رشا الأطرش: فنجان قهوة مع الشخص المسيحي

0

لو تجسّد المزاج المسيحي اللبناني العام، في شخص واحد، فكيف تُفهَم ذهنيته؟ كيف يفكّر، وما الذي يتحمس له، ويريده؟ وكيف يرى تحقيقه؟ ما الذي يخيفه؟ لعلنا ندعوه إلى فنجان قهوة ونحاول التعرف عليه… هو الذي نشأ وتربّى على فكرة أنه بذرة لبنان الحقيقي، لبنان الرسالة (أياً كان معنى هذا الهذر)، الانفتاح، الثقافة، وجاهة الكفاءات المُصدَّرة إلى الخارج، صلب السياحات الاستشفائية والفنية والدينية والجامعية…

لا يهم مدى دقة التصور هذا، ومدى استمرار انطباقه حالياً على الخرافة اللبنانية المضمحلة، طالما أنه تصوّر ما زال موجوداً وحياً، رغم التشوهات.

هذا “الشخص” لا يُحسَد على المشهد الذي يواجهه كل يوم ويطالبه بموقف، سواء في الانتخابات العتيدة أو السوشال ميديا، أمام قصر العدل وبكركي، كما أمام المستشفى المهترئ الذي يطالبه بالدولار الفريش قبل تأميناته، وأمام المدرسة المتهالكة حيث ما عاد أبناؤه يتلقون التعليم الذي كان رسخ في مخيلته أنه، ذات يوم، كان قد أهَّلَ أعمامهم وأخوالهم لشيء من ذاك الحلم الذي احتُفل مؤخراً بمئويته الأولى.

“شخص” يعتبر تفجير المرفأ قضيته، وأحياناً كأنه وحده ضحيتها، نكبته الدموية والاجتماعية المضافة إلى أقلويته المهجوسة بنسف حصتها من النصف إلى الثلث، وخراب كل شيء في “بلده” المُسمّى عليه، والمصارف والوكالات التجارية التي كانت لعبته وسُحب بساطها من تحته فجأة، وصولاً حتى إلى تدمير طُرق هجرته المطوّبة باسمه منذ عقود. يخيفه الآخر، المُسلم، الفلسطيني، السوري… الخوف الأصيل المتوارَث، المَرَضِيّ ربما، لكنه حالة نفسية/ثقافية/سياسية لا يمكن إنكارها، بل لا يمكن التغاضي عن توافرها لقمة سائغة للاستغلال، سواء من القوى المسيحية اللبنانية، أو سائر القوى الطائفية السياسية. “الشخص” يدرك ذلك، على الأرجح، غير أنه لا يملك مقاومة انخراطه في المسرحيات.

“الشخص” السني والشيعي والدرزي، ليس أفضل حالاً بكثير. بين الأول التائه في زعاماته المبعثرة وإحباطه المتعاظم منذ اغتيال رفيق الحريري. والثاني الذي لا يجد له ملاذاً حيوياً، في خضم الأزمة، سوى حركة وحزب، مهما اختلف عنهما ومعهما، ومهما قاما بتدليعه على حساب “أخوته” أو ظلماه أو حتى قتلاه، وهما محترفَا فساد واستقواء وألعاب أمنية، دراجات نارية شبيحة وهيمنة إيديولوجية تطلب الولاء الكامل وإلا… والثالث، الرابض في محمياته الصغيرة، حافظاً رأسه وكيانه الضئيل الذي لا يستطيع الكثير، وأسمى إنجازاته البقاء وحفظ النوع.

المأساة التي يعيشها لبنان راهناً ترخي بظلالها على الجميع، لكن الجميع ليسوا متشابهين في مقارباتهم لها، والقضايا الأساسية المطروحة الآن في البلد، وقبلها تحولاته البائسة، تجعل “الشخص” المسيحي معضلة تستحق التأمل، بين مظلومية ووقاحة، شبح اندثار ونهج استحواذ يفشل وينجح. فيما ممثلوه الآخرون من أحزاب وشخصيات سياسية وروحية سقفهم البيانات وتجمعات صغيرة ضد “الاحتلال الإيراني” أو دعماً “للقضاة الشرفاء” و”طلباً للعدالة” في ملف الطيونة وأشباهه الكثر، وهم أضعف من إخراج المعتقلين من أبناء الطيونة من السجن، وجلّ قوتهم تمظهر في الدفاع عن حي سكني بالقرب من قصر العدل ضد مسلحين وشبيحة مناهضين للتحقيق في جريمة المرفأ، والمطالبة بمشاركة كثيفة في انتخابات نيابية لا أحد يعلم إن كانت ستُجرى وكيف.

وقبل التوقف عند العرض الهزلي الذي تمحورت حوله كلمة ميشال عون، الإثنين، وصولاً إلى الأكاذيب المستفِزة المتوقعة في كلمة جبران باسيل بعد رأس السنة، والتي يُتداول أنه، قبلها وبعدها، ينسق مع “حزب الله” في ما سيقال وما لن يقال… يبدو لافتاً خبرٌ “بسيط” لم يلتفت إليه الإعلام كثيراً، لكنه مُحمّل بالدلالات، ويقول الكثير، كونه ببساطة يدور حول اسم خارجي مليء بالرمزية، سهل الفضح، وبالتالي يغط في الوحل الداخلي مزوداً بكشّافات ضوئية: البطريرك بشارة الراعي والرئيس ميشال عون والنائب جبران باسيل، استقبلوا بحفاوة زائراً مسيحياً عراقياً هو أمين عام حركة “بابليون” العراقية، ريان الكلداني، الذي تزعّم مليشيا ضمن قوات “الحشد الشعبي” الشهير، منذ العام 2014، بدعوى قتال “داعش” في العراق. والأهم أنه، منذ العام 2019، مُدرَج في لائحة “الإرهاب” وفي لائحة العقوبات الخاصة بالخزانة الأميركية، وجُمّدت أصوله المالية “بسبب ارتكابه انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان”… وتنتشر في الانترنت مقاطع فيديو يقال إنه هو الذي يظهر فيها قطعاً أُذُن أحد الأسرى لدى المليشيا التابعة له.

هذا الكلداني، الذي وصل، وبعض رجاله، إلى مقاعد البرلمان العراقي، تُطرح معه قضايا “التعاون المشرقي المسيحي”، ومعه يتم تبادل التجارب والخبرات السياسية والحزبية والنيابية، وتُرمى في حضنه اقتراحات جدية لتعاون اقتصادي وبزنس، وتناقَش في حضرته عناوين الصمود والعلاقات الندية بين مسيحيي الشرق ومحيطهم، ويُشكَر على “مساعدته” الإنسانية والاجتماعية لعراقيين في لبنان!

هل يستحي “الشخص” المسيحي بهكذا خبر؟ أم يغتبط لحنكة قياداته المتشبثة، غصباً عنه أحياناً، بأعلى منصب لطائفته في الدولة؟ أم أنه لا شيء يبرز فاقعاً في صحن السَّلَطَة اللبنانية، حين يكون المُضيف أصلاً مُعاقَباً بدعوى الفساد، وحليفاً لحزبٍ مُعاقَبٍ بدوره ومصنّفٍ إرهابياً ومُشاركٍ مباشر في مقتلات سورية وعراقية ويمنية؟

وكيف يشعر “الشخص” المعني حين يُدرك، إن أدرَك، أن مُمثّله في مؤسسة الرئاسة، ذاك الذي يزعم التمسك بحقوق المسيحيين وأهالي ضحايا المرفأ، يناور، مع حليفه “حزب الله”، من أجل واحدة بواحدة: تطيير الانتخابات أو لَجمها إذ لا يُتوقع أن تأتي نتائجها في مصلحته، في مقابل تطيير التحقيقات العدلية في تفجير المرفأ والتي لا تروق للحليف وحليفه الحركي؟ كيف يرى هذا “الشخص” طموح الصهر بوراثة عمّه، أياً كانت الكلفة، وحتى لو على حساب “الشخص” نفسه الذي سيُباع في النهاية انتصارات وهمية من قبيل تلك “الإلهية”؟ هل يبتلع أكذوبة التعطيل الذي يشكو منه عون، وهو ملك لعبة التعطيل والشريك الأساس فيها وأحد أبرز المستفيدين منها منذ 15 عاماً؟ وإن ازدرَدها “الشخص” فعلاً، هل تخنقه، أم يضحك في سرّه أنها خدمته؟.. والأهم، كيف خدمته؟!! كما وزارة الطاقة العونية، مثلاً؟ كما الشواغر القضائية والدستورية، والمراسيم النائمة في أدراج النكايات؟ كما ترقية العقيد سوزان الحاج؟ هل يزهو بدعوى الشطارة، أم يخجل بدعوى انتكاسة الدور المسيحي المزعوم، إلى هذا الدرك الذي لا يفيد عموم جمهور الطائفة في شيء إلا ترسيخ قيادة نكاد نقول أنها تختطفها؟… فرغ فنجان القهوة، والأسئلة ما زالت معلّقة، و”الشخص” ما زال عالقاً في أحجيته.

*المدن