حكومة العصافير والضفادع وحكايات ما قبل النوم التي هيمنت على مراسيم تسلّم وتسليم الوزارات، والحفاضات التي قرَّع وزير الشؤون الاجتماعية اللبنانيين على استعمالها. رئيسها نجيب ميقاتي الذي جعل المرأة هي “الحياة”، لا لشيء إلا لأنها “الأم والزوجة والأخت والبنت والحفيدة” وسائر “الرّتب” المستلهمة من أدبيات قيود النفوس وأوراق النعي.
وفي ذلك الخطاب، خلال جلسة منح البرلمان الثقة لحكومته التي لا تضم إلا امرأة واحدة (وكانت حكومتاه السابقتان في 2005 و2011 ذَكَرية صافية)، تبادل وأقرانه الغمز واللمز على احتجاج النساء على سطر ونصف السطر، في البيان الوزاري، اختزل قضاياهن وسطّحها وهمّشها. ثم حاول ميقاتي الترقيع بالتركيز على “تمكين” النساء. فهن، جميعاً، ما زلن في مرحلة التمكين، طفلات، ساذجات، بلا خبرات ولا مهارات. أينهن من كل هؤلاء الدكاترة والعلماء والفلاسفة، أصحاب التجارب مُعزِّزة السّلم والازدهار والشفافية، والسِّير الذاتية السياسية والتشريعية المشرّفة في مجلسي النواب والوزراء.
أولئك النواب الذين منحوا ميقاتي الثقة، ومن قبلها ومن بعدها،.. تنمروا على النائبة عناية عز الدين في جلسات اللجان لمناقشة الكوتا النسائية، والتي أفضت إلى صفر نتائج. وهم أنفسهم الذين لم يتوانوا، على مدى سنوات، عن إطلاق المزاح السّوقي المبتذل في خلال مداخلات وزيرات ونائبات. وينتمون إلى قوى سياسية كثيراً ما تخوض الانتخابات والحكومات بنساء “ديكورات” يستوفين الشروط الطائفية والوراثية قبل الكفاءة، ويبصمن على ما يدبّجه قادتهن بلا أي تمايز، ولا حتى في ملفات الحقوق والعدالة المرتبطة بالجندر.
لكل ما سبق، ليس مفاجئاً تشبيه ميقاتي للبنان المأزوم، بالمرأة المطلّقة التي تحتفل بعيد زواجها، والتي لو بقيت على تفاهم الزواج، لما طُلّقت. ليس مفاجئاً أن تبدو المرأة المطلّقة، في الخطاب هذا، مبتلاة بالحسرة على زواجها المفقود، والذي خسرته لأنها – هي – لم تَبقَ على تفاهماته التأسيسية. هي المتلوّعة بندمها، تحيي عيد زواجها، كما تُحضّر أرواح موتى لا سبيل إلى استعادتهم. وهي الخارجة من مؤسسة منتهية رغم أنها مُخترعة لتكون للأبد، مجرجرةً أذيال فشلها، والعمر للقصير للدور الوحيد الذي يمكن أن تؤديه هذه “الحياة” في الحياة.
المؤكد أن هذا التشبيه الميقاتي، المعبّر عن صاحبه، وصحب صاحبه، لن يكون الأخير. لكنه يزيد المشهد العام قدرةً على إثارة الغثيان.
لكن الأفدح أن هذا النوع من الذكورية والتخلّف، ليس سوى جزء من الفضيحة المعمّمة. فالجزء الثاني، الذي لا يقل أهمية، هو إعادة اكتشاف طريقة تفكير الطبقة الحاكمة في البلد، مهما تغيّرت وجوهها وأسماء فطاحلها. هكذا يفكّرون في العمل السياسي، في الأزمة وسبل تخفيفها وربما معالجتها، في مفاهيم الوفاق/التوافق الوطني، الاستقلال، الفعالية الحكومية، القضاء، الأمن، الدولة، السيادة، والمحاسبة. فحين تتضح نظرتهم للمرأة، ثم يشبّهون البلد بـ”امرأتهم” هذه، تمسي الصورة أكثر جلاء في هزليتها ورثاثتها ودمويتها. المرأة المطلّقة التي، في قاموسهم، ربما تعلو كعباً عن المرأة “العانس” والتي، بحسب الوزير السابق وئام وهاب، “لا يجب أن تُعيّن في مراكز حساسة لأن علم النفس يقول إنها ستعمل بسياسة الانتقام”. لكنها ما زالت تنحدر رتبةً عن المرأة المتزوجة، المنحدرة أصلاً إلى محددات قيدها العائلي.
هكذا، يبدو منطقياً تعاملهم مع الشأن العام اللبناني بطرق اللفلفة والتستّر، بالهيمنة والاستقواء (بقانون معوج كما بالسلاح والتشبيح)، بإعادة “الوطني” إلى تفاهمات بدائية عفا عليها الزمن، ورغم ذلك تُعدّ أفضل من التفاهمات السُّمّية الراهنة في مسيرة هذا الزواج الآخذ في الانحطاط الأخلاقي والقانوني والدولتي. تفاهمات تتيح لأحد أرباب الأسرة اللبنانية السعيدة (إيلي الفرزلي) أن يخاطب وزيرة عدل (ماري كلود نجم) بـ”شيليه من فوق وحطّيه تحت”. وزواج يفترض قيامه واستمراريته بموجب الصبر (والبصيرة؟) على الأذى والمهانة وحتى الجرائم، من أجل سَير المركب. السيادة سيادة المواقع، لا شيء آخر. ثم إنكار الإفلاس والخواء والارتكابات، وإدارة الصراعات بدلاً من اجتثاث أمراضها، بما يضمن بقاء كل طرف من أطراف “الزواج” في حصانته، على حساب ما هو محقّ وعادل. على حساب أضعف الأطراف، أي المواطنين-الأولاد-القصّر الذين لن يكون في مقدورهم الحصول على آباء وأمهات غير ما منّت به عليهم الطبيعة، طبيعة التركيبة التي معاذ الله أن تتغير.
*المدن