رامي الأمين: سوريون يموتون من البرد: أين يضرب الصقيع الفراشة؟

0

استيقظ باكراً مع برد خفيف. رعشات بسيطة تضرب أطرافي. أفتح الستائر لتدخل الشمس. اليوم انجلت الغيوم بعد العاصفة. أشعر بحرارة الضوء. أسخّن الحليب وأضيف إليه القهوة وأجلس على مكتبي أمام اللابتوب لكتابة هذه السطور. لا أزال أشعر بالبرد، مع ان البيت دافئ، و”الشوفاج” يشتغل بشكل طبيعي. حصلتُ على كمية لا بأس بها من المازوت يفترض ان تكفي حتى آخر الشتاء. لكن البرد يضربني في العظام. ثم يتسلل إلى الرأس. ألجأ إلى ميزان الحرارة. أضعه في أذني وأضغط على “الزناد”: 37 درجة مئوية. هذه حرارة الجسم الطبيعية. لكن من أين يأتي كل هذا البرد؟

أترك غرفتي واذهب إلى غرفة طفليّ، أطمئن إليهما. ألمس جبهتيهما، بأصابعي الباردة، لاتأكد انهما ينامان دافئين. أعود إلى تماسي مع الورقة البيضاء في الشاشة. ثلج كثير هذه الورقة. حقول لا تنتهي من الثلج المتراكم كسجّادة أبدية. ولا أعرف من أين ابدأ الكتابة عن أثر البياض على الموتى. ارتعش من الداخل، وانا لم اكفّ عن التفكير في السيدتين والطفلين الذين عثر الدفاع المدني اللبناني على جثثهم في جرود قرية بقاعية، وقد ماتوا جميعاً “من البرد القارس”. هذا سبب الوفاة، كما أعلنه محافظ بعلبك الهرمل في تغريدة. والتغريدة باردة كفراشة ميتة. 

منذ ان قرأت التغريدة والبرد يحاصرني. ينخر في عظامي، وتهبّ في رأسي رياح قارسة. كيف يموت الناس من البرد؟ لوقت طويل كنت أظنّ عبارة كهذه مبالغة مجازية، للتعبير عن البرد القارس. نقولها ببساطة ولا نعنيها حقاً: “اغلق النافذة حتى لا نموت من البرد”. أو: “أشعل المدفأة أكاد أموت من البرد”. ولا نعرف شيئاً عن الموت من البرد. لم أفكر في معنى العبارة يوماً. كانت تمرّ “مرور الكرام” على مسمعي، حتى تجمّدت بعد قراءة تغريدة المحافظ: طفلان وسيدتان ماتوا جميعاً من البرد القارس. لا استطيع النوم بعد قراءة الخبر، وكعادتي مع الأرق والقلق، ألجأ إلى غوغل: “عندما تبدأ درجة الحرارة في الانخفاض يبدأ جسدنا بالارتعاش كرد فعل لإبقائنا دافئين، حيث يعمل الانقباض والانبساط المتسارع لعضلات أجسامنا على إنتاج الحرارة”. ارتعش الطفلان طويلاً، هناك في الجرد. وارتعشت معهما أمهما واختها. انتفضت الأجساد الأربعة كردّ فعل للإبقاء على الحرارة في العراء، والثلج يتساقط موتاً أبيض. ماذا يقول غوغل أيضاً؟ “ما إن تصل درجة حرارة أجسامنا إلى 32 درجة مئوية يبدأ معدل تنفسنا وضربات قلبنا في الانخفاض إلى درجات خطرة. سيؤدي هذا في النهاية إلى فقدان الوعي، ولكن قبل أن يحدث هذا يبدأ الشخص بالشعور بالارتباك، بالتحدث والتفكير بخمول، بل إن البعض يختبر فقداناً متقدماً للذاكرة”. هل أطفأ البرد نيران ذاكرة الطفلين؟ هل جمّد اشتعال سمائهما بالبارود والنار وذكريات هربهما من سوريا وعودتهما الآن للعبور العكسي، هرباً، إلى بلادهما؟ كيف يهرب مواطن إلى بلده؟ لا شكّ ان رحلة كهذه ستكون قارسة، حتى ولو في عزّ الصيف. هل قال الطفلان شيئاً؟ اي شيء؟ هل صرخا؟ 

غوغل يقول إن الدماغ في حالة البرد القارس يدفعنا إلى “الحفر النهائي”، وهو “سلوك غريزي يدفعنا للوصول إلى مكان آمن بالحفر في الثلج أو الإندفان تحت شيءٍ ما كآلية أخيرة للحماية”. هل حفر الطفلان والسيدتان في الثلج بحثاً عن مدفن دافئ؟ يتملّكني الرعب من الفكرة الأخيرة. من البحث العبثي عن قبر في الثلج يقي من البرد. وأنا أقرأ أشعر بالبرد يضرب في ظهري. في نخاعي الشوكي. اتذكّر قصيدة للشاعر الأميركي آي. آر آمونز: “أرجو ان أكون مخطئاً/ أين يضرب الصقيع الفراشة: على الظهر بين الجناحين؟”.

(درج)