ما زال السوشال ميديا اللبناني، منذ الأمس، يتناقل تغريدة “الناشطة العَونية” دانييل خواجة، بكثير من الدهشة والاشمئزاز. إذ أفرغت خواجة في “تويتر”، واحدة من أكثر الانحطاطات الممثِّلة لطريقة التفكير العونية: “شو منعملك إذا بكسروان من كل 10 في 8 متعلمين وبيفهموا، وبطرابلس من كل 100 في نص واحد بيفهم؟” (وفي حسابها نفسه صورة لها تتلقى اللقاح المضاد لكورونا على يد ممرضة محجبة!).
إنها خلاصة خطاب الكراهية بمعايير طائفية ومناطقية وطبقية لا يملكها، بكل هذا الكمال والصفاء، إلا عَوني أصيل، ومن قماشة الوزير شربل وهبي (الخليج أهل البدو)، والنائب ماريو عون (لماذا تأكل الحرائق غابات المناطق المسيحية دون المسلمة؟)، والطبيب الحزبي ناجي حايك (جيسيكا عازار ستتزوج مسلماً!)، والملحن سمير صفير (قبل اعتقاله في السعودية)، بل ورئيس التيار العوني نفسه، مُناكف رئيس الحكومة الأول، والمرشح الدائم لوراثة رئاسة الجمهورية جبران باسيل (عنصريون بلبنانيتنا)، واللائحة تطول.
وإن تساءل واحدنا عن منبع استهوال تغريدة دانييل، لدى مَن يحفظون “الجدلية” العونية عن ظهر قلب، وقد أزكمت أبخرتها أنوفهم منذ ما قبل تولي ميشال عون رئاسة الجمهورية وحتى اللحظة، فلعل الجواب البسيط هو: لا يعتاد هذا الحدّ من القماءة، ويتوقف عن ذهوله إزاءها، سوى فاقد السويّة العقلية أو فطرة الحسّ البشري. وهذا ليس للقول بأن بقية جماهير الطوائف والأحزاب تستقي خطاباتها من كتيبات الإتيكيت والصواب، لكن الفرق ربما يكمن في أن الكراهية تبدو عنصراً جوهرياً وسِمَةً طاغية في “العقيدة العونية”، تتبدّى بمختلف الجرعات والصّيغ على ألسنة الجميع، من أعلى الهرم إلى سافل أسفله.
وإن أضفنا إلى الظاهرة العونية المزمنة، حملات الجيوش الإلكترونية التي باتت الأحزاب والطوائف والزعامات اللبنانية تعدّها، علانية وبكل فخر، لترويج أفكارها وأخبارها المضللة والدفاع عنها في المعارك الافتراضية كما في الشارع،.. وإن نظرنا، بموازاة ذلك، إلى دور الشبكات الاجتماعية في التحشيد لخطاب مناهض لهؤلاء، سواء خلال ثورة 17 تشرين في عزها قبل إحباطها الكترونياً وأرضياً، أو فضح المتحرشين والضغط على الأجهزة المعنية لمحاسبتهم، أو التضامن الناجح غالباً في حصر أضرار الاستدعاءات الأمنية لصحافيين ومدوّنين،… كل هذا سيظهّر الفضاء السياسي الإلكتروني في لبنان بشكل فوضوي، تتداخل فيه تعريفات الناشط أو المُناصِر (الساعي إلى التغيير) مع المحرِّض الفئوي. والديموقراطية بمعنى الفرص الأفقية للتعبير والمعطاة نظرياً للجميع، مع أسئلة بشأن الأصوات المستفيدة فعلاً من هذه الحرية وتلك التي تبقى مهمشة.
العُقدة عالمية بلا شك، نذكُر منها: جيوش بوتين وترامب الإلكترونية، أداء مارك زوكربيرغ الفايسبوكي منذ اندلاع انتفاضة القدس الأخيرة وما واجهته من مقاومة بالاستنكار والتبليغات وكسر اللغة لنصرة الفلسطينيين، ولا تُنسى استفادات الأنظمة العربية القمعية من الفضاء الالكتروني نفسه الذي اعتُبر عراب الربيع العربي وتردداته المستمرة إلى اليوم. والحال، إن التخلص من كبار “الأشرار”، وأقرانهم بصُورهم المصغرة في السياق اللبناني، لن يحتّم استعادة اليوتوبيا الإنترنتية التي سادت صورتها قبل 10 سنوات أو 20 سنة. وذلك، على ما يبدو، بسبب الميل العام للإنترنت لتزكية الأصوات المهيمنة في الأصل، والإبقاء على تهميش المهمشين، بالمعنى الطبقي، والثقافي الاجتماعي، وحتى في تراتبيات النخبة (أقلياتها اللبنانية مثلاً من علمانيين وليبراليين وديموقراطيين في مقابل نُخب السلطة والأحزاب والمصارف والبزنس).
فإن حصل وكان أصحاب هذه “الحظوة” مؤيدين لفكرة ديموقراطية ما، فإنهم يفرضونها في المجال الافتراضي، ويحصل أن تنعكس آثار ذلك في الواقع السياسي أو الاجتماعي. والمقصود بالحظوة، الطبقة الاجتماعية الوسطى والعليا، وأصحاب رأس المال الثقافي والاجتماعي الذي يؤدي دور شبكة أمان حامية ودافعة وممتصّة للصدمات. فإمكانية استخدام الانترنت وأجهزته، ومراكمة الخبرات الالكترونية وتقنيات التوسّع والتداول، ليست في متناول الجميع. ومن هنا نرى كيف أن التجارب الناجحة في هذا المثال اشتملت على مشاركة “المحظيين” والمؤسسات ذات الثقل والنفوذ والمقدّرات المادية والإيديولوجية (نفكر هنا مجدداً بحملات MeToo وأشباهها، بالقضية الفلسطينية العائدة إلى مركز الاهتمام، والربيع العربي). أما المنحدر السحيق في مواجهة النجاحات هذه، فهي من عينة السيدة دانييل خواجة، والتي تثبت أن النهج السائد (مواربةً أو بوضوح وقح) في الحياة العامة اللبنانية، يتمظهر هو نفسه في فضاء “الناشطين” الإلكتروني. فالمعبّرون عن الخطاب الترياق لخطاب “كسروان باطحة طرابلس” إما لا يحظون بالانتشار (الموافق أو الرافض) الذي حظيت به دانييل. وإما أنهم، في حال حققوا هذا الانتشار، يُلاحَقون ويُستدعَون للتحقيق ويتعرضون للمضايقات والتهديد والترهيب.. وما زالت عائلة الزميلة مريم سيف الدين تعيش هذه المعاناة على مرأى ومسمع اللبنانيين جميعاً، في بيت العائلة في الضاحية الجنوبية لبيروت، كما في بحور الشبكات الاجتماعية المتنمّرة، رغم الجزر المضيئة بالتضامن.
*المدن