نعم.. واشتكى، بكل جدية وقحة، ومن كل عقله.البنك اللبناني السويسري، ومن خلفه جمعية مصارف لبنان، يندهون “الأجهزة الأمنية والقضائية المختصة لملاحقة المعتدين ومحاكمتهم إنفاذاً للقوانين المرعية”، بعدما أجبرت جمعية “بنين” الخيرية، “اللبناني السويسري”، بقوة الاقتحام عنوة، على تحويل مبالغ بالدولار واليورو من أموالها المحتجزة إلى حسابها في تركيا لإجراء عمليات طبية لأربعة أطفال. والأمن العام اللبناني تسلّم، بأريحية عادية، من “جهاز الأمن الوقائي” في “حزب الله”، أي من تنظيم أمني تابع لحزب/مليشيا، صحافياً أجنبياً كان عناصر الحزب قد أوقفوه وحققوا معه وأرادوا الاستحواذ على هاتفه، خلال قيامه بعمله (ألا يسمى ذلك اختطافاً؟)، ثم يحقق الجهاز الأمني الرسمي، مع الصحافي، بدلاً من محتجزيه.
غير صحيح انتفاء الدولة اللبنانية. بل هي موجودة وعاملة وفاعلة، لكن من خارج تعريفها البديهي الذي يستطيع أي تلميذ في المرحلة الثانوية تسميعه في لحظة. الدولة اللبنانية، التي تفتقر مَرافقها نفسها حتى للحبر والورق والكهرباء لإنجاز أبسط المعاملات اليومية، تُعنى، فعلياً، باستدامة “الاستقرار” والحؤول دون “الفوضى”. لكنه دوام استقرار الأزمة، وترياق فوضى الاحتجاج. أما فوضى الحياة والليرة والودائع المصرفية، بطش الشحّ في مستلزمات العيش الأساسية من وقود وطبابة ودواء وسلع غذائية، فهذه يتولاها ربّ لم يرَ أحد من تمظهراته شيئاً.
الدولة الآن، وبدلاً من أن تكون الوسيط بين المواطن والسيستم، المؤسسة الضخمة المرعية هي نفسها بالقوانين لإنفاذ الحقوق والواجبات بالعدل والمساوة كما يُتوقع منها في أي بلد في العالم -حتى البلدان المتعثرة- تضطلع بدور الوسيط بين الناس (المتساقطة عنهم صفة المواطَنة منذ زمن) وبين الفئة النافذة المتحكمة (فلا هي سياسية إذ لا سياسة في لبنان بل التسييس الفارغ العنيف، ولا هي حاكمة إذ يشتمل الحكم حُكماً على الإدارة والخدمات في الحد الأدنى). سواء كان المتحكمون مؤسسات مصرفية وعلى رأسها المصرف المركزي، أو زعامات تقليدية وأحزاب سلطة.
وليست هذه الدولة أي وسيط، بل الوسيط كحَكَم مُرتشٍ ومنحاز. والرشوة ليست دوماً “هدايا” نقدية أو عينية، بل يمكن تسييلها على سعر صرف الطوائف، الشراكة في الأرباح السياسية والفساد، التورط معاً في جرائم كبرى، أو التواطؤ المصلحي الفردي والجماعي.
والأكثر إدهاشاً -ومنطقية أيضاً- أن هذا كله يُنفّذ بالقانون. القانون الموجود المفقود، الذي يخسر صفته الناظمة الكافلة للأمن والأمان والعدالة ليصبح حبر الاستنساب وأداة الظلم بمجرد اجتزائه وتطبيقه كيفيّاً، يتعاطى كسلطان غاشم مع تهمة “كسر وخلع وتخريب وترويع واعتداء” على مصرف يحتجز أموال الناس والمؤسسات خلافاً للقانون، دون الإدارات الرافضة لتطبيق قانون “الدولار الطلابي” ومهرّبي الأموال في عز الأزمة أو المتسببين فيها. ويتحرك القانون نفسه للتعامل مع “ارتياب أمني” في صحافي أجنبي تجرأ ووطأ أرض المقاومة المحرّمة حتى على الدولة-الوسيط.
بالمنطق نفسه، يُستدعى للتحقيق ناشطون وإعلاميون ومدوّنون في السوشال ميديا، فيما مرافقو السياسيين الذين يعتدون على لبنانيين بالضرب (ياسمين المصري وغيرها)، ومهربو المحروقات ومخزّنو الأدوية في أحلك أوقات الأزمة، يشعرون بكامل الطمأنينة ويستمرون في “أعمالهم” في وضح النهار.
الدولة اللبنانية، لا سيما في ذراعيها الأمني والقضائي، تتحول إلى كيان هجين، بين فشلها في وظيفتها الأمّ ومَواتها الإفلاسي، وبين نجاحها في حماية الأمر الواقع وأربابه من النتائج الطبيعية لهذا الواقع، مآسيه وتجنّياته وغضب ضحاياه.
*المدن