يحدث أن يكون هناك لاعب رابح، دائماً، أو لوقت طويل جداً. ليس افتعالاً، ولا شطط خيال. أحياناً، يُمنى بالحظ، هكذا بكل بساطة. وفي أحيان كثيرة أخرى، يغش، يضغط، يكذب، يساير، يخادع، يهدد، يوظّف عصابة شبيحة، ويغيّر قواعد اللعب فيما يضع سلاحاً على الطاولة.. ومَن يستطيع بعدها أن يقول له: أنت لا تملك المكان، ولا تملكنا، ولا يحق لك؟
الكل سيذعن، طالما أنهم لا يستطيعون طرده من الغرفة الآيلة أصلاً للسقوط، ولا يسعهم تدعيم أسس الغرفة، ولعلهم أيضاً لا يريدون. إذ لماذا ينفق واحدهم أي شيء في خربة؟ الأفضل أن يُحكم إغلاق الصّرَر القديمة والجديدة، ويرميها فوق السور إلى أي فناء خلفي آمن، ثم البقاء لاستحلاب ما أمكن من أرباح باقية، والجلوس لاحقاً لعدّها بهدوء فوق تلّة الردم، وربما القفز فوق السور نفسه. هذا إن أمست الغرفة المنسيّة، ردماً. ولعلها ستبقى تَعِسُّ طويلاً، فيما الأوكسيجين بالكاد يتسرب من النوافذ. وستبقى الحنفية تقطر في أفواههم، ملوثة وشحيحة، لكنها تَقطُر أو تَعِد بذلك. الكل سيذعن، طالما أرادوا الإبقاء على مقاعدهم حول الطاولة، وعلى كسرات يرميها لهم “قارص الأوراق” و”معلّمها”. فإن انتقدوا، أو لوّحوا بإجراء جدّي، إن حردوا وقاموا، أو سُحبت من تحت كراسيهم، يكونون قد خسروا كل استثماراتهم من أكياس جولات العز، عز اللعبة وعصرها الذهبي، في آخر هذا الدوريّ الطويل. وربما أيضاً يخسرون ما هو أغلى.
“حزب الله”، أو الثنائي الشيعي كما باتت التسمية الموضة، يتجاوز الآن هذا السيناريو. يطيح القواعد كافة، ويقشّ الحجارة والنرد ودفتر النقاط. اللعبة متوقفة، كما شَراكاتِها. يُعلنها، من دون أن يقولها. الكل ماكث في مجالسه، لكن مجلّداً، كتلك التماثيل الثلجية التي تُزيّن موائد باذخة. هنا بجعة، وهناك بطة. وهو وحده يتحرك، فيما الكل مُصبَّر في مكانه، مرغماً، أو خوفاً من الأعظم، أي الذوبان والفناء الذي لا رجعة منه. كان هو الرابح دائماً، أو غالباً، ولا بد أن يبقى. خساراته كَبوات في سلسلة انتصارات لا تنتهي. لكن استمرار التسيّد، شرطه استمرار اللعبة، واستمرار الأخيرة لا بد له من قواعد، بالحد الأدنى، ولو كثيرة الشقلبات، ولا بد له أيضاً ممن يلاعب الرأس الكبرى، ولو فقط ليخسر أمامها..
لكن ذلك كان في الماضي، أو لنقُل، حتى الأمس القريب. الآن، الحزب فَضَّ “الدق” إلى أجَل لم يُسمّه. ويحاول حليفه العَونيّ تقليده، كصبيّ يقلد ديناصوراً، ويتوغل الصبيّ في أحلام يقظته حتى يظنّ أنه بات فرخ ديناصور. والفرخ نشط وخفيف، يقول في سرّه، يستطيع أن يراوغ ويناور، مستفيداً من صغر حجمه، وتشابك مصالح في هذا المكان والزمان المُقتَطَعين من سيرورة التاريخ. والأهم، أن يطبّق ما (يعتقد بأنه) تعلّمه من ملك الدغل نفسه.
الكاريكاتور يكون مؤذياً أحياناً، وليس فقط لأبطاله المرسومين فيه.
لم يتضح بعد، إن كان الفرخ سيُدعَس أو سيثبت فائدة ما للكبير. ولم يؤكَّد بعد إن كانت البطات الثلجية ستذوب هباء، أم تعود كضفادع في المستنقع. لكن البائن أن توقف الحياة في شرايين اللعبة، هو اللعبة الآن..
تعطيلات بالأطنان للتحقيق في انفجار مرفأ بيروت، تعطيلات بالكيلو للتحقيق في أحداث الطيونة، انفجار مخيم البرج الشمالي للاجئين الفلسطينيين لن يُكشَف منه أكثر مما كُشف حتى الآن – أي لا شيء. هذه الملفات المختومة بالشمع-الدّمع أحمر، لا تختلف عن سابقاتها من ملفات الانفجارات والاغتيالات والتعدّيات، إلا في أنها، هكذا، أوراق اللاعب الأوحد وقد قرّر أن الليلة انتهت. كان اندثار سابقاتها جزءاً من استراتيجيات اللعبة. استراتيجيات قذرة، لكنها كانت دليلاً على شيء من الحياة اللبنانية المريضة، بالأخذ والردّ، بالميزان المعتلّ للمراهنات حول حلَبَة محظورة في كل مكان صالح للبشر في العالم. والآن، الليلة انتهت، والصبح بعيد.
…والحكومة في غيبوبة تحت طائلة سحب أنابيب الميثاقية التي يُزعم أنها تبقي على الرمق الأخير للشكل. والمراسيم والقرارات بلا توقيع رئيس الجمهورية. الانتخابات مجهولة المصير. التعيينات مركونة. صندوق النقد يضحك في زاوية الغرفة، أو يبكي، لا فرق. أي تدخل في عشوائيات حاكم مصرف لبنان، المسمّاة قرارات، ميّت سلفاً، والدولار يواجه صِفراً من اللَّجم. وقريباً -مجدداً– المحروقات، مثل الدواء والتعليم، الغذاء والكهرباء، التضخّم والنفايات وزعبرات الصرافين والمصارف، همايونية “الأمن” واحتضار القضاء.
رُفعت اللعبة، كجلسات المَحاكم في الأفلام الرخيصة، لاستراحة طويلة لا يرتاح فيها أحد، ولا أحد يعرف متى تعود العَطالة بعد عُطلتها المفتوحة. فالرابح الدائم ما عاد مقتنعاً بتقاسم فتات غنائمه مع الأعدقاء. يريد الآن فوزاً كاملاً ماحقاً، في اللا-لعبة منزوعة القواعد.
*المدن