أن نطالب بكل شيء: الكهرباء المقطوعة -حتى في المطار- لكن ليس في بيوت الزعماء، عدالة المحاسبة في أحد أكبر التفجيرات غير النووية في التاريخ الحديث، الخبز، الدواء، حليب الأطفال، البنزين والمازوت، عودة التلاميذ إلى مقاعد الدراسة، الاستشفاء الذي -إن توافرت لأجله ثروات صغيرة- لا محروقات تشغل مُعدّاته وغرف الطوارئ والجراحة…
أن نطالب بكل شيء، في الشارع والإعلام وشرفات البيوت المحترقة بالعتمة… فلا شيء في المتناول، سواء مما يُشترى بالمال أو بَيع الكِلى، أو مما هو مجاني وشبه مُحال كالهواء الذي نتنفسه. وإن تدبرنا أمر اليوم، فربما لا يكون الغد ممكناً.
أن نطالب بكل شيء، يعني أننا لا شيء، وكل شيء. لا قيمة لنا كبشر، وقطعاً ليس كمواطنين مهما كدحنا واحتججنا ونزفنا على الأسفلت. ونحن، في الوقت نفسه، كُلِّيو القيمة، إذ أننا، في أجسادنا وحناجرنا، ظُلمتنا وأمراضنا وموائدنا المنكمشة، في أصابعنا ورؤوسنا المكسرة على أيدي ضباع السلطة خلال اعتصام سلميّ، نختزل الدولة والقانون، المجرمين والفاسدين والمنتحرين، وتجار الأزمة. لا بد أننا نحن الأزمة، وإلا فأينها لا تُرينا وجهاً أو إسماً أو جينات؟ الأزمة اليتيمة، اللقيطة، مكتومة القيد، تصادفنا على باب البيت وناصية الطريق ومدخل العيادة التي تكاد تمسي منتحلة صفة. تستعطينا وتتسول تبنّينا لها، هي التي لا تعرف لها أباً ولا أماً ولا خالقاً.
أن نطالب بكل شيء لا يعني فقط أننا فقدنا كل شيء، وما عدنا مستحقين للبديهيات، ولا نعرف حتى مَن نُطالب. ولا يعني ارتطامنا بالقاع. فالحضيض لم يظهر لناظره بعد. الحضيض هو ما تُستهلك الأعمار الشقية في انتظاره مرعوبة، ثم يأتي الموت. أن نطالب بكل شيء، يعني أننا في برزخ عقيم، وقادر، خلافاً لكل مقومات العيش، على الاستمرار هكذا، “يعسّ”، إلى أجَلٍ مفتوح. بل إنه، على الأرجح، المحظوظ الوحيد بنسائم الحياة.
حقيقة أننا نطالب بكل شيء، تنزع عن المطالبة جوهرَها، قلبَها، شَرطَها. صراخ اللاجدوى في علبة كرتونية لا تُرجِع صدىً ولا توصل صوتاً. الصراخ الذي ينهار فوقه سقف الحلْق. ولأنها الحقيقة الوحيدة المتبقية، اليقين الأخير، فإنها تجعل كل فكرة آمنّا بها يوماً كالسنوات الثلاث الأولى من الطفولة.. تلك التي لا أثر لها في الذاكرة أو الوجدان، ونصوصها الوحيدة مُتحَفِيّة، قوامها المرويّات. أما كل ما ناهضناه وكافحناه، فهو الخيال المهيمن على العيش اللامعقول.
أن نطالب بكل شيء، يعني أننا مصابون بالخَرَس. صيحاتنا صيحات الكوابيس، تلك التي تخرج من أفواهنا بلا صوت، تحمرّ وجوهنا وتنفر عروقنا، ولا شيء، لا أحد يسمع استغاثاتنا، والغول يقترب ويهمّ بابتلاعنا أحياء. نسقط ونسقط ونسقط في وادٍ سحيق، ولا نخبط أرضاً، حتى نتمنى السقطة الأخيرة ولا نجدها، ونهتز في أسرّتنا كجدران بيوتنا في خضم الزلزال، هكذا إلى ما لا نهاية للحلم الرهيب الذي لا نعرف متى نفيق منه.
أن نطالب بكل شيء يعني أننا -رجالاً ونساء وأطفالاً- بلا ظلال. أرواح تعصى طبيعة الأشياء، مهترئة القمصان، والقيامة لا تلوح.
*المدن