في سردة طويلة مع صديقي الذي يبعد عني خطوتين في الروح وثمانية عشرة ساعة بالجسد، وخلال الحديث
عبر اتصال فيديو؛ لفتني شكل مطبخه الذي يشبه لدرجة كبيرة شكل وأشياء المطبخ السوري. سألته إن كان قد
اشترى هذه التفاصيل من إحدى المحلات العربية التي انتشرت بشكل كبير في السنوات الست الأخيرة. لكنه
أكّد لي أن كل الأشياء والأدوات هي أسترالية بامتياز. طلبتُ منه أن يأخذني في جولة في مطبخه هذا خاصة
أني على دراية في مهارة صديقي في الطبخ، ومهارته الأكبر في “كركبة” الأماكن التي يتواجد فيها على
العكس من هوسي شبه المرضي في الترتيب.
بعد جولة سريعة، رحنا نعيد رسم تفاصيل مطبخنا الحلبي. وجدنا أشياء مشتركة في بيوت أهالينا وجدّاتنا، بل
كنّا على يقين بأن هذه الأشياء موجودة في كل بيت سوري بل وحتى شرق أوسطي! أشياء لا تنتمي إلى
المطبخ كانتماء المعالق والسكاكين والطناجر. أشياء لا يمكن للإنسان تصوّر أو تخيّل إمكانية استخدام هذه
الأشياء مرة أخرى وبهذه الطريقة الإبداعية. على سبيل المثال، كل أم سورية كانت تحتفظ بعلب وأوعية من
مادة الزجاج والبلاستيك والتنك وتعيد استخدامها مرة أخرى. فعلبة النيدو (حليب نيدو) التي كانت تصنع من
التنك، كانت منزلاً محبباً للسكر والسميد والبرغل الناعم. قناني الكولا الكبيرة كانت كنوزٌ ثمينة تتبادلها
الجارات صباحاً بعد أن يغسلنها ويجففنها ليلاً كي يهدينها في الطقس الصباحي. تلك القناني كانت ثمينة لأنها
ستحمل في رحمها الزيتون والمخلل بأنواعه. بالإضافة إلى دلاء “سطول” اللبن وعلب البسكويت المعدنية
وزجاجات العصير وحتى زجاجات العرق التي كانت دائماً من حصّة جدتي التي كانت تحوّلها كالساحرة إلى
زجاجات شراب التوت والبرتقال والعنب.
ما استوقفني في اتصال الفيديو وفي الجولة الغريبة في المطبخ الأسترالي هو “كيس الأكياس” أو كما أسماه
صديقي “وحش الأكياس” ذاك الكيس البلاستيكي الكبير المعلّق على درفة باب الخزانة السفلية تحت حوض
المغسلة من الداخل، وبالتحديد أمام سلة القمامة. ذاك الكيس مثل دول المهجر، فيه كل أنواع الأكياس
باختلاف أحجامها وألوانها وأنواعها. “وحش الأكياس” ذاك كان يجمع في جوفه كل الأكياس التي تم
استخدامها في نقل الخضار والفواكه وأغراض البقالية ليعود استخدامها في حمل أغراض أخرى لتنتقل بعدها
إلى “وحش أكياس” آخر…
بعد صمتٍ قصير كان أشبه بلحظة تطهير، لحظة صفا، سألنا بعضنا؛ هل أصبح التخزين والاكتناز في
جيناتنا! ها هي مطابخنا مليئة بالأكياس والأوعية الفارغة رغم عدم حاجتنا إليها وعدم قيامنا بذاك السحر
الأبيض الجميل الذي كان يمارسونه أمهاتنا وجدّاتنا!
بالعودة لجذور هذه العادة التي ورثناها، وجدنا أن هذه العلب والزجاجات “الفارغة” هي أدوات للنجاة! وقد
تعود هذه العادة لأيام السفر برلك وأيام المجاعات التي نجا منها جدي مثلاً. مع الحصارات والمجاعات
الممنهجة خلال العقد السالف، تنشطت جيناتنا واستحضرت أدوات النجاة، فرحنا نحتفظ بزجاجات الكولا،
والدلاء، وأي شيء يستطيع أن يخزن في جوفه الماء. في هذا الاكتناز القهري السوري، نحاول النجاة،
وبالتالي ما زلنا نعيش حالة الطوارئ وما زلنا نعتبر أنفسنا، ننظر إلى أنفسنا على أننا “ضحايا” وإن كانت
لدينا الشجاعة الكافية، فإننا نصنّف أنفسنا على أننا “ناجيين/يات” وهذا ما يعزز ويُغذّي غريزة هذا الاكتناز.
في الانتقال لمستوى أعمق من هذا الاكتناز القهري (غير المرضي). عدنا لتفاصيل قمنا باكتنازها لسبب
بسيط، ألا وهي أنها تستحضر البعد الخامس للأشياء. قد نشتري أداة لا فائدة منها، لا تعمل، ولسنا بحاجة لها.
لكن ذاكرة حميمية جميلة عالقة في قاع الذاكرة، تحفّزت بمجرد رؤية هذا الشيء؛ والسبب بسيط، هو أن هذا
الشي كان موجوداً في ذاك الموقف/المشهد. مثل شراء مروحة قديمة مهترئة تشبه مروحة هنديكو التي كانت
تنزل من السقيفة مع نهاية شهر أيار لتدور بشكل أبله تبحث عن شبح غير موجود وتبعث نسمة لطيفة مع
همساتها النشاز! لكن تلك المروحة القديمة لا تحمل القيمة، بل وجودها مع وجود العائلة هي المعنى التي لا
تقدّر بقيمة. غير أن مروحتنا الغربية هذه لا تشبه الهنديكو، ولا تستطيع إستحضار العائلة ولا البطيخ البارد
والفستق الحلبي الأحمر “العاشوري” وبالتالي، هذا الشيء لا يقوم إلا باستحضار الذاكرة، الذكرى والشخص
الغائب…
هل سنبقى نجمع الأشياء بدافع النجاة أم لاستحضار أشخاص وأماكن ولحظات صاروا اليوم في صفحات
الذاكرة المشوّهة. هل ستكون بيوتنا الجديدة بلا هوية، ما هي إلّا مكان لجمع الخردوات والنفايات في محاولة
فاشلة لرسم صورة البيت الأصلي…