كان موقفاً غريباً ذاك الذي واجهناه في “المدن”، أمس، مع إعلان وفاة الكاتبة والمناضلة النسوية المصرية، نوال السعداوي، التي فاض تأثيرها عن وطنها الأم لينتشر في العالم العربي، وأبعَد. إذ لم تنجح اتصالاتنا بعدد من الكتّاب والكاتبات في مصر للحصول على نصوص تستعيد التجربة الغنية والشائكة للراحلة، بالشكل الصحافي والثقافي اللائق، بمعنى تكريمها، من دون إغفال أهمية الاشتباك نقدياً مع تَرِكَتها على اعتبار أن وفاة صانعي/ات الظواهر الفكرية والنضالية لا يصحّ فيها ما يصحّ في الآخرين من مقولة “اذكروا محاسن موتاكم”، إذ أن هؤلاء، فعلياً، لا يموتون، بل يبقى إرثهم مرجعيةً نابضة يُفترض أن تستكمل “حياتها” وتطوّرها من بعدهم، بالنقاش وإعادة القراءة بعَين الزمن وجريانه ومتغيراته. والحقيقة أن ضيق الوقت الذي تفرضه مثل هذه الكتابات المناسباتية/الحدثية، لم يكن السبب الأقوى لاعتذار الكثير ممن تواصلنا معهم. بل الحيرة، وربما الحرج. فالهجمة الشامتة التي نفذتها مجموعات عريضة من الإسلاميين، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أمس، في وفاة “الأرشانة الملحدة البشعة” التي لطالما حاربت الحجاب وما سمّته “تحالف الدين والرأسالمية الحديثة” وحتى “خرافات” الطقوس والعبادات، وما بعد الموت من جنّة ونار أصرّت على أنهما صورتان رمزيتان،… جعلت الكثيرين من أهل الثقافة والعمل الحقوقي والمدافعين عن النساء والمساواة والديموقراطية، يستنكفون. فلا هم يريدون حصر رثاء السعداوي في مديح تستحقه. ولا يرضيهم، في الوقت نفسه، أن يستفيد خطاب الظلاميين والمتعصبين الجَهَلة، من تفنيدهم النقدي لمسيرة السعداوي، لا سيما في مضمارَي السياسة والنسوية.
هكذا، بدت نوال السعداوي مفصلاً إشكالياً في مماتها، كما في حياتها. يتكثّف فيها المأزق المصري خصوصاً والعربي عموماً (نفكّر في تونس وسوريا وليبيا على سبيل المثال لا الحصر). فالطبيبة الحديدية المتمردة، الحائزة على افتتان ملايين النساء والرجال إلى درجة الهالة القدسية، دفعت بالفعل أثماناً باهظة لأفكارها ومواقفها. بدءاً من مناهضة ختان الإناث الذي اختبرته شخصياً في سن السادسة، والأفكار الراسخة حول العذرية وغشاء البكارة، مروراً بمساواة المرأة بالرجل في الميراث (مع ما يعنيه ذلك من خطورة منازعة النص القرآني في بلد مثل مصر)، وصولاً إلى رفض الحجاب، وآرائها الجندرية التقدمية في الزواج والإنجاب وأهمية الاستقلالية المالية للنساء. والأبرز من هذا كله بالطبع، درّة تاج المحرَّمات، أي “المرأة والجنس”، الكتاب الذي تداولته أجيال كبضاعة سرية وممنوعة، شيّقة ومؤثرة ومُغيّرة عقول وحيوات، واعتُبر أحد النصوص التأسيسية للموجة النسوية الثانية عربياً والتي قامت على شعار “الشخصي هو أيضاً سياسي”، كما على مفاهيم الترابط الوثيق بين الثقافة والسياسة في بُنى السلطة. خسرت السعداوي عملها في وزارة الصحة وعضويتها في مجلس نقابة الأطباء، وسُجنت إثر إعلانها معارضتها لاتفاقية كامب ديفيد أيام السادات، وحوربت أيام مبارك حينما جاهرت برفضها حرب الخليج الثانية، كما نجت من قضية “حسبة” لتفريقها عن زوجها ومن قضية أخرى لإسقاط الجنسية المصرية عنها. لكنها، في مقابل ذلك كله، نالت اعترافاً عالمياً، وتُرجمت كتبها إلى عشرات اللغات، استضافتها منصات إعلامية كبرى واستعانت بها منظمات الأمم المتحدة، كما ألقت محاضرات في جامعات من مستوى هارفرد وكولومبيا والسوربون.
غير أن منعطفَين أساسيين، وتحت مظلة الجيل الذي تنتمي إليه السعداوي (1931-2021) وتركيبة شخصيتها، شكّلا الحيرة/الحرج في تطويبها أيقونة كاملة، بل وصاغا الجدل الذي استعر في مواقع التواصل أمس، بصرف النظر عن ثأرية الإسلاميين، وهما: ثورة يناير، وتطور الممارسة النسوية المعاصرة.
يعلم كل من تابع تصريحات السعداوي، خلال السنوات العشر الأخيرة، كيف أنها صدّرت خطاباً هذيانياً عن المؤامرة الغربية الامبريالية على مصر والعرب. العدو، في نظرها، لا يحيد عن التيارات الإسلامية. والثورة، التي شاركت شخصياً في ميادينها، “مُجهضة” بفعل القوى هذه فقط، وهي التي “رأت” وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك، هيلاري كلينتون، في “ميدان التحرير”، تحث المتظاهرين على انتخاب الإخوان المسلمين والسلفيين. الإعلام الأميركي والبريطاني والإسرائيلي، حسب قولها، ينقل ما يريد، وليس حقيقة ما يحصل في مصر، و”الأجندة” هي تشويه صورة عبدالفتاح السيسي “على أنه ديكتاتور”،رغم أنه “فعل أشياء عظيمة للبلد، وعهده أفضل من عهدَي السادات ومبارك”. حتى الانتخابات، في رأيها، ليست معياراً للديموقراطية، بدليل دونالد ترامب الذي صار رئيساً “ضد إرادة الشعب الأميركي”، وباراك أوباما الذي موّل حملته الانتخابية من “وول ستريت”، أي “من التجار الحرامية”…
أما في القضية النسوية، فثمة إنجازات لا يستهان بها في مصر، ساهمت فيها السعداوي أو ألهمت مُحرزيها، وكان آخرها ما تحقق يوم وفاتها، بموافقة مجلس الشيوخ على مشروع قانون تغليظ عقوبة ختان الإناث في قانون العقوبات نهائياً. إضافة إلى رفضها ممارسات النظام الذي تمتدحه، في “الكشف عن العذرية”، وكونها حجر أساس أجندات التيار النسوي المصري والعربي، ومطالبه، حتى اليوم، لا سيما في مجال الأحوال الشخصية والجرائم والتمييز ضد النساء. لكنها، في الوقت نفسه صعّبت حراك هذا التيار ومراكماته على الأرض. فهي لطالما أصرّت على حلول جذرية في مواضيع، يرى ناشطون/ات وحقوقيون/ات، أنها لا بد أن تأخذ وقتها وأن يُجيَّش لها ما أمكن من قوى المجتمع. صريحة وفائقة التشبث بخطابها الأحادي والصِّدامي، لا سيما مع المؤسسات الدينية، وهو ما لا تستطيع المنظمات المعنية بحقوق النساء التعامل به ضمن مجتمع مثل المجتمع المصري، وهي منظمات ومجموعات تحتاج أحياناً إلى التعاون مع رجال دين مستنيرين لتحقيق أهدافها بالتدريج وبشكل مستدام، وهذه براغماتية لا تسهلها استراتيجية الصدمة السعداوية التي تتحول أحياناً إلى وصمة للنشاط النسوي تعيق تقدّمه. “كانت شخصية من الصعب تدجينها في مؤسسة، وهذا نوع من الشخصيات يتميز بالذكاء والإبداع، لكن أيضاً بالنرجسية”، تقول حقوقية نسوية مصرية “للمدن”، وتضيف: “نحن الذين نعمل على الأرض، بتنا مستعدين للعمل مع الجميع، وفق الجزئيات التي نتفق معهم عليها، لكن الراحلة كانت تحتقر كل من لا يأخذ المنظومة كاملة، الرؤية الأحادية والخطاب الحادّ”.
والحال، إن نوال السعداوي كانت الثائرة مدى الحياة، حفرت وكسّرت الكثير في المنظومة الذكورية والأبوية، كتابةً وعملاً وخطاباً، وثمة الكثير ليشكرها عليه جيلان أو ثلاثة في أنحاء العالم العربي. وفي المقابل، استساغت الاستبداد السياسي والأمني والعسكري، طالما أنه يرفع فزاعات “الإسلاميين” ويدّعي العروبة والمصروية، ولو بالشعبوية. كما استهوتها نظرية المؤامرة (التي فاقمَها السنّ)، أسوة بالكثير من النخب العربية التي ما زالت تربكها “تناقضات” التحرر والديموقراطية، و”ثنائية” العدالة الجندرية والمساواة السياسية والاجتماعية. ولذلك تستحق اليوم تحية عارمة وانحناءة تكريم وداعي… مع الكثير من الاستعادة النقدية الرصينة التي تفي تاريخها حقه، وتفيد مساراً تغييرياً سيكمل، بدلاً من أن تفيد المستبد.
*المدن