لم يكن مفاجئاً أن تحصد الكاتبة الفرنسية بريجيت جيرو Brigitte Giraud بروايتها «العيش سريعاً» جائزة «الغونكور» لهذه الدورة من سنة 2022؛ أهم جائزة فرنسية، ومن أهم الجوائز الأدبية عالمياً. وبفوزها تصبح بريجيت جيرو، المولودة في مدينة سيدي بلعباس بالغرب الجزائري (1960)، التي تعيش في مدينة ليون منذ زمن طويل، المرأة الثالثة عشرة من اللواتي فزن بها منذ قرن وعشرين سنة… أي منذ إعلان الأخوين غونكور عن إنشائهما لهذا الجائزة، عام 1903.
ياه… كم يعتبر عددهن ضئيلاً! ولكن ليس هذا وقت نقاش هذا الموضوع. المهم الآن أن هذه الكاتبة المتميزة ستتسلم، بسعادة قصوى، ورقة 10 يوروات فقط، ولسوف تضعها في إطار أنيق، وتعلقها في مكان الصدارة في بيتها، ولن تأتيها الفكرة الساذجة كي تضيفها لرصيدها في البنك إذا كانت تملك رصيداً!
لكن الكاتبة المتوجة وناشريها، يعرفون حق المعرفة، بالتخصص والتجربة، والوجود في بقعة جغرافية ما زال سكانها يقرأون، أن مبيعات الرواية الفائزة: «العيش سريعاً» (Vivre vite)، بل وجميع أعمالها، ستتجاوز مئات الآلاف من النسخ، وستدرّ عليهم أرباحاً معتبرة، وستكون الرواية المتوجة، المزين غلافها بحزام الغونكور الأحمر القاني، من أهم هدايا الأحباب للأحباب، في أعياد الميلاد ورأس السنة الجديدة التي على الأبواب.
بريجيت جيرو الروائية التي تكتب في صمت وهدوء، درست الأدب وعملت في الترجمة والنشر، والنقد الموسيقي في جريدة «لو موند» (Le Monde)، وهي المفتونة بموسيقى الروك مثل زوجها الراحل كلود الذي هو الآخر من مواليد الجزائر، وكان صديقاً للمغني الجزائري رشيد طه الذي غادرنا عام 2018. وكرست بريجيت جيرو جل حياتها للكتابة، فألفت أكثر من عشر روايات، ومجموعة قصصية، ومسرحية، وقصصاً للأطفال، وفيلماً تلفزيونياً اجتماعياً بعنوان «لا تقلق». وكان أول عمل روائي صدر لها بعنوان «غرفة الوالدين» سنة 1997. ثم بعد عشر سنوات من صدور هذه الرواية، أي في سنة 2007، حصلت بريجيت جيرو على جائزة الغونكور للقصة القصيرة.
لا يخفى على قارئ أعمال بريجيت جيرو ومتابع مسيرتها الأدبية، أن العامل المركزي لفلسفة العمل الإبداعي في كتاباتها هو ذلك الحدث المفجع الذي أودى بحياة زوجها كلود سنة 1999 في حادث دراجة نارية قاتل وهو في طريقه إلى إحضار ابنهما من المدرسة. وكان هذا الحدث المأساوي هو العمود الفقري المكسور الذي تحاول الكاتبة بهشاشة وقوة غريبتين أن تتركه كما هو، لا أن ترممه، بل تدور حوله وحول وجعه كأنه تميمة لا تستطيع العيش ولا الكتابة دونها.
وأنت تقرأ رواية «العيش سريعاً» بصفحاتها الـ208، وبأسلوبها الأدبي المنساب ولغتها العذبة في بساطتها، تجد نفسك تتغلغل في عالم الروائية الخاص- السيرذاتي، بينما هي أمامك تعيد ترتيب قطع الروح مرة أخرى إلى الحكاية الفاجعة؛ فترويها بتأنٍّ، وترسم حولها الخطوط، وعلامات الاستفهام، وعلامات التعجب، والبياض، والنقاط المتواصلة. وتتوالد بين أصابعها الأسئلة الوجودية، وتتداعى اللّاأجوبة. وأنت تقرأها تتذكر ما قرأتَه للروائية آني إرنو، المتوَّجة بجائزة نوبل للآداب لهذا العام أو لمارغريت دوراس، وهما تُعِدّان نسج منديل حكاية الوداع الموجعة.
إنها في «الحياة سريعاً» تعيد استكشاف وتشريح ذلك الحدث المأساوي الذي ذهب ضحيته زوجها كلود بسرعة البرق ودون سابق إنذار، من خلال سؤال جوهري فلسفي يبدأ بـ«لو»، وكأنها تريد أن تعيد ترتيب العالم والزمن بوقائعه وصدفه. إنها ومن خلال سردها لا تلعن القدر بل تسائله. ولا تعاتب الزمن ولا تتهم أحداً ولا تتشاءم من شيء، بل إنها تحاصر الوجود الإنساني بالأسئلة الجارحة في بعديه الذاتي والجمعي. ويظل السؤال المقلّب على أوجهه الستة عندها قائماً على الفكرة المؤسسة للوجود والعدم: ماذا لو أنني؟ ماذا لو أنه؟ ماذا لو كان قد…؟ لا ترفع بريجيت في روايتها دعوى قضائية ضد أي شيء أو أحد، بل تغوص في النفس الإنسانية حتى لتبدو مثل يمّ لا حدود له، متضاربة أمواجه التي لا تهدأ.
ورغم أن لجنة التحكيم آثرت نص «العيش سريعاً»، الذي وجد صداه على ما يبدو في الشعور العام ومسَّ أعمق عصب في أعضائها، إلا أن تسرب الأخبار من مداولات أعضاء أكاديمية الغونكور، يفيد بأن الاختيار لم يكن سهلاً، خصوصاً أنه كانت هناك منافسة شديدة بين هذه الرواية ورواية «ساحر الكرملين» Le mage du Kremlin لجوليانو دا أمبولي Giuliano Da Empoli، التي استعرضتها «الشرق الأوسط» سابقاً. لكن بعد أربع عشرة مداولة، وبالانتخاب المتعادل، كان لا بد لرئيسها، ديديي دوكوان Didier Decoin – كما صرح بذلك – أن يستعمل حقه في صوته المزدوج، كي يحسم الكفة لصالح «العيش سريعاً» ثم يقبّل يد كاتبتها تقديراً أثناء حفل التتويج.
بريجيت جيرو، هذه الكاتبة المتواضعة، المتوارية، لم تطل الكلام أمام حقل من الكاميرات، وبحر من الصحافيين أثناء حفل الإعلان التقليدي عن النتيجة في مطعم دروان بباريس، بل بكل بساطة تقدمت مترددة ثم شكرت اللجنة، والناشرين لها، وقراءها. وفكرت في ابنها، وذكرت زوجها كلود، وأكدت أن إشكالية «العيش سريعاً» بقدر ما هي حميمية فهي إنسانية، وأن الجائزة ليست لشخصها بل هي لبستان الأدب العالمي الذي تحفر فيه منذ سنين طويلة.
*الشرق الأوسط