العلاج بالكتابة. ليس نهجاً جديداً ذلك التداوي بالبوح. “التروما” العصيّة على طبابة الزمن، قد تستكين في ثنايا السرد. بين الحروف والنقاط على ورقة أو شاشة، قد تتنفس الروح، تنزّ بعضاً من كربها، ثقلها، وإن لم تُشفَ. وإن مكَث الماضي، يمكثُ ماضياً، إذ يحدث أن تنزع الكتابة عن مقدراته حتميةَ أن يجثم على صدر الحاضر.
لكن تضميد الجراح بالكتابة ليس ما فعلته 15 إمرأة من أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان خلال كتابتهن فصول “طواحين الهوى”(*). ليس تماماً. ربما، وعلى نحو ما تشرب النباتات من مطر لا يتساقط لها وحدها، استقَت الراويات الـ15 شيئاً من الراحة بكتابة قصصهن، فقدانهن، رسائلهن لأحبائهن غير معروفي المصير منذ اختفائهم في غياهب الحرب الأهلية. أزواج وآباء، أمهات وشقيقات، أبناء وبنات. أبرياء.
فعل التداوي في الكتاب يخص أولاً الذاكرة العامة، الجماعية. للبنانيين جميعاً، سواء فقدوا أعزاء، أم لا. ترياق ضد النسيان والطمس، الإرجاء والإهمال واللامبلاة، في أفياء السّلم، كما في ظلّ الأزمات. هذه ذاكرة تعالج ذاكرة. ذاكرة تفتح ذاكرة، تعرض قيحها للشمس والهواء. بلسَم الذات الصغرى، للذات الأكبر. الأفراد هنا أصوات الجماعة، أو الأصوات التي يجب على الجماعة الاستماع إليها. والواجب الأكبر على الدولة التي ما زالت، منذ عشية حرب1975، طيف دولة، خيالها، ما شُبّه للعامّة في وزارات وبرلمانات وقصور رئاسية… ليعيدوا، كل يوم، الاكتشاف بأنهم مواطنون فقط بقدر ما تنتمي هذه السلطة إلى تعريف دولة.
انتزعت لجنة أهالي المفقودين والمخطوفين، العام 2018، قانون المفقودين والمخفيين قسراً الذي يُفترض أن يتيح كشف مَصير المُغيّببين، بدلاً من تقييدهم متوفّين هكذا كرُزمة بشرية تُزاح جانباً. لكن التنفيذ معلّق. وفي 2023، تضيئ 15 سيدة برزخهن بحكاياتهن، وهو نفسه برزخ كل فَقدٍ في هذا البلد، أي كامل مساحة المَسكون اللبناني. لذلك: “طواحين الهوى”. وكأنما العنوان يؤكد أن ما تتصدى له كاتباته ليست طواحين دونكيشوت، ولا أوهام بين دفّتي الكتاب رغم كل ما قد يتبدّى في هذه القضية من عبث ولا جدوى المُطالبة. بل طحين حب، ذكرى أناس اختفوا ولم تختفِ أماكنهم بين أهلهم.. الهوى الذي يستحق صلاة كلَّ مَلَأ وكلَّ عَلَن.. أي هذا الكتاب.
في روايته “تقرير ميليس”، يعيّشنا ربيع جابر في عالَم مُغادِري عالمِنا، عبر شخصية جوزفين التي اختُطفت العام 1983 وتتابع حياة شقيقها سمعان يارد في بيروت عبر شاشة تلفزيون. في ذلك العالم الغيبي، يهيم الموتى والمفقودون عطشى في مدينة طبق الأصل من بيروت، لكنها خاوية. وهم دائمو العطش، أكثر ما يفعلونه هو شرب الماء وكتابة مذكراتهم، سيَرهم، ويجمعون سيَر من قضوا أو فُقدوا معهم. تلك المكتبة الضخمة الآهلة بأرواحهم وكتاباتهم السرمدية هي ما يفترض أن يكون المرجع الأرضي الأول، لكنها تبقى محجّ المخفيّين، بل أثيرهم الذي بلا أثر لأن أحداً لا يريد أن يقتفيه.
لا بد أن سطور سعاد وريم وسوسن ويولّا، نهاد ونبال وأنجاد وحياة ووداد… تدفقت سيولاً إلى عالم مُغيّبيهن العطشى. لقد كتَبن نيابة عن مفقوديهن، وربما بموازاتهم وبالتزامن معهم.
راوِية، رِواية،.. ريّ، رواء،… اللغة لا تكذب. حتى أنها تقول، من دون أن تقول صاحبات القصص، أنهن يَسقينَ بما يذرِفن. هنّ أيضاً يعانين العطش، لكنهن يصبحن مرئيات، في مرايا مفتوحة للقراءة.
“لو كنتُ أكمل همّة، لكنتُ أنا كتبتُ قصتي بيدي يوم كنت لا أزال قادرة على ذلك. وقد حاولت بعد سفرِك. اشتريتُ دفتراً جديداً، وجلستُ إلى الطاولة، تذكّرتُ مقاعد الدراسة فحزنتُ وكدتُ أبكي على نفسي من جديد. كتبتُ في الصفحة الأولى جملة واحدة: هذه قصة كاملة الحاج عبيد..”. هذه “أمّ إيليا”، إحدى شخصيات “مطر حزيران” لجبور الدويهي. فقدت ابنها لهجرةٍ تدبرتها له بنفسها كي تُهرّبه من الحرب، بعدما كانت قد تسوّلت من القديسين حَملها الصعب بوحيدها الذي تلاشت أخباره، مثل البصر في عينيها المُطفأتين. إنما بقي لها صوتها، انتزعته من الصمت القسري. كتَبت، أو حاولت الكتابة فتعبت، فأكملت الحكي قائلة لإيليا “سجّل إذا شئت”… هكذا انوجدت، كفاقدة ومفقودة في آن.
في “طواحين الهوى”، تنوجد 15 امرأة، 15 عائلة، 17 ألف مفقود، وملايين اللبنانيين العالقين في وطنهم بلا ختام للماضي ولا مُفتَتح للمستقبل.
__________________
(*) الكتاب صادر عن “دار نلسون” كثمرة مشروع تعاوني بين “المركز الدولي للعدالة الانتقالية” و”لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان”، بعد ورشة تدريب على الكتابة الإبداعية مع الكاتبة فاطمة شرف الدين. ترجمته إلى الفرنسية ربى حسن، وترجمه إلى الإنكليزية أمير جعفر كمال.
(المدن)