«متعتي في الكتابة… عن اللغة والشعر والنقد والأصدقاء» هو عنوان كتاب الناقد الأكاديمي المصري د. محمود الربيعي. وعلى الرغم من التنوع الذي يوحي به العنوان الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، فإن السمة التي تغلب عليه هي الحديث عن الشعر، والدفاع عنه أمام بعض الآراء التي تذهب إلى أن عصره قد فات، وأننا نعيش عصر الرواية.
في بداية الكتاب، يقول الربيعي: «إن القول بأن العصر ليس عصر الشعر قول مرسل لم يخضع لتمحيص منهجي أو محاجة منطقية، ويبدو أنه يُسوَق في الصحف على أمل أن تلتقطه الحواس وتتعود على استقباله، فيكتسب شيئاً من الاستقرار يساعد على إعطائه شيئاً من المصداقية، وهو قول خطر على المستويين الأدبي والحضاري». وهو يلاحظ أن «الذين يتصايحون منتصرين للقوالب الأدبية غير الشعر، معلنين انحسار عصر الشعراء، لم يكلفوا أنفسهم عناء إرساء قواعد منهجية لدراسة هذه القوالب ذاتها، وذلك حتى ينجحوا في استمالة المتلقي على الأقل إلى جانبهم».
إن الشعر، كما يضيف، فن قديم «يملك في حوزته تاريخاً غير منقطع، وهو ظاهرة لغوية تعبيرية تصويرية موسيقية صاحبت كل الأمم المتحضرة في عصورها الشفاهية والكتابية، وأثبتت صلاحيتها لتلبية حاجات تلك الأمم من الجهتين المادية والروحية، وقد ضمنت له قوالبه المتنوعة المرنة حياة مريحة لم تدفع به يوماً إلى زوايا حرجة تجعله عاجزاً عن أن يكون صوت هذا العصر بالذات».
ثم يتساءل الكاتب: «كيف يغيب عن الذهن أن هذه القوالب، وإن اتخذت النثر وسيلة تعبير، إنما أتت جميعاً من عباءة الشعر، وأنها لا تحتل لدى القارئ قيمة تذكر إذا لم تمتلك طابعاً شعرياً في لغتها وبنائها، والأولى بالقول أن يقال إن الفن الأصيل لا ينسخه فن آخر، وإن تكامل الفنون لا تصارعها حقيقة العصر وكل عصر، وإن الموهبة الإنسانية ولود، ومن شأنها أن تبتكر من القوالب ما لانهاية له، وتوظفها جميعاً في خدمة هذه الإنسانية، وإن مقياس الحكم على ما تنتجه هذه الموهبة هو التجويد النوعي، لا محاولة الإحلال والتبديل».
– بين أفلاطون وأرسطو
ويتطرق المؤلف إلى موقف أفلاطون من الشعر الذي شن عليه هجوماً ضارياً في كتابيه «القوانين» و«الجمهورية»، وأخرجه من جمهوريته الفاضلة «لكونه يرتبط بالخيال»، إلا أن الفرق بين أفلاطون ومن يعبثون بالشعر في زماننا، حسب وصف الربيعي، أنه «لم يصل إلى هذه النتيجة إلا بعد تحليل عميق للشعر، كشف فيه عن طبيعته ومعناه، ومكانته بين الفنون، وصلته بنظرية المعرفة، شأنه في ذلك شأن كل الفنون: الرسم والنحت والموسيقى ونحوها».
ويذكر أن الذي أعاد للشعر اعتباره حقاً في الزمن القديم كان أرسطو الذي رأى فيه «أداة ديناميكية حقاً، وقوة فعالة من شأنها أن تتجاوز تمثيل الأشياء والأفعال باعتبار ما هي عليه إلى تمثيلها باعتبار ما ينبغي أن تكون عليه، وبذلك فتح للشعر الباب واسعاً لتحويل الخيال والواقع الحرفي إلى واقع شعري، وهنا تجيء مقولته الشهيرة: إن الحقيقة الشعرية أشمل من الحقيقة التاريخية».
ثم ينتقل المؤلف إلى التطبيق، ويورد نموذجاً لقصيدة قصيدة «طردية» لأحمد عبد المعطي حجازي «الجذابة بالمعنى الحرفي للكلمة»، كما يقول:
«واليوم أحد
وليس في المدينة التي خلت
وفاح عطرها سواي
قلت… اصطاد القطا
كان القطا يتبعني من بلد إلى بلد
يحط في حلمي ويشدو
فإذا قمت شرد
حملت قوسي
وتوغلت بعيداً في النهار المبتعد».
ويشرح المؤلف سر ولعة بهذه القصيدة، قائلاً: «هو الربيع كان ثلاث كلمات من اللغة العادية أصبحت بلمسة خفيفة من التقديم والتأخير جملة شعرية، ونستطيع أن نقول إنه بسبب إعادة ترتيب الجملة هذا أعيد توزيع الضوء على الكلمات، فبدت بالترتيب الجديد جديدة في الرؤية على البصر، وبدت بالإيقاع الجديد جديدة في الوقع على السمع، وكانت النتيجة أن عمودها الفقري أصبح كلمة الربيع، وتراجعت الكلمتان (كان) و(هو) إلى الأطراف. صار الربيع قيمة مهيمنة بذاتها، وفضاءً بصرياً سمعياً واسعاً، ثم جاءت العبارة التالية: واليوم أحد، لتصنع لهذا الفضاء الواسع إطاراً، وهو إطار زمني وشعوري معنوي. وبتضافر هاتين العبارتين (هو الربيع كان، واليوم أحد) تحرك المشهد على نحو ديناميكي من العام إلى الخاص، وبدأت المتناقضات في الظهور: الربيع الذي كان ينطلق، والأحد الذي يكبله، فالأول به تفتح والثاني به كمون».
ومن حجازي، ينتقل المؤلف إلى قصيدة شهيرة لمحمد الفيتوري، يرى أن اللغة فيها «طيعة، والصورة مجسدة، والموسيقى منسابة»:
«يا أخي في الشرق في كل سكن
يا أخي في الأرض في كل وطن
أنا أدعوك فهل تعرفني؟
يا أخاً أعرفه رغم المحن».
ويختتم الربيعي كتابه بحديث عن نازك الملائكة، وقصيدتها «الكوليرا»:
«سكن الليل، أصغ إلى وقع الأناتِ
في عمق الظلمة تحت الصمت على الأمواتِ».
ويشير الربيعي إلى موهبة نازك الملائكة المزدوجة في الإبداع الشعري والنقد الأدبي، مما أكسبها عمقاً وخبرة جعلا تلك الموهبة منفردة في هذين الفرعين الرفيعين من فروع المعرفة: الشعر والنقد.
*الشرق الأوسط