منذ أن تعرفتُ على عناية، قبل نحو عشرين عاماً، بدت لي اختزالاً لنساء وأجيال عديدة. “البكلة” الطفولية البراقة ترفع بها غرّة شعرها الأشقر المخَوتم دوماً على طبيعته، بناطيلها “السبور” من صنف ما ترتديه طالبات الجامعة، كحل عينيها الأسود يؤطّر نظرة عجَنت آلاماً وخبزت مسرّات في كبسولات زمنية شديدة الكثافة، سيجارتها التي تمجها بأناقة أفلام الخمسينات مع فنجان القهوة فيما تتصفح الصحف في مكتبها في “السفير” في الصباح الباكر وقبل توافد الزملاء وضجيج إصدار عدد اليوم،…. ضحكتها الرائقة والمطنطنة، خجلها الذي كانت دائماً تشير إليه – بخجل أيضاً، دندنتها أم كلثوم وعبد الوهاب، وصُورها بفساتين جزيلة، واقفة على خشبة مسرح تغني من كل عقلها وقلبها،… والأنثى الوحيدة في فريق صفحة ثقافية وازنة وحاضرة ومُشَوربة، ولعل عناية أكثر مَن كَتَب فيها عن نتاجات نساء وشباب… بنّوتة، وامرأة مكتملة الاختمار والنضوج، الأمومة خاضتها قبل بلوغها العشرين من عمرها وظلّت ابنة أمها، شاعرة وناقدة كثيرة الأصدقاء والُمحبّين من النخب العربية واللبنانية،.. عناية جابر، كما أعود وأراها اليوم، كانت نموذجاً لصِلة وصل عُمرية وجندرية، وهي نفسها أعمار وكنايات شتى.
لم يبدُ أن عناية أخذت شيئاً، بالكامل، على محمل الجد. وهذه فتنتها الأصيلة. كتابة الشِّعر، ثلاثة صبيان أنجبتهم ليصبحوا أصدقاءها، الصحافة الثقافية، تكاليف الحياة، الموسيقى، العائلة، الحزن والفرح والتعب، وحتى “سيرة الحب” التي غالباً ما داخَلت أحاديثنا الصباحية بخليط من كلاسيكية أم كلثوم وزياد الرحباني قاتل المقدّسات… لكن هذا لا يعني أنها لم تنغمس في كل منها بكلّيتها. غير أنها دائماً آثرت الخفّة، أو هكذا بدت لي على الداوم. كأنها حملت المهام والأعباء والهوايات، العمل والعلاقات والصداقات، الكتابة والغرام والغناء، الطبخ ومسؤوليات الاستمرار، كلها، بين راحتيها اللتين تعرف كيف لا تطبقهما تماماً، فتشعر بوزن كل ما بينهما. وكل ما بينهما يعيش ويتنفّس ويتدفأ، وقد يسقط أو يطير. وفي هذه الحالة، ثمة دائماً مَن تنشقّ عنه الأرض لمساعدة عناية في تعويضه، فلا أحد يسعه التأخر عن هذه الحساسة الظريفة القريبة، صاحبة “المَونة” على الصغير والكبير. طبيعية وتلقائية ومُسَلَّم بها، “مَونتها” تلك.
تحب الحب، عناية، بكل أنواعه وأشكاله. وهو، كقمصانها البِيض وإكسسواراتها المرحة، يليق بها، كيفما عبّرت عنه. بشتيمة محببة، أو عبارة فرنسية، أو قبس نحويّ لاسِع بسيط. ربما لهذا هي شاعرة أولاً وأخيراً، وبالمعنى هذا. ليس بدليل دواوينها الأثيرية، ولا بختم تلك اللمعات التي واظبت على نشرها في فايسبوك وبدت عصارة وِحدةٍ من النوع صانع القصائد، بل بدليل عَيشها نفسه. تكوين شخصيتها كمفارقة دائمة. رهافة استثنائية في الكتابة، وأرضيَّة متوقدة في المقهى. حاجز بينها وبين تكنولوجيا الاتصالات والصحافة وتطورات الفنون، أصرّت على تكسيره بطريقتها وعلى مهلها. وانسجام وتناغم احتضنت بهما تقاليد مَن يصغرونها سناً وصادَقتهم، كما صادَقت مَن يكبرونها، بلا جهد يُذكَر.
هي التي لا أذكر جلسة باهتة معها، بل المعادلة الدقيقة بين التسلية والجدوى، الضحك والبَوح، المَرارات والنمائم البيضاء. هذه التي تعشق الطرب وجَمعات الأنس، ولا تقوى على إطالة السهر. هذه التي قست عليها الحياة، ومِراراً جافاها الحظ. لكنها، كمراهقة أبدية، ظلّت تناكفه، من دون أن تنسى الاستمتاع بمساحة صغيرة خاصة حفرتها لنفسها حفراً، ومن دون أن تنكر على نفسها حقها في الأسى الذي هو اليوم من نصيبنا. وداعاً عناية.
*المدن