبنانيون، الذين تمتلئ شاشاتهم الحزبية وتقاريرهم الإخبارية الرصينة بمعجزات القديسين الشفائية، والملائكة التي حاربت مع مجاهديهم ضد إسرائيل، إضافة إلى مشاهير المنجمين والمتنبئين، فقد ذكّرهم نشأت بأن كل الأنبياء “لم يقبضهم” أحد في البداية، ثم استمروا، ومشى الحال.
يقول نشأت لأحدهم: “البسين اللي عندي متطور روحياً أكثر منك، بدرجة ثلاثة”. ذلك أن الوعي، بحسبه، يتفاوت لدى المخلوقات، بين ما دون الصفر، والدرجة خمسة التي حققها هو أسوة بأسلافه من الرّسل وكتبهم. وهو، بكل ألقه على الشاشة، وكل اتزانه الفكري والروحي، المعلّم والمخلّص وهدية الله للبنانيين والعرب. والحال إننا لم نسمع أو نرَ، منذ عامين إلى اليوم، أصدق من ذلك.
نفكّر في ميشال عون وحسن نصرالله، في عبدالفتاح السيسي وبشار الأسد وعلي خامنئي وقيس سعيّد… ونشأت أيضاً يفكّر فيهم، ويتوقع لهم نقلات نوعية وإنجازات، بل يدعم بعضاً منهم. إذ يلزم المثال مثيلاً ليتعرّف عليه. وهو “الفرصة الأخيرة” لإنقاذ البشر، بعدما عاش في كوكب الزهرة، وقابل أصدقاء من أكوان وكواكب أخرى. وفي خطابه الأثير، يجعل حارس جهنم أعلى سلطة من الله. إذ تحدث عن قديس دخل النار، فاستدعى الله للكلام معه، ولما جاء وأخبره بذنبه وسامحه الله، رفض حارس جهنم إخراجه منها، قبل أن يستجيب الحارس لاحقاً لـ”وساطات من السماء” ويرضى بخروجه منها مقابل أن يتناول بضع كتل من النار، فيعود إلى الحياة، شرط أن يصبح نباتياً. أي، بقول آخر، أن يزرع الخضار في الشرفة، ويشدّ الحزام، ويا حبذا لو تخلى عن أكل البَيض الغالي على قلب الشيطان… فالحق الحق يقول لنا النبي.
*المدن