رشا الأطرش: ديموقراطية التهريب

0

على طريقة المفارقة السوريالية، يذكّر إقفال مهرّبي الوقود لمنطقة المصنع الحدودية بين لبنان وسوريا، بالاعتصامات الاحتجاجية لأجهزة الشرطة وإنفاذ القانون الفرنسية. الحدثان متنافران إلى حد التشابه المفزع. والتشابُه الكاريكاتوري ينبع من فكرة الاحتكاك “المطلبي” بين “الدولة” وأذرعها على الأرض، وهي الفكرة التي لا تلبث أن تنتج تناقضاً مأسوياً: الديموقراطية ودينامياتها وشفافيتها المؤسساتية المعافاة (رغم الهنّات) في الحالة الفرنسية. وانكشاف حالة الفساد والفوضى العلنيَين والعميمَين في زمن الأزمات الكبرى، في الحالة اللبنانية المتحولة إلى مهزلة تحيل الرائي عاجزاً إلا عن إطلاق الدموع والضحكات.

كان عناصر الشرطة الفرنسية، وفروع أجهزتها، قد نفذوا عدداً من الاعتصامات والمسيرات (بعضها وُصف بالغاضب)، منذ تظاهرات “السترات الصفراء”، لتسليط الضوء على مطالب عديدة. أبرزها، الرواتب التقاعدية وساعات العمل، ومكافآت العمل الإضافي، وأيام الراحة والإجازات (لا سيما بعد فترة طويلة من الاستنفار في الشارع لمواكبة “السترات الصفراء”). إضافة إلى المطالبة بحماية عناصر الأمن خلال ملاحقة مشتبه فيهم، تحديداً بعد مقتل عدد من أفراد الشرطة، وتزايد ظاهرة الانتحار في صفوفهم. ثمة مَن يناصر هذه المطالب، أو يستنكرها. ولا يستهان بالنقاش الذي أثارته – ولا تزال – في قنوات الرأي العام وبين الناشطين السياسيين والمدنيين والمشرّعين، لا سيما على خلفية الجدل حول قانون منع تصوير الشرطة ونشر الصور في الإعلام والسوشال ميديا، وبموازاة ممارسات عنيفة لبعض العناصر في الشوارع وفي ملفات جنائية، في مقابل اعتداءات وتهديدات مرعبة يتعرضون لها، وهو ما يفتح الباب على أسئلة صعبة من قبيل: مَن يحمي مَن، بمواجهة مَن، وكيف…؟

لكن المذهل دائماً في المشهد هذا، هو تصرّف قوى إنفاذ القانون والأمن الفرنسية، كقطاع، كمهنة، مثلها مثل سائر القطاعات العامة، والخاصة أيضاً. لا تماهي مع “رب العمل”، أي الحكومة، لا بالقمع ولا باللّين. ليسوا القوة الضاربة لأحد، ولا حتى لمؤسسة دولتية. بل هم القائمون بعمل محدد يفترض أن تكون إجراءاته ولوائح شروطه واضحة، ومتفقاً عليها، وموثقة في عقود وقوانين صريحة. هي وظيفة. وهؤلاء الموظفون لهم نقابات وحقوق، وعليهم واجبات. وهذه منظومة سياسية بالدرجة الأولى، تخضع للتفاوض والمراجعة باستمرار، وتُحاسَب عليها السلطة في الانتخابات التي يشارك فيها الشرطيون والشرطيات كناخبين وناخبات، بل إن النقابات الشرطيّة متنوعة الأهواء السياسية الميال معظمها الآن إلى اليمين.

فكيف تكون هذه الصورة شبيهة بمشهد إقفال “المصنع” من قبل مهرّبي الوقود المستورد إلى سوريا، حيث يباع بثلاثة أضعاف ثمنه، “احتجاجاً” على “عرقلة نشاطهم” بإجراءات للأجهزة الأمنية الحدودية التي تحرّكت أخيراً وبعد طول تقاعس، فيما جلّ المواطنين اللبنانيين يذلّون في طوابير محطات البنزين؟

الإجابة بسيطة: هؤلاء المهرّبون، وليس القوى الأمنية، هم المعادل الحقيقي لعناصر الشرطة الفرنسية وحراكاتهم المطلبية، في الـ(لا)دولة والـ(لا)قانون اللبنانيَين. ورغم الأخبار المتواترة عن تسرّب عناصر عسكريين وأمنيين من خدمتهم بأثر من الأزمة التي طاولت رواتبهم وتقديمات مؤسساتهم، وعن انحدار لافت في أعداد المنتسبين الجدد إلى الأسلاك العسكرية والأمنية المختلفة منذ العام 2019، ومستوى الأخطار المتصاعدة التي يتعرضون لها في حين أنهم في المقابل ما عادوا قادرين على كفاية أنفسهم وعائلاتهم من هذه “الوظيفة”، فإن “التحرك الاحتجاجي” على المساس بلقمة العيش لم يأتِ من هؤلاء، لأسباب كثيرة ليس هنا مجال الخوض فيها. بل أتى “الحراك” من شبكة مهربين يطالبون بمساواتهم بـ”زملائهم” في مناطق حدودية أخرى ذات هوية طائفية وسياسية مقابلة ومُنافِسة، وبالتالي عصية على هذه الإجراءات “الظالمة”. المهربون الذين يدافعون عن حقهم، طائفياً ومناطقياً، في التهريب، عن حصتهم من كعكة التسيب، ووراءهم مَن هم وراءهم من متنفذين ورسميين وأمنيين. يستنكرون “الواسطة” في “استقواء” الدولة أو تخاذلها. عصارة الحياة السياسية والمدنية اللبنانية.

يبدو المهرّبون اليوم، الانعكاس الأدق والأصدق، كفرع من قوى الأمر الواقع، في مرآة الدولة اللبنانية وأجهزتها. الطوائف تطالب بحقوقها وحصصها وصلاحياتها، وتعتصم بالعناد والتعطيل لتحقيق “المساوة والعدالة” في التمثيل والتربّح، وهم أيضاً. الدولة، والدويلات الموازية، تعتاش على السمسرات والتنفيعات وتجارة الأزمات، وهم أيضاً. الأحزاب تستمد بقاءها وهيمنتها، كل في منطقته و”بيئته”، من البلطجة والزبائنية وخردقة القوانين، وهم أيضاً. الخطاب السياسي يدوس، بوقاحة موصوفة، على آلام الناس الذين يعانون بسبب أداء أصحاب هذا الخطاب أنفسهم (لا داعي لاقتناء سيارة، استقلوا السرفيسات، عيشوا كأجدادكم بلا كهرباء، ازرعوا الخضار في الشرفات، ربّوا الدجاج في الكاراج،..)، والمهربون أيضاً. القوى السياسية تشدّ العصب استعداداً للانتخابات، مهما كان الثمن الذي يتكبده المواطن، والمهربون الغاضبون أيضاً! الدولة رب عملهم الفعلي والمجازي، وهم يتعاملون مع أنفسهم كقطاع، لهم حقوق، وواجباتهم يتمّونها بكفاءة. نظرياً، ينقصهم التنظيم النقابي. عملياً، لا ينقصهم شيء.  

*المدن