فاطمة المرنيسي (1940-2015) من الأمهات النِسويات اللواتي تركن أثراً جلياً في الفكر العربي. ومع ذلك لم يتسنّ لي أن أطّلع على أعمالها بشكل كافٍ إلا مؤخراً. كنت قد قرأت لها كتاباً منذ عشرين عاماً، ولكن لا تسألوني عمّا يدور وماذا كانت مساهمتها بالضبط على الصعيد النِسوي، فقد كنت كالكثيرات مقصّرة بحقها. ولذلك لن أنسى أبداً ارتفاع نبض قلبي الشديد وانقطاع نفَسي حين تناولت كتابها شهرزاد ترحل إلى الغرب لأول مرة منذ عامين ونيف، إلى درجة أني خفتُ أن أموت قبل أن أنهي قراءته أو أن يحصل أي شيء آخر يُعيقني عنه، كما لو أن مصيري معلق بين كلماتها. ولم يتلاشَ ذلك الإحساس تماماً إلا بعد أن وصلتُ إلى كتابها الخامس، فخفّ عني التوتر، ورحت أسترخي، لأني محوت تقصيري أخيراً تجاه هذه المبدعة. والمراجعة التي أكتبها الآن ليست أكثر من تتبّع لثيمة لفت انتباهي تكرارها أثناء القراءة، فاسمحوا لي أن أناولكم بداية خيط، علّي أساعد على تعريفكم بفاطمة المرنيسي، وبأروقة الفكر النِسوي العربي-إسلامي الذي كانت إحدى أعلامه.بعد الاطلاع على أهم أعمال رائدة النِسوية وعالمة الاجتماع المغربية، اكتشفتُ أن «الحريم» يحتل مساحة واسعة من كلماتها وحيزاً من تفكيرها. لا يمكنني الجزم متى استخدمت الكاتبة ذلك المصطلح لأول مرة، إلا أنه حاضر دائماً في تحليلاتها بشكل أو بآخر. حاولتِ المرنيسي في مراحل مختلفة التعرّف على الحريم كما يتبادر إلى وعينا، وعكفت شيئاً فشيئاً على توسيع الرؤية ليشمل تعريفها له تلك البنية التحتية المتينة التي ينقسم على أساسها مجتمعنا إلى قسمين غير متساويين: خاص للنساء وعام للرجال. ومن ثمّ راحت تتقصاه في مخيلتنا عبر التاريخ والفلسفة والحب.
سوف أتقفى أثر الحريم في كتاباتها منذ بداياتها، وأقسّمه إلى أشكاله المختلفة: الحريم العائلي، الحريم الجنسي، الحريم الاقتصادي، الحريم السياسي، والحريم الأوروبي. ربما يتوجب التنويه إلى أن هذا التقسيم لم يرد في كتب المرنيسي، ولكنه الخلاصة التي خرجتُ بها عندما حاولت تكوين فكرة شاملة عن فكرها. ومن هذا المنظور قد يبدو تعريفي للحريم أكثر اتساعاً ورمزية من التعريفات المتتالية التي قدمتها الكاتبة بنفسها، على أمل أن يشكل إضافة لفهم مدى تغلغله في مجتمعاتنا. وقبل أن أبدأ، أود التأكيد على أني بنيتُ خُلاصتي على نصوص المرنيسي التي استطعت الحصول عليها، ولا أستبعد أنها كانت ستختلف قليلاً لو تمكنتُ من الاطلاع على جميع أعمالها.
الحريم الاقتصادي
ظهر الحريم باكراً في كتابات المرنيسي، وإن لم يحظَ مباشرة بتلك التسمية الغامضة. ففي إحدى بحوثها الاجتماعية المبكرة: نساء الغرب، دراسة ميدانية (1985)، والتي درست من خلالها المساهمة الاقتصادية للمرأة البدوية في غرب المغرب، تعزو المرنيسي تدنّي حال المرأة الاقتصادي إلى انقسام المجال الاجتماعي إلى قسمين: أحدهما خصوصي والآخر عام، الأول منزلي والثاني اقتصادي. هذا الانقسام عميق إلى درجة يمكن أن أعتبره الأرضية التي يرتكز عليها الحريم.
وقد أشارت المرنيسي إلى أن ارتباط المرأة بالخاص والمنزلي (أي بالحريم)، لا يعني على الإطلاق أنها لا تعمل. فالمرأة تعمل طوال النهار، وهي عادةً أول من يستيقظ، وآخر من ينام. المشكلة هي أن عملها غير مأجور، ولا يحصل على التقدير الكافي، ومن غير الممكن تحويله إلى ثروة أو نقود. وحتى لو أنتجت المرأة أشياء صالحة للبيع، سيكون رب الأسرة هو الوسيط بينها وبين السوق سواء كان أباً أو زوجاً أو أخاً.
وقد تحاول المرأة أحياناً أن تتجاوز حدود الخصوصي إلى العام من أجل العمل أو شيء آخر، غير أنها سوف تواجه مقاومة كبيرة من محيطها الذي لن يمد يد العون، لا بل سوف يعاقبها على جرأتها بنبذها أو باستسهال اتهامها بالفساد الجنسي، وأحياناً بحصرها في مجال البغاء. وهكذا يحصل فعلاً أن تُجبر بعض النساء على تصدير «تخصّصهنّ» (الحميمية والجنس) إلى العام.
تؤمن المرنيسي بأهمية تحطيم الحاجز بين الخاص والعام الذي يخنق الطاقة النسائية، وتؤكد على أهمية العمل المأجور: حين تتلقى المرأة أجراً لقاء عملها، تبدأ الهزيمة العملية الصامتة للسيطرة الأبوية. العمل المأجور برأيها من أنجع الطرق نحو تمكين المرأة، إذ أنه لا يفتح صراعاً مباشراً مع المقدسات التي تحمي الهيمنة الذكورية.
غير أن كسر الحريم الاقتصادي ليس سوى خطوة واحدة في الاتجاه الصحيح برأيي. أنا مثلاً من النساء اللواتي حسبن طويلاً أن عملي سوف يجلب معه حريتي، إلا أني اكتشفت أن الأمر ليس بتلك البساطة، وأنه يحصل أن يتحول العمل خارج المنزل إلى عبء فوق أعباء المرأة التقليدية ما لم تتحسن مكانتها في نواحي الحياة الأخرى. الحريم واسع، وله غرف عديدة، ولا ينحصر بالحيز الاقتصادي فقط. حيث تواجه النساء عدة مشاكل فور خروجهن إلى العمل، من بينها التضييق على حرية الحركة من قبل الأهل أو الزوج، عدم القدرة على التوفيق بين العمل خارج المنزل ومسؤولية التربية والتدبير المنزلي، الصراعات الأسرية الجديدة التي ترافق استقلال المرأة المادي، التحرش الجنسي في العمل أو في الطريق إليه، ضعف الحصانة المجتمعية، الأجور المنخفضة، الانحصار في القطاع الخدماتي، فرص التكوين المهني المتدنية، السقف الزجاجي، المنافسة السلبية، والإقصاء الواعي والمباشر عن مراكز صنع القرار وغيرها. هذا عدا المصاعب القانونية التي تواجه كل امرأة بغض النظر عن كونها عاملة أم لا. كل هذا يقف في وجه الإبداع الضروري لتسلق سلم العمل والإنجاز وإحراز أي تقدم اقتصادي.
الحريم الجنسي
حاولت المرنيسي في كتابها ما وراء الحجاب: الجنس كهندسة اجتماعية (1997) دراسة البعد الجنسي للحريم. فقد تعلّمت من علم الاجتماع أن المجتمعات تنقسم إلى صنفين حسب أسلوبها في ضبط الغرائز الجنسية. يقيّم الصنف الأول دور المرأة الجنسي سلباً، ويحاول فرض احترام الضوابط عبر تعميق داخلي للموانع الجنسية خلال عملية التنشئة. أما الصنف الثاني فيرى دور المرأة الجنسي فعالاً، ويلجأ إلى حوافز الاحتياطات الخارجية كقواعد السلوك القائمة على التفرقة بين الجنسين نظراً لعجزه عن تعميق الموانع الجنسية لدى أفراده. وتنتمي مجتمعاتنا غالباً إلى الصنف الثاني.
كما اكتشفت المرنيسي أن المجتمع الإسلامي يتميز بتناقض بين «نظرية علنية» وأخرى «ضمنية» عن الحياة الجنسية. بينما تعتمد النظرية العلنية على تناقض دور الرجل الفعال جنسياً (الصائد) مع سلبية المرأة (الفريسة)، تنقلب الأدوار في النظرية الضمنية التي تؤمن بالفعالية التامة للمرأة، لا بل ترى أن الحضارة محاولة لاحتواء قدرة المرأة الهدامة والكاسحة. وينتج عن هذا التوتر بين النظريتين الخوفُ من المرأة ومهاجمتها كتجسيد للفتنة، وعزلها ومرافقتها في كل تحرّكاتها، أو اللجوء إلى الوسائل الخارجية كالحجاب أو الحجز المكاني، أي الحريم. وتتفق كلا النظريتين على ما يسمى كيد النساء، إما من خلال شيطنة الأنوثة أو التأكيد على ضعفها.
وتؤكد المرنيسي على أن الحياة الجنسية في العالم الإسلامي مجالية، أي أن للمكان أهميته القصوى في تقسيم العلاقة الاجتماعية بين الجنسين. ومن الطبيعي ألا يكون هذا التقسيم بريئاً من تراتبية السلطة. ويشكل كل اختراق تقوم به المرأة لحدود المكان تهجماً على السلطة سوف تعاقَب عليه بطريقة ما. ويتحدد سكان المكان بكونهم كائنات جنسية يعرَّفون بواسطة أعضائهم الجنسية وليس بواسطة معتقداتهم. وهم يعانون من الانقسام فيما بينهم: فئة الذكور الذين يملكون النفوذ وفئة الإناث الخاضعات. كما تتحدد هوية النساء بانتمائهن إلى المجال المنزلي، في حين يحمل الرجال جنسية إضافية تنتمي إلى المجال العام، أي المجال الديني والسياسي.
يفضح التقسيم السافر بين حيز خاص نسائي وآخر عام رجالي البعدَ الجنسي لكل تبادل بين هؤلاء الرجال والنساء. وهذا يؤدي إلى أولوية الاستثمار في التبادل الاجتماعي بين أفراد الجنس نفسه، وإلى لعبة الإغراء كوسيلة للاتصال بين الجنسين. تعتبر المرنيسي الإغراء فناً طفولياً يعبّر لدى الراشدين عن بخل عاطفي وليس عن كرم كما يبدو للوهلة الأولى، كما أن أي نضج عاطفي سوف يُقمَع في مهده بفضل العزل المجالي. لا أعتقد أن الكاتبة سوف تخالفني الرأي حين أقول إن هذا هو أحد أهم أسباب تسمّم محاولات الارتباط العاطفي بين الجنسين بسوء الفهم والاغتراب تارة، وبالاستغلال والعنف تارة أخرى. ذلك أن الجنسين لا يتعرفان على بعضهما في بيئة تدعم التعاون والحب بينهما، بل تكرّس تسلط أحدهما وضعف الآخر. لذلك لا أستغرب كمّ الفشل العاطفي المتخفي اجتماعياً خلف أشعار الغزل وموّالات الغرام.
كما تلعب هندسة الأسرة الإسلامية دوراً أساسياً في تمكين قبضة الحريم على حيوات النساء، وتكريس الرقابة على حياتهن الجنسية. ذلك أن الإسلام جاء ليعلن الانتقال إلى الزواج الذكوري بعدما كانت ثمة أشكال متعددة للزواج تتيح للمرأة حرية اختيار الشريك أو الانفصال عنه. جاء الإسلام ليحرّم الزنا على الجنسين، ولكن ليمنح الرجل حصرياً حق تعدد الزوجات والجواري واستبدالهن متى يشاء. كما أنه لا يضع عوائق أمام رغبته بالطلاق، بينما تنعدم خيارات المرأة وتجد نفسها مطالبة بخدمة زوجها جنسياً خوفاً من غضب الملائكة. ترى المرنيسي أن هذه الأخلاقيات تجعل من الزواج الإسلامي مؤسسة هشة في جوهرها، وغير مبنية على الحب، رغم محورية الوظيفة الجنسية فيها. كما تؤكد آسفةً أن هذه التشريعات تتناقض مع روح الإسلام، وتنافي مبدأ المساواة بين المؤمنين والمؤمنات الذي جاء به الإسلام. أما ما يزيد الطينة بلة، برأيي، فهو تثبيت تلك التشريعات الذكورية ضمن قوانين مدنية «عصرية» في معظم البلدان العربية الإسلامية. لذلك أعتقد أن قوانين الأحوال الشخصية عبارة عن عقد يؤسس لحريم قانوني بكل معنى الكلمة. لا شك أن الحريم الجنسي من أقسى أشكال الحريم، لأنه يحظى أكثر من غيره بدعم مجتمعي وديني وثقافي وقانوني صارم، ويرتبط مباشرة بخطاب الحرام والحلال، ويتملك جسد المرأة حرفياً ومعنوياً، مما يجعل أي محاولة لهدمه شبه انتحارية.
وفي مقالتها «العذرية والبطريركية» (1982) تدرس المرنيسي أحد أهم رموز الحريم الجنسي: العذرية. مفهوم العذرية اجتماعي، وليس بيولوجياً، حيث إن أجساد الرجال والنساء على حد سواء مصممة لتكون قادرة على ممارسة الجنس اعتباراً من السنوات الأولى للشباب. ترى المرنيسي أن العذرية أمر يخص علاقة الرجال فيما بينهم بالدرجة الأولى، ولا تلعب المرأة فيه سوى دور الوسيط. الأساطير التي تحيط بالعذرية تكشف عن انشغالات الرجل في مجتمع مبني على اللامساواة والخضوع. فهو لا يضمن نفوذه من خلال النجاح بتجاوز الصعاب وعبور البحار والأنهار، وإنما من خلال السيطرة على حركات قريبته المرأة وسكناتها، ومنعها من الاختلاط بالغرباء. وهكذا تبقى العذرية عَرضاً لصراعات مدفونة وحاملاً لدلالات لا تمتّ لغشاء البكارة – كعضو بيولوجي – بأي صلة. والمأساة هي أن المجتمع يكلِّف المرأة بحراسة حريمها، ويحمّلها وحدها توابع أي اتصال جنسي يجري بين شخصين، بينما يترك الحبل مرخياً للرجل ليفخر بمطاردته لعشيقات يُضِفن إلى رصيده الاجتماعي. ولكنه حين يرغب بالزواج، سوف يبحث عن عذارء لم يلمسها أحد. والنتيجة الحتمية لهذا الفُصام الاجتماعي هي أن النساء باتت تلجأ إلى الحيلة لإخفاء نشاطهن الجنسي (رتق غشاء البكارة مثلاً)، كما تخلو العلاقات العاطفية من الصدق المتبادل ويرتبط الجنس بالتدنيس والخطيئة. فكان الحب والتفاهم بين الجنسين ضحايا هذه المعادلة المريضة.
ومن الأسئلة التي طرحتُها على نفسي أثناء تقسيم الحريم إلى أصناف: هل جاء الحريم الجنسي تاريخياً قبل الحريم الاقتصادي أم بعده؟ بمعنى: أيهما الأساس الذي انبنى عليه الآخر؟ تقول المرنيسي في المقالة ذاتها إن الجنسانية هي الصفة الإنسانية الأكثر طواعية في يد المجتمعات لعَرك أفرادها وفق مآربها، هذا يعني أنها وسيلة أكثر من كونها هدفاً بحد ذاته، فأستنتج أن الجنسانية قد تكون استُخدِمت لضبط الحريم الاقتصادي. ولكن المرنيسي لا تنسى من ناحية أخرى أن تشير إلى مقولة فرويد بأن الذاكرة البشرية البدائية مبنية على خوف الرجل المتأصل من قدرة المرأة على الإنجاب، فيبقى تساؤلي عالقاً إلى حد ما. ولكني أميل إلى تصديق أن كلا الحريمين، الاقتصادي والجنسي، ينقلبان مع مرور الزمن إلى أداة جبارة لإقصاء المرأة عن حقل السياسة الذي بوسعه منحها حق التغيير والقرار حول مصيرها، وتحقيق ذاتها كإنسانة كاملة القيمة. وهنا أنتقل إلى الحريم السياسي.
الحريم السياسي
تحاول المرنيسي، كما رأينا، أن تعود للتاريخ بغية فهم هذا الانقسام العميق في المجال الاجتماعي. في كتابها الحريم السياسي: النبي والنساء (1992) نراها تبحث في أسباب طرد النساء من الحياة السياسية في العالم الإسلامي، من خلال الرجوع إلى عهد الإسلام الأول، وإلى تأثير نساء النبي على مشاركة المراة السياسية في عصرنا الحالي. الحريم السياسي بالنسبة لفاطمة المرنيسي هو مجموع النساء اللواتي أحطن بالنبي وأثّرن بشكل مباشر على الحديث النبوي والوحي، ويختلف قليلاً عن استخدامي للمصطلح والذي يشير بالدرجة الأولى إلى انقسام مجتمعي يتغلغل في شتى المجالات، وعلى رأسها الحياة السياسية.
تبدأ المرنيسي كتابها بالإشارة إلى الحديث النبوي المُعادي للنساء «ما أفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة»، والذي يُقصي المرأة من الأدوار القيادية والحياة العامة. تشكّك الكاتبة بصحة هذا الحديث وتربطه بسياقه التاريخي، فتنفي عنه المعنى الرجعي الصرف. عبر المناقشة المتأنية للحديث، يكتشف القارئ الدور المفتاحي الذي لعبته عائشة بنت أبي بكر في تكوين النظرة السلبية عن علاقة المرأة بالسياسة من خلال دورها الإشكالي في موقعة الجمل، ويُدرك كم أن هذه الشخصية التاريخية بحاجة إلى إعادة تأهيل لنخلّصها من تراكمات النصوص وافتراء بعض رواة الحديث. فما زال الحديث الذي ظهر بعد هزيمتها مباشرة هو نفسه الذي يحفظه رجال (ونساء) عصرنا عن ظهر قلب. إن تناول المرنيسي لشخصية عائشة ينبّهنا إلى أهمية نبش النِسويات بأنفسهنّ في التاريخ الإسلامي. فهل كان العلماء الرجال سيفهمون تلك الشخصية التاريخية ويتفهمونها كما فعلت المرنيسي؟
وتذهب المرنيسي إلى أبعد من ذلك. فهي تناقش نزول الحجاب وتشير إلى تفاصيل صغيرة لن تراها سوى العين النِسوية المتجردة من المصالح الذكورية. «نزول الحجاب» مصطلح معروف يشير غالباً إلى الآية الثالثة والخمسين من سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ، وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا، فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا، وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ. إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ. وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ. ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ. وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا، إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا}.
يبدو أن هذه الآية شطرت العالم الإسلامي إلى قسمين غير متساويين للأسف، فقد اعتبرها مؤسسو العلم الديني أساساً لمؤسسة الحجاب وإقصاء النساء عن الميدان العام. الاهتمام الكبير الذي حظيت به هذه الآية هو المسؤول عن تمكين الحريم في الإسلام، وعن ابتعاد الدين شيئاً فشيئاً عن ثوريته الأولى ورغبته بتجاوز الرهاب الجاهلي من العنصر النسائي. إذ سرعان ما تغاضت الناس عن السياق السياسي والاجتماعي والنفسي الذي نزلت فيه الآية، ورجّحت أعرافها القبلية التي لا تعتبر المرأة فرداً، وإنما ملكاً يتوجب حصره وإضعافه لضمان التفوق الذكوري. فضلاً عن أنها لم تكن الآية الوحيدة التي تكلمت في الحجاب، بل الأولى في سلسلة من النصوص القرآنية التي رسّخت الشرخ بين النساء والرجال في الحيّز الإسلامي.
لن أتوقف طويلاً عند هذه الآية كما فعلت المرنيسي، ولكن لا بأس من الإشارة إلى بعض الأمور التي وردت ضمن تحليلها لظروف النزول: نزلت هذه الآية في ليلة زفاف الرسول من زينب بنت جحش، بعد انصراف آخر المدعوّين المُزعِجين الذين مكثوا طويلاً دون أخذ رغبة الرسول بعين الاعتبار. والملفت أن النزول لم يمر بمرحلة كمون كالذي اعتدناه من الوحي، بل كان الانعكاس الإلهي فورياً وحضور الوحي سريعاً. ومن المهم أيضاً الإشارة إلى أن هذه الآية نزلت في فترة كان الوضع العسكري للمسلمين صعباً والثقة بحنكة الرسول الحربية ضعيفة، أي في فترة كانت مكانته في المدينة متزعزعة، مما جعل بعض المدينيين يتجرأون عليه. كان الرسول بأمسّ الحاجة للدفاع عن حدوده وخصوصيته.
ولكن النقطة الأهم في سياق هذه الآية، أو ضربة المرنيسي القاضية لتأويلات العلماء القدماء، هي أن الرسول تلاها وهو يُسدِلُ الستار بينه وبين أنس بن مالك، الذي قدِم ليخبره بانصراف آخر المدعوين. تقول المرنيسي إن الحجاب أُسدِل بين رجلين، وليس بين رجل وامرأة. كان الحجاب بالدرجة الأولى حماية لحدود الرسول-الرجل، الذي يتخذ من الجامع (مكان عام) منزلاً له ولزوجاته (مكان خاص). يقال إن الفاصل بين غرفة عائشة وبين بهو الصلاة في الجامع كان عبارة عن ستارة، وكان بعض الناس يدخلون عليه من دون استئذان. ليس غريباً إذن أن يدافع الرسول عن خصوصيته.
رغم أن الاختلاط بين العام والخاص في حياة الرسول وانتفاء المسافة بين الجماعة وقائدها قد أضفيا بعداً ديمقراطياً على الجماعة الإسلامية، ورغم أن ذلك مكّن نساء النبي من ممارسة تأثيرهنّ المباشر على أمور السياسة (عائشة وأم سلمة على وجه الخصوص)، إلا أنه تسبّب مع نزول آية الحجاب بإغلاق الباب في وجه نساء العصور اللاحقة. فبفضل العلماء المحافِظين، أصبح هذا الحجاب أحد المفاهيم الأساسية في الحضارة الإسلامية، تماماً كـ«الخطيئة» في الدين المسيحي، أو مفهوم «الاعتماد» (الكريديت) في الثقافة الأمريكية الرأسمالية. لذا لا توافق المرنيسي على الفهم الفقير للحجاب كقطعة قماش فرضها الرجل على المرأة حين تمشي في الشارع. الحجاب أكثر من ذلك بكثير، هو هندسة معمارية واجتماعية تفصل الجنسين عن بعضهما بعضاً مكانياً ورمزياً وأخلاقياً. أميل للاعتقاد أن الحجاب هو عماد الحريم بجميع أشكاله.
كما ترى المرنيسي أن هذا الموقف شبه الرُّهابي من المرأة مفاجئ للغاية، لا سيما أن الرسول شجع أتباعه على التخلّي عنه بصفته يمثل الجاهلية. وتتساءل: أيمكن ألا يكون للإسلام سوى أثر محدود على مستوى الذهنيات المتأصلة المتعلقة بالمرأة؟ أليس من الممكن أن يكون الحجاب تعبيراً عن ذهنية ما قبل الإسلام؟ وتُجيب بالإيجاب، حيث إن الكثير من الصحابة، وأولهم عمر بن الخطاب، كانوا يرحّبون بالتغيرات في الحياة العامة والحياة الروحية، ويرفضونها في الحياة الخاصة التي يجب أن تبقى محكومة بعادات الجاهلية، بحيث لا تؤثر على العلاقات بين الجنسين. كم يذكرني ذلك بحال معظم رجال ثورتنا السورية والثورات العربية الأخرى، الذين اتسمت حياتهم العامة بحركية عالية، أما مواقفهم تجاه النساء وفي حياتهم الخاصة فبقيت جامدة ولم تتعرض لإعادة النظر فيها!
ولعله ينبغي أن أنبّه أثناء عرضي لكتاب الحريم السياسي إلى نجاح المرنيسي في إحالة الثيمات التي أُضفيَت عليها القدسية إلى مكانتها التاريخية والأرضية. لطالما رمى المدافعون عن السلطة الذكورية الأحاديثَ النبوية والآياتِ القرآنية في وجوهنا ظناً منهم أنهم يُخرسوننا، إلا أن المرنيسي تتلقفها بهدوء وثبات، وتضعها تحت مجهر التاريخ ومِشرط العقل النِسوي الناقد والطَموح. وبما أن المرنيسي تبقى أثناء عملها ضمن المنظومة الدينية ولا تخرج عنها، بإمكاننا اعتبارها من رائدات النِسوية الإسلامية.
وثمة كتاب آخر يهمنا في سياق العرض للحريم السياسي هو السلطانات المنسيات (1990). ففيه تحاول المرنيسي تقفي أثر النساء اللواتي وصلن لسدة الحكم في التاريخ الإسلامي. وفي معرض بحثها، تتطرق الكاتبة إلى مفهوم في غاية الأهمية من الناحية السياسية: الخلافة. وتكتشف تحيز معجم لسان العرب في أمور توزيع السلطة السياسية، إذ يؤكد على أن كلمة «خليفة» لا تصلح إلا للمذكر، ولا يمكن تأنيثها لغوياً. وتتبع المرنيسي ابن خلدون الذي فرّق بين الخلافة من ناحية، والمُلك أو السلطان من ناحية أخرى. فالمَلِك ينشغل بإدارة مصالح الرعية على الأرض فقط، بينما يأخذ الخليفة الدنيا والآخرة على عاتقه. يحل الخليفة محل الأنبياء، ولكن تنقصه حرية الملك الطاغية، لأنه مرتبط بالشريعة التي لا يستطيع تغييرها. هذا الفرق بين الخلافة والمُلك مهم، لأن النساء القليلات اللواتي حكمن في التاريخ الإسلامي لا يستطعن ادعاء ما يتجاوز السلطة الأرضية، فلا يمكن لأيٍّ كانت بلوغ مرتبة الخلافة، فهي ابتكار محجوز للعرب والذكور فقط. ورغم أنه حصل كثيراً أن تحدى أعجمي هذه المعادلة وأطلق على نفسه لقب الخليفة، كما حصل إبان الخلافة العثمانية مثلاً، إلا أنه لا توجد امرأة على مرّ التاريخ تحدت ذلك التقليد العنصري.
وتلاحظ المرنيسي أن الشخصيات النسائية التي فازت بالإدارة الدنيوية للبلاد لم تتمكن من ذلك إلا بعد تزعزُع مركزية الخلافة الإسلامية وتبعثُر السلطان على ولايات. ومع ذلك، كان الخليفة يمتنع في غالب الأحيان عن المباركة الروحية لمنصب المرأة الجديد، فتبقى ضعيفة وتستقوي عليها الولايات المجاورة، كما حصل على سبيل المثال مع شجرة الدر في مصر. لذلك كانت المولعات بالسياسة والسلطة يحتجن غالباً إلى سند أب أو ابن مُحِب أو عشيق ولهان بمرتبة خليفة/رئيس دولة، ولذلك أيضاً لم يكنّ يوفّرن الحيلة ولا الأساليب الذكورية في الحصول على المناصب (كالحرب والقتل). كنّ يقمن بكل ذلك انطلاقاً من موقعهنّ في الحريم، لأنهن يَعينَ أهمية الحفاظ على الخط الفاصل بين المجالين العام والخاص. فطالما اضطُررن لمواجهة جماعات تريد أن تلحق الأذى بمصالحهنّ باسم الروحانية والدين. وتستنتج المرنيسي من كل هذا أن الجنس والسياسية مرتبطان تماماً، بحيث يستحيل تمييز أحدهما عن الآخر، ولا سيما في الثقافة الإسلامية التي ترمز فيها علاقات الرجال بالنساء لعلاقة سلطة المجتمعات التي حددت هوية الرجل ورجولته بقدرته على تحجيب المرأة ومراقبتها.
ومن اللافت أن السلطانات الإسلاميات اللواتي أُذيعت أسماؤهن في خطب المساجد وسُكت النقود على شرفهن أثناء حياتهن، كن دائماً مسلمات من أصول غير عربية. هل يدل ذلك يا ترى على أن التقاء الإسلامي بالعربي يزيد من التسلط الذكوري؟ وكيف يحصل ذلك؟ في معرض بحثها عن جواب، تتفاجأ المرنيسي بالعثور على عددٍ من الملكات العربيات اللواتي نسيهن التاريخ تماماً، لا أحد يأتي على ذكرهنّ، حتى صارت قصصهن تبدو خرافية كما لو أنها قادمة من ألف ليلة وليلة. وهنا نصل إلى أحد أخطر أسلحة الحريم: حجاب النسيان! نسيان تاريخ جميع النساء، ومن بينهن الملكات، ونسيان مشاركتهن في صنع التاريخ والحياة ودفنها في اللاشعور. تشجّع المرنيسي على فك حصار هذا الحريم من خلال النبش في المكتبات، وبالأخص كتب الذين عُرِف عنهم أنهم عارضوا السلطة، لأنهم سيكونون مياّلين لالتقاط الأصوات المهمّشة والمعارضة أكثر من غيرهم. كما تؤكد على أهمية قيام النساء بهذا العمل بأنفسهن، لأن أهم العلماء الذكور أثبتوا عن جدارة أنهم سوف يتناسون، فينسون، النساء.
كما تتساءل المرنيسي ما إذا كان مشاركة المرأة السياسية قد تحسنت في العصور الحديثة، وتجيب أنه رغم قبول بعض البلدان الإسلامية اللعبة الديمقراطية شكلياً، إلا أن ميادين السياسة ما زالت حكراً على الرجال حتى الآن، بل هي أشبه بـ«مقصورات الحريم»، كلها جنس واحد. جنس واحد يفكر ويُجهد نفسه لتنظيم مسألة الجنس الآخر في غيابه. وهذا لأننا ما زلنا مجبرين ضمنياً على العمل على مسرح مزدوج، فإلى جانب المسرح الخليفي التقليدي الذي يتميز به الشعب بالسلبية، ينتشر منذ نهاية الاستعمار والوصول إلى الاستقلال مسرح ثانٍ، المسرح البرلماني، حيث يُمنح الشعب فيه عقلاً ويتمتع بكل الحقوق بما في ذلك حقه بتعيين رئيس الدولة الأعلى، الأمر الذي يمكن أن يوصل إلى مزاعم مضللة كانتخاب امرأة. ما زلنا نتأرجح بين هذين المسرحَين المتعارضين، وغير قادرين على حسم أمورنا، فتُستنفد طاقاتنا في ذلك الرقص المعتوه.
الحريم العائلي
يتواتر أن ولع المرنيسي بالحريم نابع من أيام طفولتها، حيث تربّت في حريم محافظ في مدينة فاس في زمن كانت النساء يحاولن تجاوز الحدود ويخترقنها باستمرار. وقد روت لنا الكاتبة قصة ذلك الحريم في سيرتها المتخيَّلة التي أطلقت عليها عنوان نساء على أجنحة الحلم (1998)، والتي نجد فيها محاولات واضحة ومباشرة لتعريف المصطلح. فقد كانت فاطمة الطفلة وقريبها الصغير سمير منشغلين بمعاني تلك الكلمة الغامضة التي طالما طرقت سمَعَيهما، إلا أنهما كانا يتجنبان طرح تساؤلاتهما على نساء العائلة خشية التسبب في نشوء شقاقات بين المسنّات الممثلات للأعراف وبين الشابات التواقات إلى كسر جدران الحريم نحو الفضاءات الرحبة. وبما أن الجدران عالية ومصمتة، لا يتسنى لحبيسات الحريم العائلي – مبدئياً – سوى أن يمتطين أجنحة الحلم التي تحملهنّ مع الحكايا الليلية والمسرحيات المنزلية إلى فضاءات لا تخطر على بال.
تقدم المرنيسي في كتابها معالجة أدبية ساحرة لأجواء الحريم المديني والقروي. ذلك أن بطلة الرواية الصغيرة تتنقل بين حريم المدينة، حيث تسكن مع عائلة أبيها الكبيرة، وحريم الضيعة، حيث تسكن جدتها لأمها. حريم المدينة له أسوار عالية وحارس يقف أمام الباب، أما حريم الجدة الياسمين فكان بلا أسوار، إلا أنه كان بطريقته مرادفاً للشقاء، لأنه يضطر الجدة أن تتقاسم زوجها مع سبع نساء أخريات. وهنا تُوسِّع المرنيسي استخدامها لكلمة الحريم، ليشمل كذلك علاقة التملُّك المُهينة التي تتسم بها مؤسسة تعدد الزوجات المقبولة قانونياً في معظم البلدان الإسلامية. أرى الربط بين تعدد الزوجات والحريم في غاية البداهة، ومع ذلك قلما سمعنا النِسويات العصريات يوظّفن مصطلح الحريم في جدالاتهنّ السياسية التي تهدف إلى إصلاح مؤسسة الزواج. بل على العكس، لطالما لاحظتُ إنكار الناس لوجود الحريم في عصرنا الحالي، لأنهم يربطون الحريم ذهنياً ببلاطات ملوك وأمراء العصر الذهبي للإسلام، مع أنه ما زال يبرز حرفياً في معاملاتنا وقوانينا الحالية. ثمة قدسية دينية تكسو الحريم، وهي التي تحول دون تسمية الأمور بمسمياتها.
كما تتحدث المرنيسي على لسان جدتها الياسمين حول أكثر أنواع الحريم شموليةً؛ إنه الحريم اللامرئي الموجود في رؤوسنا و«المسجَّل في الجبين والجلد». يجعلنا الحريم اللامرئي نُذعن لقوانين وقواعد غير مرئية كيلا ينالنا سوء. والعلامة الفارقة الوحيدة التي تجعلنا نكتشف ذلك النوع من الحريم هو العنف الذي نواجهه حين نحاول هتك تلك القواعد والقوانين التي غالباً ما تكون ضد النساء حصرياً. الحل العملي الذي تقدمه الجدة ياسمين لحفيدتها فاطمة هو ألا تبحث عن الأسوار لترتطم بها عنوة، أي المرونة والدهاء لتخفيف الألم.
نساء على أجنحة الحلمعبارة عن دعوة إلى جميع النساء إلى تعبئة طاقاتهنّ ليَفردنَ أجنحتهنّ، ويتمردنَ على حدود المكان عبر الخيال والحلم واللغة التي سوف تعبّد السبيل إلى واقع يليق بإمكانياتهنّ ومواهبهنّ الكامنة، كما حصل مع الطفلة فاطمة حين كبرت وأصبحت كاتبة. وبودّي في هذا السياق أن أورد مقتطفاً عزيزاً من كتابها الذي أثمّنه كهدية قدمته لي إحدى أمهاتي النِسويات المحبات. ذلك أنها، أي المرنيسي، تكشف فيه عن سرّ الحرية على لسان بطلتها الصغيرة (ص 218):
«سمعتُ عمتي حبيبة وأمي يتحدثن عن حثّ النساء على أن يدعن الأجنحة تنبت لهن، وكانت عمتي تزعم بأن في مقدور الكل التوفر على أجنحة، والمسألة مسألة تركيز فقط. إن الأجنحة المعنية ليست ظاهرة كأجنحة الطيور، ولكنها تؤدي دورها على أحسن ما يرام، وكلما تعودنا على التركيز ونحن صغار، كان الأمر أفضل. وعندما ألححت عليها لكي تشرح أكثر، تضايقت وأخبرتني أن بعض الأشياء العجيبة لا تلقَّن: ما عليك إلا أن تكوني يقظة وتلتقطي الحفيف الحريري للحلم المجنح. ولكنها رغم ذلك أوضحت لي بأن هناك شرطين ضرورين للتوفر على أجنحة: أولهما أن تُحسي بنفسكِ محاصرة في دائرة، وثانيهما أن تؤمني بأنك قادرة على فك حصارها».
الحريم الأوروبي
بعد ترجمة سيرتها المتخيلةنساء على أجنحة الحلم إلى عدة لغات، قامت المرنيسي بجولة في أوروبا للترويج لكتابها. والذي لفت انتباهها هو أن معظم الصحفيين الرجال الذين قاموا باستجوابها كانوا يبدأون بالسؤال التالي: «أنت ولدتِ في حريم إذن؟». ولكن ليست هنا المشكلة طبعاً. الغريب هو تلك الابتسامة غير البريئة التي كانت تعلو وجوههم جميعاً أثناء طرح السؤال. كيف يمكن لهذه الكلمة المنطوية على الألم أن تُثير الضحك، وما هو الطريف في موضوعة الحريم؟ وانطلاقاً من ذلك السؤال، بدأت المرنيسي رحلة بحث طويلة أدّت إلى خط كتابين، أحدهما عبارة عن خربشات لأفكار تبلورت في الثاني.
في شهرزاد ترحل إلى الغرب (2001) تحاول المرنيسي فهم الرجل الغربي من خلال الفن وبعض ما كتبه الفلاسفة. تقرأ كانط مثلاً، فيلسوف التنوير، وتستغرب فصله بين الجمال والذكاء: المرأة عنده تكون إما جميلة أو ذكية. يا له من خيار فظيع تواجهه المرأة الغربية إذن. وتتوصل المرنيسي إلى استنتاج تعميمي بأن الحريم الأوروبي لا يقسّم العالم إلى خاص (للنساء)، وعام (للرجال)، وإنما يفصل بين الجمال (للنساء) والذكاء (للرجال). ويا لها من عملية انتحار إذن حين تحاول المرأة تطوير ذكائها ومعرفتها.
وعندما تتفرج المرنيسي على أفلام الحريم في الهوليود، لا تشاهد سوى الأمراء الراضين جداً عن أنفسهم، والجاريات المتحلقات من حولهم دون حقد أو شكوك. كما تتمعن جيداً في لوحات إنغر وماتيس وبيكاسو المكتظة بالنساء العاريات أو نصف العاريات، والمستسلمات لنظرات الفنانين الذكورية. معظمهم كانوا مولعين بالمحظية التي استوردتها مخيلتهم من بلاط السلطان العثماني لتُطري بخضوعها على بطولاتهم الشخصية. لوحات مليئة بالنساء الشرقيات المضطجعات على الأرائك المخملية، أو المتكدسات في الحمام التركي، واللواتي يوحين بالسلبية الجنسية، ولا يشكلن خطراً على الناظر إلى الحريم المتخيل. المتلصص على لوحات الحريم يشعر بالأمان بشكل عام.
أما الرجل العربي أو المسلم، بحسب المرنيسي، فيُداهمه الإحساس بالخطر حين يكون وسط حريمه، وبالكاد يُخفي خوفه من النساء اللواتي سوف يستخدمن قدراتهنّ الكامنة عاجلاً أم آجلاً. الحريم الأوروبي (المتخيل) لا يشبه الحريم الإسلامي في شيء، إنه صورة مبسطة ومشوهة عن الأصل، ولا يعبر سوى عن الرجل الغربي وعلاقته هو مع المرأة. وهنا تتساءل المرنيسي ما إذا كان العنف الممارس ضد المرأة في الحريم الإسلامي نابعاً عن الاعتراف بأنها كائن يملك عقلاً خطيراً، وما إذا كان الارتياح عند الرجل الغربي نابعاً عن تصور المرأة ككائن عاجز عن التفكير والتحليل.
برأيها، الحريم الإسلامي مكاني بالدرجة الأولى ويفصل بين الداخل والخارج، أما الحريم الأوروبي فهو زماني، ويفصل بين اليفاعة والتقدم بالسن. الأول يُحَجّب المرأة بعيداً عن ميادين الحياة العامة، والثاني يحبسها في طور الطفولة وينبذها عندما تنضج. يبدو لي أن المرنيسي محقة إلى حدٍ ما، وبالأخص عندما نتمعن في عالم الموضة الأوروبي والدعايات التي تروّج لطفولة المرأة الأبدية. العنف في الحريم الأوروبي غير مرئي، لأنه لا أحد يهاجم التقدم بالسن بشكل مباشر، بل يخفونه وراء قناع الأذواق الجمالية.
ولكن بالرغم من وجاهة تلك الفكرة، إلا أني أعتقد أن الحريم الإسلامي ليس بريئاً تماماً من قيود الجمال والزمن. وإلا فمن أين جاءنا زواج القاصرات؟ ولماذا تخاف المرأة الناضجة أن يتزوج زوجها عليها بامرأة تصغرها سناً؟ ولماذا تُصاب بعض الشابات بداء الريجيم؟ ربما المرأة العربية ليست ضحية الجمال ومقاسات الخصر المذهلة بالقدر الذي تعاني منه المرأة الأوروبية، ولكن ذلك لأنها مازالت حبيسة المكان واللباس «الشرعي» والحجاب، ولم تختلط بحرية في عوالم الرجال إلى درجة تضطرها إلى تقييم يفاعتها من خلال مقاس خصرها واحمرار خدّها.
وعندما تقارن المرنيسي بين الحريم الأوروبي والحريم الإسلامي كما عرفناه عند السلاطنة والخلفاء، أستغرب أنها تهاجم الأول بشراسة وتبتكر الأعذار الخجولة للثاني. من أين جاء تسامحها مع الخليفة هارون الرشيد فجأة، وبخاصة أننا نعلم أن الحريم شهد ازدهاراً غير مسبوق في العهد العباسي؟ ألا يتواتر أن ذلك الخليفة بالذات كان يمتلك ألف جارية أعجمية؟ وألا تبالغ برمنستها لحياة الجاريات اللواتي قدرنَ برأيها على التملص من قدرهنّ الحزين عبر التميز عن الأخريات؟ وكيف تتخذ المرنيسي من شهرزاد الجميلة والمثقفة أمثولة لها دون أن تتوقف طويلاً عند النساء اللواتي قتلهن شهريار قبل تآلفه معها؟ على الأرجح أنها قلقة بخصوص تفوق الغرب (المستعمِر السابق)، ومن فوقيته حيال التاريخ الإسلامي، مما يدفعها لتذود عن تراثها برومانسية وتفاؤل مجحف. كم كان الحال أفضل لو أنها هاجمت الحريمَين، الإسلامي والأوروبي، بالضراوة ذاتها! هذا التطور في مسار الكاتبة يوحي بتحول بطيء مع مرور الزمن. يبدو أن المرنيسي الشابة كانت أقل ميلاً للتفاوض مع التراث الإسلامي من المرنيسي الأكبر سناً.
وقد كتبت المرنيسي كتاباً آخر قد يكون مفيداً في فهم جوانب أخرى من الحريم في أوروبا: هل أنتم محصنون ضد الحريم؟ (1998). أحد الأسئلة التي طرحتها كانت من يكون صاحب القرار في مدينة (أوروبية) تعمل فيها النساء؟ إنه سؤال جوهري في الحضارة الحديثة. يبدو بالفعل أن المرأة (سوف) تواجه أنواعاً جديدة من الحريم والمقاومة حالما تخرج إلى العمل وتتقدم في مشوراها التحرري، كما حصل مع المرأة الأوروبية مثلاً. إن نموذج عارضة الأزياء الطفلة الهشة المنتشر في أوروبا، والمحبوب من قبل الفتيات، ليس سوى أحد أساليب «تعويض» المرأة عن تفوقها المهني والمادي وخروجها عن حدود الحريم. في رأيي، لا بدّ أن هنالك أساليب لم نخبرها بعد في ردّ المرأة إلى موقعها في الحريم إثر كل محاولة خروج منه، وقد تساعدنا دراسة الحريم الأوروبي على استشراف المستقبل بهذا الخصوص.
الحريم ختاماً
ما الذي دفع المرنيسي إلى بذل كل هذه الكلمات في سبيل وصف ظاهرة الحريم وفهمها؟ أعتقد أنها حاولت عبر هذا النموذج التبسيطي النفاذ إلى لبّ المشكلة القائمة بين الرجال والنساء، ألا وهي الفصل بكل أنواعه بين الجنسين والذي يميز العالم الإسلامي أكثر من غيره. الحريم نموذج تحليلي محلي قدمته المرنيسي لنا لنضع معاملاتنا وسلوكياتنا وعواطفنا وأخلاقياتنا تحت المجهر، ونكشف عن خوف الرجال من النساء الذي يدفعهم إلى حصرهن في المكان، وإيجاد شتى الرموز والطرق للحدّ من نفوذهن وتمكين القبضة عليهن. وبهذا ندرك أن اضطهاد المرأة بكل أشكاله نابع عن بنية تحتية عميقة اسمها الحريم، وأقصد بالاضطهاد ما نخبره من حَجب المرأة إلى الحد من حرية حركتها، من تزويجها الباكر إلى تطليقها التعسفي، ومن الشتيمة الجنسية إلى رجمها بالحجارة، ومن منعها عن التعليم والعمل إلى تحريم ممارسة السياسة عليها، ومن حصرها في دورها البيولوجي إلى مصادرة جنسانيتها إلخ. ولن نتخلص من كل هذا البُغض حيال النساء في المجتمع إن لم نعِ أبعاد المشكلة الكبيرة وتجذّرها، ونحاول جميعاً الانتباه لتغلغلها العميق في لغتنا ومشاعرنا ومعاملاتنا. من لا يرى الحريم في التفاصيل، لن يتمكن من الخروج منه وهدمه.
ولكن ما هي الحلول التي قدمتها المرنيسي؟ في الحقيقة لا تملك كاتبتنا الوصفة السحرية التي تخلّصنا من أنواع الحريم دفعة واحدة. ولكنها كانت بعملها الفكري أمثولة تحتذي المرأة بها: لم تكن كسولة، ولم تخَفْ من المحرمات، وتجرأت في مرحلة ما على الغوص في أصعب المواضيع وأكثرها حساسية. وأعادت بعض شغل الأئمة والعلماء المسلمين من منظار امرأة تتوق للحرية ومؤمنة بكيانها الأنثوي وقدراتها. كما نبشت في سير بعض الشخصيات النسائية التاريخية وأعادت صياغتها. تؤمن المرنيسي بالكتابة إلى أبعد الحدود، وتريد للمرأة أن تخرج من طور الشفوية الذي تحبس نفسها فيه منذ عصور، لتتسلق القلم، مودّعة الصمت-الحجاب.
ومن اللافت في هذا الصدد انبهار المرنيسي بشخصية شهرزاد التاريخية وتماهيها بها. أُعجبت المرنيسي إلى أبعد الحدود بتلك المرأة الذكية، المثقفة، ذات القدرات الاستثنائية، والتي تمكنت من التخلص من جبروت الرجل (شهريار)، وإبطال عنفه، وشفاء روحه الحائرة، عبر جعله يفهم ذاته من خلال رواية قصص شقاء الآخرين. من خلال معرفتها الواسعة وإتقانها للّغة وفن الحكاية، تمكنت شهرزاد من النجاة من الموت بعد ألف ليلة وليلة، وأوقفت المجزرة التي كانت تطال نساء عصرها. من خلال طرحها لشهرزاد كأمثولة أنثوية في أكثر من موضع في كتاباتها، يبدو أن المرنيسي تؤكد على كون اللغة والكلمات والحكاية، أي الثقافة، الوسيلة الجبارة التي ستساعد النساء على الخروج من ذلك الحريم الرمزي والمجالي الذي كلّفهنّ كثيراً من العذابات عبر التاريخ. وبالفعل خاضت المرنيسي مشروعها الفكري والكتابي المديد كإحدى شهرزادات عصرها النادرات.
حاولت المرنيسي إعادة النظر في تاريخها من منظور أنثوي. وإحدى أهم محاولاتها الفكرية في رأيي هي تنويهها في أكثر من مكان إلى تقصير العلماء المسلمين بإعداد مخططات نظرية تبرز المبادئ المحورية لدين الإسلام. تقول المرنيسي في كتابها الحريم السياسي إن الإسلام فلسفة ورؤية حضارية كان على العلماء أن يشتغلوا عليها بطريقة تركيبية، وألا يكتفوا بوضع الآراء المختلفة إلى جانب بعضها بعضاً. بل كان يتوجب عليهم أن يكملوا شق الطريق الذي مشى عليه النبي، والذي كان سينتهي مع الوقت إلى نوع من إعلان حقوق الإنسان – يشبه بالخط العريض الإعلان العالمي لحقوق الإنسان – ويُعنى أكثر بإلغاء التمييز ضد النساء والرق. وأضيف على ما قالته أن الزمان لم ينتهِ بعد، وما زال الأمر ممكناً، على شرط أن تشارك بهذا المشروع العظيم كثير من الأقلام النسائية النِسوية.
بالإضافة إلى الشغل النظري الذي قدمته المرنيسي، نجد في عملها بعض الدراسات الميدانية التي جعلتها تعي وضع النساء في بلادنا بشكل جيد، وتكتشف مدى أهمية العمل والتعليم بالنسبة لتمكين المرأة. كنتُ قد تطرقت إلى موضوعة العمل في فقرة الحريم الاقتصادي. أما بالنسبة للتعليم، فالمرنيسي لديها الثقة الكاملة أنه سوف يعمل على تقويض أسس الحريم. وهي لا تقصد طبعاً أن تتوفر بعض الفرص التعليمية الممتازة لنساء النخبة، لأن هذا لن يزيد الطينة إلا بلة، وسوف تنقسم النساء فيما بينها إلى نخبة متعلمة وخادمات أميّات. فالرجال لن يساعدوا النساء، وستضطر المتعلمات إلى الاعتماد على نساء الطبقة الدنيا لإتمام أعمال المنزل، ريثما يرجعن من أشغالهن المهنية والثقافية منهكات.
ما تطمح إليه المرنيسي فعلاً هو أن ينتشر التعليم في كل أنحاء المجتمع وطبقاته، بين الأغنياء والفقراء، الصغار والكبار، الذكور والإناث، وأن يحصل الجميع على تكوين مهني يؤهّلهم للعمل المثمر والعيش الكريم. حين نتعرف على نسبة الأمية بين النساء القرويات في بلدها الأم المغرب، لن نستغرب اهتمام المرنيسي الكبير بتعليم المرأة والقضاء على الجهل بشكل عام.
وسوف أكتفي في هذا السياق باقتباس مقتطف جميل من كتابها شهرزاد ليست مغربية (ص 77):
«فكرة تعلّم النساء كانت مدنّسة لدى كثير من العلماء. وهم محقون في ردة فعلهم، لأنها فكرة انفجارية تدمّر الهندسة الجنسية التي تقسّم المكان إلى داخل وخارج، إلى أمكنة للنساء وأمكنة للرجال؛ هندسة تعرّف الذكورة على أنها نبذ للأنوثة ومحوٌ لها. لذا يُفترَض بالذكورة لكي تؤكد على نفسها من الآن فصاعداً أن تمتلك معايير مختلفة عن النبذ والسلبية وغياب النساء. كان هذا انهيار المدينة التي هندسها الأجداد، حيث النساء أفاعٍ سامّة يجب وضعها بعيداً في الأمكنة ’الحرام‘ القاتمة والصامتة ليستتب النظام. وتصدّع هذه الهندسة التي تضفي صفة الجنس على المكان وترفض لقاء الذكوري بالأنثوي سيتم بفضل التعليم».
وأضيفُ أن التعليم خطوة في غاية الأهمية على الطريق، ولكنها لا تكفي. يتطلب الأمر الشجاعة أيضاً. فمن تجربتي الشخصية ومراقبتي لمحيطي، يمكنني الجزم أن تعليم النساء يزيدهنّ وعياً وألماً على حد سواء، ولكن الشجاعة هي الوحيدة الكفيلة بتحطيم الجدران الفيزيائية والرمزية على المدى البعيد. الحريم مرادف للغياب الأنثوي الجماعي، وأي حضور لامرأة شجاعة سوف يفضي إلى حريتي أنا أيضاً. رغم أن لكلٍ منا ظروفها وحياتها، إلا أن كل واحدة قادرة على توسيع الدائرة الصغيرة من حولها والحفر في قيودها الشخصية بأسلوبها الخاص.
التحديات مختلفة، ومتفاوتة في حِدّتها، ومتعددة بعدد النساء على وجه الأرض، ولكن الحريم واحد في جوهره، وكل غرفة منه تُفضي إلى الأخرى. كل امرأة تتحدى القوانين والعادات البائسة هي مكسب، كل امرأة تظهر في الإعلام هي مكسب، كل امرأة تكتب عن جراحنا بأسلوب أدبي ممتاز هي مكسب، كل امرأة تربي طفلها/طفلتها على العدالة والمساواة هي مكسب، كل امرأة تفكر، تتكلم، تعمل، تتعلم، تبني، تزرع، تحصد، تصنع، تدرِّس، تربي، تقرأ، تدوّن، تكتب، تترجم، ترسم، تغني، ترقص، تحلم، تفهم، تسعى، تجري، تقود، تظهر، ترفض، تغضب، تصرخ، تتظاهر، تثور بوعي نِسوي عميق، هي مكسب. وكل رجل شجاع يُعيد النظر في معاني الذكورة والأنوثة ويمدّ يد العون بتواضع هو مكسب. الحريم في كل مكان، والثورة عليه كذلك.
المراجع
أدوّن هنا عناوين كتب المرنيسي التي ناقشتُها. واجهتُ صعوبة في معرفة تواريخ الصدور، وهذا لأني لم أقرأ الأعمال باللغة الأصلية، أي الفرنسية، وإنما بالترجمة العربية أو الهولندية أو الإنكليزية. فضلاً عن أن هناك أكثر من نسخة منقحة لبعض الكتب، وأخرى صدرت بأكثر من عنوان. حاولت تسجيل أقدم التواريخ التي وجدتها والمرتبطة غالباً بالنسخة الفرنسية، ولكنها تبقى تقريبية في بعض الأحيان. يُذكَر أن فاطمة المرنيسي عبّرت عن تفضيلها للترجمات العربية التي قدمتها فاطمة الزهراء أزرويل على الترجمات العربية الأخرى لكتبها.
العذرية والبطريركية: مقالة علمية (1982)
نساء الغرب: دراسة ميدانية (1985)
السلطانات المنسيات (1990)
الحريم السياسي: النبي والنساء (1992)
ما وراء الحجاب: الجنس كهندسة اجتماعية (1997)
نساء على أجنحة الحلم ( 1998)
هل أنتم محصنون ضد الحريم؟ (1998)
شهرزاد ترحل إلى الغرب (2001)
شهرزاد ليست مغربية (2002)
*موقع الجمهورية