رزان نعيم المغربي: مشاريع الكاتب العربي والزيف الشائع

0

كلّما صرح كاتب بأنه مهتمّ بشأن الكتابة، وهو تصريح يتكرّر بتنويعات مختلفة ومتعددة، غير أنها ركيكة ومستهلكة، أتأكَّد من أن الزيف يشوب كلامه. لا يحتمل هذا الحكمُ القاسي التعميمَ، لكنّ الزيف أكثر شيوعاً في هذه المنطقة بالذات! المساحة التي يُفصح فيها الكاتب العربي عن ذاته بشكل أدق، وهو يقفز من فضاء إبداعه إلى التنظير حول الإبداع. التنظير شأن يشبه الشهادة على التجربة الشخصية، ويعتبر إضافة لإنتاج الكاتب، فأدواته تكون انطباعية، وذات أهمية في الوقت عينه، لأنها ترفع الستائر عن منطقة إلهامه الشخصي. اللافتُ أن الأدباء في الغرب كتبوا كثيراً في هذه المنطقة وحلّلوها، لكونهم مهتمين فعلاً بالكتابة الحقّة، والدليل هو عدم حصر اهتمامهم بالشخصي، بل بمراجعة أعمال غيرهم والمقارنة في ما بينها، لأنهم باختصار خرجوا من الشرنقة حول شخصهم، واكترثوا فعلا بما يجري في محيطهم؛ إن الكتابة لديهم ليست شأناً شخصياً يدور حول إنتاجهم فقط! بل بما ينتجه كتابٌ آخرون.غير أنّ ما يحدث للكُتّاب العرب خلاف ذلك، لشعورهم بأن عليهم تسويقَ إنتاجهم، وهذا حق طبيعي لهم، ولكن يفترض ألّا يكون هذا عملَهم؛ إنه عمل منوطٌ بالوكيل والمحرر ويدخل ضمن مهمّاتهِما، ناهيك بالسلوك المريب لدور النشر والتوزيع، الذي انحدر حتى صار لا شبيه له في العالَم. مأساة الكاتب العربي مضاعَفة، فهو يبدع، لكنه يصاب بالإحباط عند عرضه لإنتاجه في سوق النشر، لأنه يُضطر إلى أن يلاحِق الناشرين، ثم يتولى الدفاع عن عمله، بل إن بعض هؤلاء الكُتّاب يلاحق الصحافة والنقاد بشبكة علاقات محرجة ومهينة نوعاً ما. لماذا كتبتُ في البداية أن الزيف يَطبَع علاقةَ الكاتب العربي بالكتابة؟ الجواب في نظري بسيط: إنه انعدام الشفافية؛ فنحن الكُتّاب لا نقول الحقيقة كاملة، وهذا تعبير صريح عن #ثقافة نخبوية، لكنها ليست التعبير الحقيقي عن معنى النخبوية أيضاً، لأن الأخيرةَ تصنع أيقونة لنفسها بحُكم انتمائها ضمن التراتبية الاجتماعية إلى طبقة عليا تفصلها وتميِّزها عن باقي المجتمع. ونحن العرب تتأسّس النخبويةُ لدينا على تواطؤ وتماهٍ، وتُسهِم بشكل أو بآخر في إبقاء الوضع على ما هو عليه، من خلال عدم المساس بأيقونات اتُّفِق ضمناً على الإبقاء عليها. هكذا يتحرّى الكاتب العربي عدم الاقتراب من أعمال من سبقوه، وتالياً يؤسِّس لتقليد عدمِ السماح للآخر بأن ينتقده. قد يصف بعضُهم هذا السلوك بالنرجسية، لكنها نرجسية مقبولة في عالم الإبداع بغض النظر عن جنسه. لكن الأخطر لدى الكاتب العربي هو عدم اهتمامه بأعمال غيره من معاصريه، ولو حتى بالإشارة إليها، حتى لكأنه يرى في ذلك حَطًّا من مكانته وتقليلاً من قدره، أو لكأنه يعترف بأن هناك آخر أفضل منه حرفياً، وهذا يطعن في شخصه وإبداعه. القلّة القليلة من الكتاب العرب من يجامل منهم أصدقاءه ومعارفه، ويوصي بقراءة عمل ما، وهو ضمناً ينتظر ردّ التحيّة بأحسن منها!وهكذا تتجلى مظاهر الخداع، بالأخص عندما يدور الهمس بنميمة مقيتة حول كتاب أبدى الشكر له علناً مجامَلةً لصديق، لكنه في الواقع لا يعجبه، بل يراه أقل جودة. وهذه الآراء كلها تنحصر في المواقف الانطباعية، ولهذا السبب، نرى أن من يدفع بالتفاهة نحو الأعلى يروج لمن لا يستحق، ويساهم في صنع أيقونة كاذبة جديدة. لقد سمحتْ لنا وسائل التواصل الاجتماعي برؤية كثير مما يعرّي واقع الكتابة والمشتغلين فيها، وسمحت أيضاً بمراقبة كيف يصبح للرداءة مصفِّقٌ لا يخجل من فعلته، وأظهرت جلياً تجاهُلَ كاتب لما يقرأ، وعدمَ إشارته بإعجاب إلى نص قرأه فَراقَه على تلك الصفحات. يُثير هذا الكاتبُ المُتجاهِلُ لأعمال غيرِه التقزُّزَ لدى تقديمه لأي مشروع ثقافي، لأنه لا صدقية لمن يتجاهل أعمالاً تتفوق في كثير من الأحيان على أعماله جَودةً. إن الأدهى هو أن نقرأ له تصريحات يُعرب فيها عن اهتمامه بمشروع الكتابة. لو كان الكاتبُ المُتجاهِلُ لغيره صادقاً لكان صَحَّح العبارة بالقول: أنا أهتم بما أكتبه، وأحياناً بما يكتبه صديقي. نكران مشاريع الآخرين وتجاهُلها دليلٌ ساطع على رِياء الكاتب الزائف وعلى عقدة النقص لديه، الشيء الذي يستدعي عدم الثقة في إنتاجه، وفي الصورة الزائفة التي يرسُمها لنا عن ذاته، والتي يسعى جاهداً بشتى الوسائل غير النزيهة إلى أن نُصدقها.

*النهار